طالب الرفاعي ضد نفسه
عالية ممدوح
1
بغلاف صادم وعنيف للفنان المصري عادل السيوي لكائن غريب وهو يحاول الانقضاض على كائنة ولديها ما يشبه عرف الديك. هما يتواجهان، وليس بالضرورة ان يلتهم أحدهما الآخر. غلاف أي عمل هو قناة تسقي العمل فتظهر الغلة وفيرة أو شحيحة. في الهُنا رواية حديثة للقاص والروائي الكويتي طالب الرفاعي صادرة عن دار الشروق القاهرية في طبعتها الأولى 2014: “صباح كل يوم أدخل غرفتي وأغلق باب قلبي عليّ”. هو، هو طالب الرفاعي المريض بالديسك، فتتنمل ساقه اليسرى، المحبوس
في تلك الغرفة بعد خروجه من مركزه العالي في وزارة الثقافة. يختار الكاتب مرة اخرى ان يكون حاضرا بشخصه الفيزيائي كبطل سلبي أو مضاد، أو كما نقول بالعراقي بطل مخالف ، نرجسي ونافر من حاله لكنه موجود؛ “عمو طالب” في خيال ووجود الآنسة كوثر. هو الأسير في غرفة في طابق أرضي من بناية، وهي أسيرة مذهبها كشيعية داخل توقعاتها في مجتمع تتلاطم فيه المذاهب والتيارات وتتشابك فيه الأسئلة المزعجة وأحيانا المحرمة. كوثر تغرم برجل من مذهب آخر، متزوج وله اطفال. حكاية تقليدية لكنها اليوم تسبب بعض الدوار بسبب الوقائع المدوية في المحاكم أو على الأرض وداخل البيوت العربية: “أنا سجين الُهنا، يبقى باب غرفتي مغلقا طوال اليوم، فلا علاقة لي بما يجري من أعمال واجتماعات ولقاءات في إدارة الهندسة، وبالكاد ألتقي أحيانا زملائي في الإدارة بينما أعبر الممر المؤدي إلى غرفتي، أتبادل معهم التحية”.
2
ُجمد الرفاعي المثقف والمسؤول الثقافي العام كذا. فها هو يتحدث عن تلك المرحلة التي شاركنا فيها، نحن بعض اصحابه يومياته الصعبة. نقرأ المؤلف وهو يحاول تفكيك أوصال المجتمع، وطبقاته حين يصل؛ إن كوثر المختلفة مذهبيا مُجمدة هي الآخرى. احاول شخصيا تجنب ذكر هذا المذهب أو ذاك. لا أتذكر أنني ذكرته يوما في أية مقالة أو رواية أو قصة كتبتها، وليغفر لي الرفاعي عدم ذكره هنا أيضا!!
تقرأ المجتمع الذي صوره الكاتب وهو في حالة من التشنج والجمود، ووجع الظهر والاطراف والديسك الاجتماعي، وصولا إلى باقي اعضاء الجسد والروح عبر حكاية غرام كوثر، الموظفة في أحد البنوك الكبرى بالرجل المختلف مذهبيا. هذا الترابط المدبر والمنضبط هو الذي حدد استراتيجيات الرواية. الرفاعي يلعب في الحيز الذي يجيده؛ غرام مكبوح، وحديقة خلفية بها اعشاب ضارة وما عليه إلا محاولة تنظيفها حتى نرى طينها الحر. كوثر مشاكسة، نزقة وحرة من الداخل فتقرر الانتقال من بيت العائلة الكبير للسكنى وحدها، وهذا أمر حاصل وحقيقي، فلقد تعرفنا على حركة نسوية ديناميكية كويتية ذات حراك لم يتوقف ولو خفف من سرعته، لكنه لم يبهت كما في دول عربية. كوثر احدى حفيدات ذلك الجيل وعبر عملها كمديرة للحسابات الشخصية في البنك، يثير فضولها مشاري الموظف الكبير المختلف مذهبيا عنها: ” بالرغم من كل شيء؛ أنا من أتخذ قرار زواجنا! أنا متأكدة، لو رجع الأمر لك، لسعدت بأن أبقى عشيقتك “.
3
كوثر المغرومة بغرام خارج عن حدود العائلة والمذهب، وطالب الذي استعار من الهُنا التي تعني مفاهيم ومرجعيات في الزمان والمكان لما نشهده اليوم في تجليات مهولة. والد كوثر مثقف متحضر وقارئ متبصر لكن هناك ريبة، فمثل هكذا علاقة قد لا تؤدي إلى زواج، وربما تأخذها إلى النبذ!. هذه شفرة حاول المؤلف عبرها تحليل وتفكيك سياقاتها الاجتماعية على لسان كوثر وهي تدون صوتها وتخلق شكلا للظهور ان جاز القول. ظهور الغواية في مواجهة نظام الملل الزوجي الذي يشل مشاري أيضا. كانا يتبادلان الادوار، طالب الحقيقي يقص علينا اوجاع ظهره واوجاع النفاق والفساد الاجتماعي الفريد في كل انواعه، يوم كان في الأوج، في العافية وحيوية الابداع فيعدد اسماء مجاميعه ورواياته التي قام بتأليفها. وكيف فكر بتأسيس “الملتقى الثقافي” ليكون صالونا ثقافيا في بيتي” وكوثر من طرفها تدون يوميات الشغف في شقة مملوكة لها بانتظار الزفاف الذي وحتى اللحظة الأخيرة لا نعلم حقا ان تم أم لا. كوثر تدير معركتها وهي لا تفرط، لا في المكان ولا في الاختفاء من درامية جميع مشاهد ما يحصل في العالم من حولها وحول الكاتب كاحداث واهتزازات في مقدورها تفجير سطح وقعر عالم يتشكل أمامنا سنتمترا وراء آخر.
**
ليخترع طالب الرفاعي شخصية غير طالب الرفاعي ذاته التي يوظفها بكل هذه القصدية الرفاقية والنرجسية لنفسه. ليتنكر بثانية وثالثة، بأسماء غير منجزة من قبل، ولا يعرفها القارئ، ولا تمتلئ بعالم الرفاعي الذي صار يعرفه القاصي والداني. ليلعب ويحطم ويهدم، وليذهب إلى ما وراء الحدود الخاصة والعامة. ان شروط وأصول اللعب مع الذات، كذات في الأصل غير منجزة في هذا الحيز ذاته تسبب الضجر للنفس فكيف إذا رافقتنا في أكثر من عمل. ففي الأصل التنكر هو سمة الابداع واللبس هو أرضية الكتابة، وأنا اخشى ان يتكئ الرفاعي على ذاته أكثر فلا يستطيع ان يتقلب على الجنب الأيمن، أما الأيسر فهو في الأصل معطوب بسبب الديسك وغيره!!
السبت 15 محرم 1436 هـ – 8 نوفمبر 2014م – العدد 16938