(في المطارات نولد والى المطارات نعود) بهذه الكناية الأطارية عن الاغتراب، بوصفه نفياً في اشمل معانيه، وفي نفس الوقت، حركة ً عبثية ً في دائرة ٍ مفرغة ٍ من المعنى، تفتتح (عالية ممدوح) روايتها الموسومة بـ(المحبوبات) لتتداعى مباشرة ً ارساليات الذاكرة الحزينة عبر صوت ٍ من أصوات المنفى الذي يعج بالشتات العراقي، كاهرة جديدة على المجتمع العراقي، بعد ان كان المنفى ظاهرة ً داخلية بحكم جملة ٍ من عوامل القمع والاستلاب الذي مورس ضد الشعب العراقي منذ ازمنة سحيقة.
في (المحبوبات) يقع اختيار (عالية ممدوح) على مغتربةٍ عراقيةٍ تدعى (سهيلة احمد) كشخصية محورية لمرويتها، تدور في فلكها تشكيلة من المنفيات والمنفيين لتقديم تمثيلات السرد عن الواقع المرير الذي يعيشهُ المنفيون في فضاءات ٍ، تختلف كل الاختلاف عن فضاءاتهم الاصلية، لتبدأ سمفونية الاغتراب بعزف الحانها الجنائزية، وتنفتح ابواب جديدة من الجحيم، بوجه كائنات لم تستطع التكيف مع القهر، والوجه البشع للسلطات الغاشمة، ليجد المنفي نفسه بين نارين، نار الوطن التي لا تزال عالقة في القلب والعقل معاً، ونار المنفى التي لا تحملُ برداً وسلاما: فلا يبعث الاحزان مصير مثل العيش في المنفى… فالمنفى لا يقتصر معناه على قضاء سنواتٍ يضرب فيها المرء في الشعاب هائماً على وجههِ، بعيداً عن اسرتهِ وعن الديار التي الفها، بل يعني الى حدٍ ما ان يصبح منبوذاً الى الابد، محروماً على الدوام من الاحساس بأنه في وطنهِ، فهو يعيش في بنيةٍ غريبةٍ، لا يعزيهِ شيئاً عن فقدان الماضي، ولا يقل ما يشعر بهِ من مرارةٍ ازاء الحاضر والمستقبل… وهكذا فأن المنفي يقع في منطقة وسطى، فلا هو يمثل تواؤماً كاملاً مع المكان الجديد، ولا هو تحررُ تام من القديم (1) في هذه ِ (المنطقة البرزخية) بالضبط تقع كبيرة المحبوبات (سهيلة) ومحبوباتها مع عنصر ذكوري يتمثل بابن البطلة (سهيلة) والذي يدعى(نادر آدم ) الذي يشعر بغرابة ِوعدائية هذهِ المنطقة، وهو في طريقهِ لعيادة امهُ (سهيلة) قادماً من كندا الى باريس، حيث سقطت (سهيلة احمد) في احد شوارع (عاصمة النور) اثر اصابتها بجلطةٍ دماغية، وبقيت ملقاة ً كأي غريب بين الحياة والموت، الى ان هتف اللهُ لها بثلاثة شبان سود، نقلوها الى المستشفى، ولا شيء يدل عليها، سوى اسماء بعض المعارف القدامى ودفتر هواتف بأرقام عربية .
في المطار يدفع ( نادر) ضريبة المنفى، اذ يحاصر بنظرات ملؤها الريبة والكراهية، ويجيب باذلالٍ وخنوع على اسئلة موظف استعلامات المطار، كما لو انهُ متهم في قفص الاعتقال… وابتداءً من اجتيازه ِ الامتحان العسير للتعريف بهويته الشخصية تتداعى وتتداخل وتتقاطع مع صوتهِ السردي مختلف الأصوات السردية الأخرى، المنبثقة على شكل منلوجات ورسائل ومشاهد وحوارات، وعلى رأس هذه ِ القائمة السردية بالطبع ، صوت كبيرة المحبوبات (سهيلة)، الذي نتعرف من خلالهِ على هويتها الشخصية، التي تقول بياناتها السردية بأنها ممثلة وراقصةٍ مسرحية، تنحدر من عائلةٍ فنيةٍ، حيث والدها مخرج مسرحي كبير، وعلى النقيض من ثقافتها الاكاديمية وميولها الفنية نعلم بأنها متزوجة من رجل عسكري صارم، تتحشد على صدرهِ الاوسمة والنياشين وتتبعثر على كتفيه نجوم السلطة، حيث تبدأ مأساتها ومأساة بقية (محبوبات الداخل) في فضاء ذكوري عنيف، وارضية صُلبة من الانساق الثقافية التي تمجد السلطة المطلقة للذكر وخطابات العنف المتجذرة في اعماق اللاشعور .
فالزوج السلطوي المرتبط عضوياً وروحياً بأوهام السيادة واخلاقيات الثورات الدموية وانساق القيمومة الذكورية، غالباً ما يستحضر صورة الاسلاف ذات الملامح المتجهمة، وعصف السياط وهي تنهال على اجساد (القوارير) لخروجهن عن نص الطاعة والولاء المطلق، ليوسع (المحبوبة) ضرباً مبرحاً، عندما لا يطبق رؤيتها وهي تؤدي وصلاتها الراقصة على خشبة المسرح، ضرباً ينم عن وحشيةٍ حيث يصل الامر الى فقدان (سهيلة) وعيها. بيد انها ولتمتعها بنظرة واقعية ووعي متقدم ورؤية واضحة للاشياء تعرف جيداً ان وقت المجابهة الحاسمة من خلال العصيان الشامل والتمرد الذي لا تُعرف عواقبهُ لم يحن بعد، وذلك لعدم توافر الشروط الموضوعية او مؤاتاتها فتتبنى مع بقية (المحبوبات) منهجاً اقرب ما يكون الى فلسفة الوجود حسبما يراه (كولن ولسن) والذي يعني: ” تنظيم معرفة الانسان لكيفية العيش تحت ظل اقسى المقاييس واشدها “. فهي تنظر الى الآخر السلطوي نظرة اشفاق ورثاء، لشعورها مع بقية محبوباتها بأن ما يصدر تجاههن، او ما يرتكب بحقهن من تعسف لا يصدر الا عن نفوس ٍ مريضةٍ، يصدر عن جهل ٍ وظلاميةٍ وبربريةٍ جرى توطينها في نفوسهم عبر قرون من التلقين والتثقيف القائم على الاقصاء والاستلاب، والتجذير المتواصل لآليات السلطة البطرياركية، عبر مختلف المدونات الثقافية المتوارثة والاحكام القاسية التي لا تخضع للنقض او التمييز والتي يشرف عليها ويساهم في تنفيذها الذكر بلا منازع: ” انا لم يخرجني الضرب المبرح عن طوعي، اما تلك الكلمات ، الكبرياء، الكرامة، والنحيب حتى ساعة متأخرة من الليل، جميع تلك المفردات لا معنى لها. كان استياؤنا صادراً عن رأفة بهم ليس الا. الشيء المذهل اننا كنسوة نبدو وكأننا صفحنا عن كل شيء، الالم الشديد، الرفسات في القفا والهروات العسكرية… يشعرون بلذة طاغية حيث يشاهدونا نستعد للفرار من امامهم … نتجلد ونهزأ منهم حتى يسأموا ويكفوا ” (الرواية / ص9). ومع هذا التفهم والقدرة الفائقة على التحمل لا بد من عمل شيء فـ(سهيلة) على سبيل المثال، تتشبث بالرقص كمعادل انطولوجي وفي نفس الوقت رداً غير مباشر على ما تعانيه وفق فلسفة الوجود، لخلق حالة من التوازن، واثارة نوع من الحوافز الذاتية لضمان ديمومة دوران عجلة الحياة، وبعبارة اخرى ، البحث عن كينونة ما: ” كنت ارقص كي ارفض من خلاله – الرقص – اموراً شتى ” (الرواية/ ص10). ولأن ممارساتها للرقص لا تقتصر على الرفض فحسب، وانما كمصل مضاد للتفسخ والموت على المستوى الوجودي فهي تقول: ” لكي اخفف من الضجر، تتحرر من داخل جسدي حركات راقصة لا اعرف اين كانت تختبئ… الرقص هو الذي يحير الموت، حتى لو كان سيء الحركات من التي اقوم بها ” (الرواية / ص71). وهكذا، وكما جاء على لسان احدى محبوباتها المدعوة بــ ( الدكتورة وجد ) : ” لقد آمنت بأن الرقص ، يزيد مناعتها تجاه القهر الذي كانت تعانيه ، ويقوي الاختيار ما بين الحياة والفناء ولذلك ادمنته ” ( الرواية / ص78) . لا نذهب بعيداً ان قلنا بأن ثمة تناصاً بشكل من الاشكال ما بين الرقص كموقف واستراتيجية للحياة في هذه ِ الرواية وبين ثيمة الرقص في رواية (زوربا / لنيكوس كاناتزاكي) عبر الرقصة الشهيرة لزوربا اليوناني ومشتقاتها الانطولوجية والفلسفية التي حفلت بها رواية زوربا من خلال موضوعة الرقص التي كانت تشكل بعداً سردياً مهماً في تلك الرواية ، مع الفارق في الدوافع والتوجهات .
والى جانب الرقص، وفي المنفى، ولكي تخفف ( سيهلة) من وطأة الاغتراب ولو بحدوده الدنيا، اخذت على عاتقها اقامة صداقات مع نظيراتها المنفيات ، وهي صداقات فوق العادة ، صداقات اشبه ما تكون بالعلاقات اليوتوبية ، لتجاوزها وبسهولة ، اختلاف ثقافات المحبوبات ، فهناك : ” كارولين السويدية ، وتيساهايدن اليهودية ، ووجد المصرية ، ونرجس اللبنانية ، وبلانش العراقية / المسيحية ، بالاضافة الى العراقيين والعراقيات المختلفين ديموغرافياً ” . من الواضح ان ( عالية ممدوح ) في نصها هذا ، تسعى الى احياء الانسان كقيمة عليا ووجود (بشري كوني ) منفتح وذلك من خلال امكانية تفعيل التسامي فوق الفوارق الاثنية سواء كانت عرقية ام دينية ام مذهبية … الخ ، وذلك انطلاقاً من مقولة اسبقية الاخلاق والعمل الخيرّ على أي بعد ثقافي من شأنه عرقلة التعايش انسانياً وازالة الحدود الفاصلة بين حملة الدم البشري الذي تعود اصوله الى اول ابويين على وجه الخليقة ، وقد وجدت ( ممدوح ) ضالتها في هذه ِ التشكيلة من المحبوبات اللاتي رحن يصلن الليل بالنهار للسهر على راحة محبوبتهن الكبيرة الراقدة في المستشفى ، ومواساة ( الابن الضال ) ، وقبل ذلك مساعدتها واحاطتها بالرعاية بعد ان انقطع حبل الود ما بينها وبين ابنها ( نادر ) الممزق ذاتياً ، خصوصاً بعد زواجه ِ من آسيوية هجينة ، وانجابه ِ لطفل وابتعاده ِ عنها . ولكي لا يقع اللوم كله ُ على ( الابن الضال ) فأن ( سهيلة ) لم تكن بالشخصية المنزهة عن الاخطاء او المتسامحة اللينة الهادئة الطباع فبعد ان فقدت الزوج الذي بقيّ مصيرهُ مجهولاً بين الأسر والقتل ، كانت تسعى وبشتى الدوافع وخصوصاً غريزة الامومة والغيرة الى استعادة وامتلاك ولدها عبر ( اوديبة مضادة ) لتعلقها الشديد به ِ ، ولرؤية ( صورة الرجل ) الذي لا تستطيع الاستغناء عنه – فيه٧ ، ونكتشف ذلك من خلال احدى خطابات المحبوبة ( كارولين ) نقلاً عن لسان سهيلة : ” المرض اقل الاوجاع ايلاماً ، الم تفكري يا عزيزي في الآلام الاخرى والشقاءات التي لا ترى بالعين المجردة ، كأنتظار ضمة من رجل ، ذاك الرجل ، هو ، اياه ، او غيره ” ( الرواية /ص19) . كما انها كانت وتحت ضغط المنفى ونمطية الحياة الاجتماعية للآخر الغربي القائمة على التقنين وثقافة التسليع الذي افقدته حرارة الروح وحيوتها ، تشعر وغيرها من المنفيين بأنهم مجرد طفيليات وخصوصاً فترة اعتياشها على احسان بلدية باريس التي تقدم المؤونة للاجئين والمشردين ومما كان يزيد من شدة ازمتها ، وعيها الحاد بأنها انسانة حرة ومبدعة على الصعيد الثقافي ولا تستحق ما تتعرض له من اهانةٍ واذلال ، لذا فأنها لم تكن تطيع الاوامر وخصوصاً املاءات ولدها قبل ان يفارقها ، فقد كانت شخصية ( مواقعية ً) نزقة لا تستقر على حال ، وكأنها تعيش في متاهة لا تعرف كيفية الخروج منها : ” لا اعرف أي شيء يا نادر . ثمة شخص اخر داخلي يسير ، ويتنفس ، ويدخل الحمام يغتسل وينام ، لكنهُ لا ينام . انني ألاحق نفسي ، اود لقاءها مجدداً لكني لا استطيع ، لا احتمل فكرة انني فقدتها الى الابد ، سأبقى بانتظارها يا نادر ، هل تفهمني ؟ لا تغضب مني ان كان ليس بمقدوري ان اسعدك او اريح نفسي ومن حولي . هل تعرف ، اشعر بأنني لست على حق ولا على باطل ، لست خائفة ولا غير مبالية ، وان قواي الاولى ، تلك التي كانت لي في العراق ذهبت من دون رجعة ” (الرواية / ص72) . الامر الذي يجعلها تميلُ الى الانطلاق وعدم التقييد السيمتري باصول اللياقة الاجتماعية في حركة انتقامية من وضعها الراهن ومن ذاك الارث القديم بصوره ِ، البطولية الزائفة ومظاهر الفحولة الزائفة هي الاخرى والتي اكتشفتها في صورة الفحل العسكري وهو يدور حولها لاثبات رجولته ، لكنه يخفق في مسعاه على الرغم من كل الاغراءات التي كانت تقدمها اليه ، بيد انه يفشل ويحملها فشله ، لتنتهي المهزلة بأهانتها وجلدها . وتبدو الاشارة هنا واضحة للتدليل على خواء وهشاشة السلطة الحاكمة انذاك ، والتي يمكن تحديدها بفترة حكم الدكتاتور المخلوع ، من خلال الاشارات والاخبارات المقتضبة التي كانت تزودنا بها الخطابات المتراكبة للمحبوبات كالحملات العسكرية الاميريكية ضد العراق ومظاهر الحصار وممارسات التنكيل التي كانت تقوم بها السلطة الفاشية ضد الشعب العراقي بدون تمييز حيث تبدو اثار تلك الحقبة المريرة واضحة على البنية النفسية لسهيلة في المنفى الذي لا يقل مرارة كما اسلفنا على الرغم من الشعور بالامان النسبي : ” لا افهم ما يدور من حولي ، .. كأنني بلا ذاكرة ، بلا آباء ، بلا اسلاف ، بلا تاريخ ، كأنني لم احيا من قبل ” ( الرواية / ص130) . حتى ان الحرية لا طعم لها ، حرية فائضة عن الحاجة : ” ارعبتني الحرية التي لا اعرف ماذا افعل بها .. كم تأخرت٧ الحرية ” ( الرواية / ص244) . هنا لا تعدو الحرية ان تكون سوى ( مفهوم مجرد ) وذلك لعدم وجود الدافع الفعلي والضروري لممارساتها ، حرية فات اوانها ، بعبارة اخرى حرية كالعدم ، .. فالمنفي لا يشعر بأنه ند للأخر الاصلاني بل مجرد رعية من الرعايا ، غرباء القت بهم ( سفن الضياع ) على شواطئ معادية . وتشتد وطأة المنفى ، عندما يكون المنفي مثقفاً ذي حساسية عالية ، وشخصيات الرواية بمجملها شخصيات مثقفة بالمعنى العام والخاص ، ابتداءً من كبيرة المحبوبات سهيلة الراقصة المسرحية مروراً بولدها نادر (المهندس الالكتروني) ونرجس المناضلة اليسارية وزوجها ( حاتم ) الكاتب التراثي وغيرهم . ولأن درجة الحساسية او التحسس بشكل ادق ، ، تختلف من شخص لآخر ، فأن ( سهيلة ) تمتلك قدراً من التحسس والانفعال لا يمكناها من التكيف والتطبع وقبول الامر على عواهنه ، فتجنح نحو ممارسات اشبة ما تكون بالمازوخية (المادية والمعنوية ) على حد سواء ، وذلك من خلال ادمانها التدخين ومعاقرة الخمرة بشراهةٍ وتضمين خطاباتها لغة لاذعة ضد اقرب الناس اليها دون مراعاة لما يكنونه اليها من محبة وما يقدمونه من رعاية ، بالاضافة الى عزلاتها المفاجئة ، ورمي نفسها في علاقات عاطفية ، تعرف هي سلفاً ان لا طائل من ورائها ، مثل علاقتها بالراقص ( فاو ) الذي كان يشاركها رقصاتها المسرحية على خشبة ( مسرح المنفى ) .
هكذا يبدو ، ان ما كانت تقوم به ( سهيلة ) هو جزء من استراتيجيتها في الحياة ، بوصفها كائناً مثقفاً منفياً ، وهي الفكرة / الستراتيجية التي ادهشت المفكر الكبير ( ادورد سعيد ) حيث يذكر : ” ان المثقف بأعتباره منفياً ، يميل الى الاحساس بأن فكرة الشقاء تسعده ُ ، حتى ان الاستياء الذي يكاد يشبه ( عسر الهضم ) قد يصبح لوناً من الوان سوء الطبع او انحراف المزاج الذي يتحول الى اسلوب في التفكير ، بل ايضاً مأوى جديد لهُ وان كان مؤقتاً ” (2) . ولكن فكرة الشقاء هذه غالبا ما تصاحبها مماحكات ، تتبادلها سهيلة مع محبوباتها ، على سبيل المزاح والسخرية وفق مقول ( شر البلية ما يضُحك ) وضمن الاستراتيجية التي انتجتها ( سهيلة ) كأسلوب جديد في الحياة ، كون المثقف الذي يعيش في المنفى نزاع بالضرورة الى السخرية والشك ، بل والى الهزل – المرح – ولكنه لا يستخف بشيء ولا يميل الى اللامبالاة ” (3) . ولا تبتعد فكرة ( ادوارد سعيد ) عن الشقاء ، بوصفه اسلوباً في التفكير عن توصيف ( كولن ولسن ) للامنتمي اذ يقول : ( هو الرجل الذي لا يكف عن الملاحظة والتجربة حتى اذا كان ذلك يعني تجربة الموت
قراءة
حسن السلمان
ولديمومة فكرة الشقاء وتعميمها، تحجب (عالية ممدوح) النتيجة النهائية لحالة سهيلة الصحية، مكتفية بتكهنات الاطباء بالشفاء التام او النسبي للابقاء على حالة التأزم الدرامي، وتبادر الى الانتقال الى فصول اخرى، تاركة (محبوبتها في حالة غير مستقرة كدلالة على الحياة المتأرجحة بين منفيين احدهما امرّ من الآخر، وعلى الرغم من كل العمليات التجميلية التي يقوم بها المنفيون لجعل وجه المنفي يبدو مقبولاً الا ان ذلك محض خيال، فالمنفى هو المنفى : وعي مقابل وعي، وثقافة مقابل ثقافة، وتقاليد مقابل تقاليد، حتى ان مفترض (عالية ممدوح) لاقامة نواة للتعايش الانساني عبر اقامة نوع من الصداقات يخلو من اية (بثور ايديولوجية) سرعان ما يتلاشى دون ان تشعر (الكاتبة) بذلك على ما يبدو، وهو ما اوقعها في فخ التناقض (نصياً) حيث يتجلى ذلك في مشهد ظهور المحبوبة (تيسا هايدن) اليهودية والكاتبة المسرحية الذي ارتأت الكاتبة تقديمه بشكل استثنائي وذلك بأحاطتهِ بنوع من الهالات الوصفية الكارزمية التي توحي بأن هذه الشخصية تمتلك من الصفات والخصائص ما يجعلها تستحق هذا النوع من التقديم الفتان والمدهش، علماً بأن مناسبة ظهور هذه المحبوبة (جدا ً) لا تخصها شخصيا ً، فقد كانت عضو شرف في لجنة تقييم اطروحة (ليال – وهي عشيقة نادر سابقاً) لنيل شهادة الدكتوراه، ويبدأ المشهد بأشارة من (كارولين) لسهيلة: ” ها هي انها قادمة تلك، تسير كأنها تمشي على شعاع من ضوء.. لا تنظري اليها مباشرة بعينيك الكبريتين اخفضيهما حتى تمر ” (الرواية / ص217) . ويستمر التصعيد الكارزمي المشهدي بأضافات سهيلة التي تقول معقبة : ” لا عمر لها، منحوتة من الشرق، كلا، فو شرقية شديدة النقاوة .. اينما تلفتت اتصور انها تشعل وتنطفئ .. لديها سحر وسلطة وامانة الحكيم .. لو شاهدتها امي لبسملت وقرأت عليها آية القرآن الكريم ” (الرواية / ص217 – 218). والى جانب هذا الوصف الاسطوري، تربط سهيلة، ابتسامة (تيسا) بـ (المحرقة اليهودية) وتماهي بين الجذر التراجيدي للشعب العراقي وبين (شعب تيسا) اذ تقول : ” تكمن شهرتها في بسمتها، وابتسامتها غير محسومة.. كأنها تتذكر الابتسامات، تتذكر المرة الاولى التي ابتسمت فيها بعد (المحرقة والاهوال).. انتظر.. اتعجب كيف تنظر هي ألي ونتعارف نحن بنات تلك (المجازر والويلات) التي ادمتنا ” (الرواية / ص213) : من المعروف ان (هيغل) يصنف التراجيديا الى اكثر من مستوى، ومن اهم تلك المستويات، التراجيديا ذات المنشأ الميتافيزيقي او الغامض، والتراجيديا الناجمة عن الخطأ الشخصي بمعناه الضيق الذي سننحرف عنه وفقاً لضرورات بحثنا ونعتبره شاملا ً دون ان نخرج عن المفهوم الخاص للخطأ الشخصي الذي يعني فقدان شخص ما لثروته او مغامرة فاشلة تكلفه وضعهُ الطبيعي وترميه في براثن التراجيديا. فلو عقدنا مقارنة بين تراجيديا الشعب العراقي وتراجيديا الشعب اليهودي التي لم تعد قائمة الآن لما وجدنا أي صلة ترابط بينهما، فتراجيديا الشعب العراقي هي تراجيديا غامضة بلا منازع كون الشعب العراقي لم يرتكب خطأ ً شخصياً واضحا ً ومحددا ً ليرزح قرونا ً تحت القهر والاستبداد، ابتداءً من الحكام الآلهة الاسطوريين مثل جلجامش وطغيانه، وامتيازاته الشهوانية كحق الليلة الاولى في عذراوات اوروك العرائس، مروراً بالاكاسرة والاباطرة، وامراء المؤمنين بوصفهم ظلال الله على الارض، ومن ثم الاقوام الهمجية من مغول وتتار، وكذلك سلاطين وكولنياليين صليبين، واصلانيين مستبدين، حتى لحظتنا الراهنة التي يتكالب عليها جرذان الصحراء) ومرتزقة ما وراء البحار جنباً الى جنب مع التكفيريين والرعاع في ظل هجين سياسي، لا نعرف اين سترسو بنا مراكبه ذات الاشرعة المختلفة. هذه ِ هي مأساة الشعب العراقي وذاكرته الحزينة، هذا الشعب المعذب والذي ليس هو الوحيد من شعوب العالم التي تتضمن بنيته الاجتماعية الرذيلة الى جانب الفضيلة، وليس هو الشعب الوحيد الذي حادت بعض شرائحه عن طريق الصواب، بل ان النفس البشرية ذاتها وكما جاء في كلام الله، تحمل من الفجور بقدر ما تحمل من التقوى الا ان مأساة الشعب العراقي سارية المفعول حتى الان بينما تراجيديا الشعب اليهودي والتي كما قلنا لم يعد لها وجود فقد كان منشأها مبنيا ً على الخطأ الشخصي بمعناه العام والذي تعود جذوره الى ازمنة الوحي عبر خذلانه لنبيه موسى (ع) لاكثر من مرة كقصة ردتهم الى الوثنية وعبادتهم للعجل بعد ايمانهم في وقت كان موسى يتلقى التعاليم من عند ربه ومن ثم مطالبتهم بالقتال وحده وهم قاعدون اشهر من النار على علم كحجة دامغة على أخطائهم الشخصية، حتى ان (الافران النازية) التي اعدت لهم وفق الرواية الشائعة كانت بسبب التخريب لاقتصاد المانيا الهتلرية وهي في حالة حرب. وهكذا فأن الايحاء بأن الجذر التراجيدي لهذين الشعبين هو نفس الجذر ليس دقيقاً مع اختلاف الظروف والملابسات والبنية الاجتماعية لكلا الشعبين وطبيعة تعامله مع الكوارث سواء وقعت في الوقت البعيد او القريب . وبعيدا ً عن هذه ِ الاشكالية وتفاصيلها يبدو ان (عالية ممدوح) انتبهت الى انها اعطت (تيسا) الكثير الى درجة انها جعلتها (فو شرقية) ولكي تخمد نار الفتنة التأويلية، حرّصت على سرد فاصل استدراكي على لسان محبوبتها الكبيرة، وذلك عندما تساءلت (كارولين) عن وجه (تيسا) الذي اذهل سهيلة التي تقول : ” عبالك طالع من لوحة لم تنجز بعد، لا، طالع من كتاب، من كتب، من الشرق البعيد، وفي افضل الاحوال >من عندنا نحن انها من هناك، من بابل < ” (الرواية / ص218) . (من عندنا / من بابل) هنا نقضت (عالية) كل ما غزلته في البدء لامكانية التعايش انسانياً فوق كل اعتبارات الايديولوجية، حيث تفوقت الانساق الثقافية المتجذرة في اعماق اللاشعور على انساقها وتطلعاتها الراهنة، لنعود الى المربع الاول الذي تتصارع بين جدرانه مختلف الايديولوجيات التي كانت وسوف تكون السبب الرئيسي في اندلاع الحروب والكوارث التي شهدتها البشرية على مر قرون كثيرة كما يشير الى ذلك (صموئيل هنتنغتون) حيث يقول: ” ان اكثر الصراعات انتشاراً واهمية وخطورة لن تكون بين طبقات اجتماعية غنية وفقيرة، او جماعات اخرى محددة على اسس اقتصادية، ولكن بين شعوب العالم تنتمي الى هويات ثقافية مختلفة ” (3). والدليل على ذلك سلسلة الحروب الصليبية التي لا تزال كجمرةٍ تحت الرماد بالامكان تشخيصها عبر زلات اللسان من خلال بعض التصريحات لمفكري وساسة الغرب وعلى اعلى المستويات وتلك الحقيقة لا يمكن نكرانها وكذلك حروب التطهير العرقي / الديني التي حدثت مؤخراً في البوسنة والهرسك واقليم كوسفو والكثير من مناطق العالم التي تعاني صراعا ً من هذه ِ الطبيعة لم تسلط عليه الاضواء، كفاية. ولنا ان نشير مستدركين ماجاء في فقرة (هنتنغتون) بأن العامل الاقتصادي لا يقل شأناً عن بقية العوامل المثيرة للصراع فأزدهار ثقافة ما يعتمد اعتمادا ً كليا ً على ازدهار البنية التحتية في مستواها الاقتصادي، حيث ينشأ الصراع عندما تختل موازيين القوى الأقتصادية نتيجة للتفاوت او الكساد او وفي اتجاه معاكس لتفعيل رأس المال وصولا ً للمرتبة الامبريالية، فتبادر الاطراف الممتلكة للقوة غزو الاطراف الاقل قوة او التي لا تمتلك قوة اصلا ً مدعومة بعوامل اخرى، كما، وعلى سبيل المثال بالارساليات التبشرية في اهدافها المعلنة كتثقيف ديني، وفي اهدافها الخفية لتحصيل نوع من المعرفة بالاخر وتحويلها الى نوع من القوة بغية الغزو الثقافي / الاقتصادي ذي الطابع الامبريالي كما اشار الى ذلك مراراً المفكر الكبير (ادورد سعيد) في كتابه (الاستشراق) و (الثقافة الامبريالية) حيث ينشب الصراع، بتعاضد اكثر من عامل دون الاقتصار على عامل واحد . وعلى هامش سردية المنفى، تدين (عالية ممدوح) سياسات الولايات المتحدة، خصوصا ً جرائمها التاريخية البشعة ضد الشعب الفيتنامي عبر حكاية العم (كن) الفيتنامي – هو أحد معارف المحبوبة سهيلة، وهي حكاية مؤثرة بشعة كما ورد ت في نص الرواية / ص252 . وبالطبع لا تنسى (بؤرة العذاب) الوطن الغالي وما تعرضُ له من مؤامرة كبرى اشتركت فيها مجموعة من الاطراف لتدميره وتشتيت شعبه في مشارق الارض ومغاربها وفقا ً لمصالح كل طرف والضحية كالعادة الفرد العراقي البسيط . هذا الفرد الذي تعرض الى التنكيل والقمع على ايدي النظام الفاشي الى درجة ان باع البعض شرفه ِ تحت ظروف لا يمكن وصفها من اجل العيش بحدودهِ الدنيا حيث لخصت الكاتبة هذهِ الحالة المهينة في رسالة (رباب) وهي من محبوبات الداخل، التي استطاعت النفاذ بجلدها واللجوء الى بلاد الرومان لخدمة عجائزهم المقرفات وبيع نفسها لروماني شاذ من اجل انقاذ ثماني انفس تركتهم تحت رحمة شرذمةٍ من اكلي لحوم البشر .
ولأن حكايات التراجيديا العراقية لا نهاية لها، ولانهُ وعلى حد تعبير (سهيلة) : ” يلزمنا وقت اطول من الابدية لنعرف كيف حدث ما حدث ” (الرواية / ص55) ونضيف من عندما قائلين : ” وما سوف يحدث ” نتوقف عن الرحلة في متن هذه الرواية الكبيرة، ذات الطابع التراسلي، متجاهلين بعض مواطن الخلل لشعورنا بالنوايا الطيبة للكاتبة لاشاعة ثقافة التسامح والتعايش انسانيا ً بلا معرقلات ايديولوجية، ولابتعادها – تأليفيا ً- عن اجترار مواويل السردية العراقية التقليدية القائمة على الافاق الذاتية المحدودة فيما يخص الجانب المفهومي، واعتماد الاشكال التجريبية الشائكة، ذات اللغة البلاغية الاستعارية في الاغلب، نتحول لتأشير اهم تقنيات ومعمار البناء : تنقسم الرواية الى ثلاثة اجزاء تتفاوت في شغلها للمساحة السردية حيث يحتل الجزء الاول وهو اكبر الاجزاء ثلاثة ارباع مساحة الرواية، وهو يتكون من عشرين مقطعا ً كل مقطع يتكون من عدة فقرات واحيانا فقرة واحدة، وهو غير معنونان خلافا ً للجزئين الآخرين اللذين يحتلان ربع المساحة السردية للرواية تقريبا ً وهما معنوان، فالاول يحمل عنوان (يوميات) بينما الثاني عنوانه (مذكرات كندا) ويكاد يكونان فصلين تكميلين عبر صيغة الاسترجاع الخارجي الذي ينطلق عادة قبل نقطة المحكي الاول الذي يمثله الجزء الاول الذي ينطلق هو الآخر من نقطة غير محددة دراميا ً مما جعل النسق الزمني للسرد بشكل عام نسقا ً متقطعا ً عبر جملة من الاسترجاعات التي كانت تقوم على كاهل معظم الشخصيات وفق منظومة متكاملة من المناصات الداخلية التي جاءت على شكل رسائل سردية متبادلة بين المحبوبات من جهة وبين (نادر) من جهة اخرى، الذي يظهر في البداية وكأنهُ يتموقع في مكان السارد الرئيسي / المشارك، الا انهُ سرعان ما يتنحى عن موقعه اغلب الاحيان متيحا ً الفرصة لكي تأخذ بقية الشخصيات دورها في السرد، عبر خطابات مباشرة ومنالوجات منقولة احيانا ً، تتعالق مع مسرودات الشخصية المحورية التي لا تكمن محوريتها في اشغالها اكبر مساحة في السرد، ولا في هيمنة صوتها على بقية الاصوات، بقدر ما جاءت هذه سبقِ المحورية لكونها مركز استقطاب لبقية الاصوات وثيمة الرواية وافكارها وفق تقنية تيار الوعي، وهو ما جعل الزمن السردي، زمنا ً متشظيا ً وبالطبع غير مواكب لزمن الحكاية او متساو ٍ معها نظرا ً لوجود فارق بالتوقيت بين الزمنين .
اما بخصوص الحبكة فلا توجد حبكة رئيسية او مهيمنة كصيغة سردية انما ما هو موجود بالفعل منظومة من الحبكات تتقاطع وتتماهى احيانا ً لتشكيل البنية السردية ذات الطابع الجدلي، تلك البنية التي حفلت بمختلف التقنيات السردية كالتظمين والخلاصات والمشاهد والوقفات، الامر الذي جعل من الصعوبة ولكن ليس بالمستعصي، التمكن من ضبط ايقاع النص ان كان سريعا ً او بطيئا ً او متوسطا ً، فهو كل ذلك وحسب طبيعة الوحدة السردية حيث يجوز لنا ان نصف الاسلوب المستخدم في هذه ِ الرواية بالاسلوب الدرامي الذي يستند اساساً على المفارقة الزمنية واختلاف وجهات النظر وطغيان النبرة الوجدانية، بالاضافة الى تفتيت البؤرة المركزية للسرد الى شذرات، او كانتونات سردية – ان جاز التعبير – وذلك عبر لغة كنائية متماسكة تميل بالضرورة الى الاستطراد احيانا ً والى الاختزال احيانا ً اخرى بيد ان الصفة الغالبة هي الاعتدال مع شيء من الميل الى الاستفاضة نظراً لكثرة الخطوط السردية المنتجةِ للمفاهيم والافكار وعرض الوقائع والاحداث المختلفة ولوفرة الرواة وحظوظهم شبه المتساوية في السرد ويتضح ان استخدام (عالية ممدوح) لهذا البناء المتداعي (تقنيا ً) جاء ملزما ً لتحقيق نوع من الاتساق مع اطروحاتها عن المنفى وارهاصاتهِ المدمرة على الصعيد النفسي، وما يفرزه من اضطراب ومتاهات وتشظٍ، عبر الوقوف فوق ارضيةٍ زئبقيةٍ لا تسمح بتشييد أي معنى حقيقي او استحقاق وجودي، جدير بأن يعاش ومن خلال ذاكرة ٍ تتسم (بفرادة البؤس) وتكتنز ميراثا ً كبيرا ً من الويلات.
الهوامش:
* المحبوبات / رواية / عالية ممدوح / دار الساقي / 2003 / ط1 .
1-المثقف والسلطة / ادورد سعيد / ت . د . محمد عناني / رؤية للنشر والتوزيع / 2006 / ص 92/95 .
2- المصدر السابق نفسه / ص113 .
3- صدام الحضارات / صموئيل هنتنغتون /ت. د . مالك عبيد ابو شهيوة – د . محمود محمد خلف / الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والاعلان / 1999 / ط1 / ص14.
تاريخ النشر 14/04/2007