1
«» فقط كنت أتساءل عما إذا كان الحب المتجه إلى شيء واحد ، أو شخص واحد هو ما يناسب البشر . فالفقيه الاندلسي العاشق أدرك قبل غيره أن الطاقة تشع من نجوم بعيدة لتؤالف بين بعض الكائنات في أوقات مخصوصة فلا يستطيع أحد ردها «» .
معجب الزهراني قرر ذات يوم، قال لنا ذلك في باريس ، قال ، وكان على وشك الطيران في الجادات التي ندوسها سويا ؛ ان الرواية آتية ، هي تدور في رأسه وجسده، ندور نحن ، والكاتبة ثايتة ، نرقص جميعا حول الرواية، وقد لا نبلغ الهدف لكننا ، وعلى ذلك النحو، وليس كقاعدة عامة ، قد لا نبلغ المرام فنعود خائبين ، أو مسرورين طلقين فتنبعث منّا رائحة شواء في لحمنا ، بين جلودنا وأضلاعنا . رواية رقص لمعجب الزهراني ، الناقد الجميل ، الأكاديمي الذي يدرس الأدب المقارن والأدب الحديث في المملكة السعودية ، وحين حضر إلى باريس ودرّس في السوربون ، قلنا ، نحن بعض اصحابه : عال ، سوف يفرد أمامنا بعض حيواته الجوانية ما بين الصحراء وآلاف المصائر والوجوه والذاكرات التي كانت تتناسل في دماغه . حين سلمتني الفنانة التشكيلية آمال الزهراني رواية والدها ، قرأت الإهداء ، وابتسمت : أجمل الرقص في الطريق الخ . تعمدت الوقوف وطويلا أمام طريقة الإداء ، أداء العرضة فقد يعترض البعض كما سمعت وقرأت على كلمة رقص اداء الرجال في المملكة أو الخليج عموما ، ولدى القبائل العراقية كافة ، حين نرى بعض أجملها وهم في ثيابهم التقليدية الناصعة البياض ، اما بالسيوف ، أو الخناجر بالأيدي أو بالعصي الصقيلة الخ ، في تلك الحركات التي تبدأ بطيئة ثم تتصاعد فتوة ورجولة ، فتتجسد فرادة حياة بعض الحيوات في آلية وانتظام يأخذ بشغاف القلوب والعقول .
2
رواية رقص ، تصورت الناقد الزهراني وقد أزاح ذاته الناقدة بمرونة سايكولوجية شديدة المكر فانتظم فيه الفنان / الباحث في الفلسفة ، الأديب والروائي الذي هو الآخر يتضاعف عمره وهو يحضّر عدته الروائية ، ربما قد لا يصل إلى الثمالة ، لكنه يقترب منها . أشعر بالحياء الشديد حين أدون بعض الملاحظات عن ناقد / روائي ، كما مع الصديق الروائي والناقد محمد برادة على سبيل الحصر أيضا . فهذه الرواية أتصورها مخطوطة يستضيف الراوي فيها الأصدقاء إلى وليمة شديدة الإثارة لاطايب شتى ما عدا الرقص . الرقص الفيزيائي والايقاعي الحر والمتسارع ، العجول والمتمهل، والذي لا ينتج إلا الحياة . لسان رقص الزهراني في عمله الأول ، هو رقص آخر محايث للتحريم ، وقريب من النشيج المدوي بين ذرات صحراء روحية وجغرافية . لرجال يتناوبون على رواية رقصهم السري ، ودموعهم النبيلة تتغرغر بين الريق والانتحاب البطيء ، بين السجون ، النضال والخسارات وكل واو للعطف تكون ملائمة أيضا . «» حين ترقص المرأة براحة وحرية تنفض عن جسدها تعب حياة ، وعن روحها ضيم قرون . تاريخنا لن يكتبه غيرنا ، وحكايتي جميلة في كتاب ، وإن لم تُسمع وتدون ضمن سياقها لن تكون جملة مفيدة . على هذه الشرفة ، سمعت خبر رقصة لعبت برأسي وقلبي ولساني طوال ربع قرن وقد جاء وقت تدوينها وإن لم افرغ منها هذا العام فمتى ؟ ولو مات صديقي قبل ان يقرأها فلمن أكتب ؟ «»
3
كم ستثرى مكتبتنا العربية لو اصدر أستاذنا الدكتور عبدالله الغذامي روايته التي نقرأها مسلسلة عبر جميع ما يدونه فنتعلم قياس المسؤولية والتواضع الجم ، والعدل ما بين الاجناس . منذ قرأت له وإلى اليوم بنصوص تجعل من المجهولين الهامشيين ومن الجنسين اسيادا غاليين عليه وعلينا في انتاج السر والاحتفاظ به على هذه الطريقة في السرد الفاتن . والدكتور الناقد سعد البازعي ، والناقد محمد العباس و.. ترى ماذا لو يزاح النقد جانبا ويشرّع الناقد عدته وخزانته اللغوية والشعرية فقد نكتشف روائيين خطرين كما هو معجب الزهراني ، صاحب لغة شديدة البهاء والعمق . يقسم هذا العمل إلى صوتين ؛ الصديق القادم من هناك ، والراوي الآتي من هنا وهناك أيضا . كائنان يتبادلان السرد والاسرار ، الاقداح في لسعة الموتى وقرصة الاحياء ، ولا يصلان إلى الجملة الأخيرة . وحين يضجران ، وهذا يحدث ما بين البشر نضجر نحن أيضا من الافعال القليلة ، أو من افعال ضالة . فعل المضارع هو اصعب افعال الكتابة في التدوين فهو يلاحق الحياة في سيولتها الطازجة وللتو . فالماضي نستطيع إعادة توهمه، وبالتالي زخرفته . «» اكتشفت ان ذلك النص المخبأ في مكان آمن داخل تجاويف الرأس ، ربما كان أهم نص يبدعه الشخص، ونحن لا نكتبه لأنه موجود من قبل ، هو كائن آخر مستقل عنا يظل ينتظر تلويحة ، رائحة ، حركة ، كلمة، بسمة ضحكة، نكهة ، آهة ألم أو تنهيدة ارتياح ليكسر القشرة ويطل «» .
4
افكار مضيئة تخطف بصر القارىء، واسماء كتاب وفلاسفة لا تقتحم نسيج العمل،كما لدى بعض الروايات ، على الخصوص لبعض الروائيات، والحكاية تسلم نفسها لحكاية وحكاية فيتداخل الرواة العصاة ، والشخصيات المكروبة مع بعض . ليغفر لي معجب الزهراني وأنا اسميه شهرزاد ذكر فما ان نبدأ مع السيد سعيد حتى نتجول معه بدءا من الهند وصولا إلى فاس . لا يوبخ ، ولا يقاصص، لا يشتم ولا يشمت بمن تسبب في الكثير من تعاساته . بدا احوج ما يكون للشقاء لكي نحصد هذه المخطوطة ، والتي مازلت أصر ، انها انجزت ذاتها عن الراوي الذي درس في السوربون الفلسفة ، وكيف تعلم الفرنسية ، وصار يكتب ويدّرس ويفكر بها ، وباقي الرواة الذين كانوا يحضرون ويغيبون ، ليسوا كديكور أو كمبارس ، هم هوامش العمل وأحيانا متنه ، هم الذين تعاونوا، وأعادوا سعيد الذي كان حاول ان يكون له شيئا من اسمه ، فقد ظل يبحث عن حبه المستحيل لناتالي من خلال الراوي . وهكذا تتواصل الأزمنة والأمكنة ، وباريس في الستينات وانعطافتها الثورية والفكرية بالنسبة للراوي الأول، والراوي الأخير وهو يروي عبر باريس اليوم التي يشغف بها كما نحن ، بالمقاهي والمعارف ، بالعقول والاطباق والنبيذ ، بالنساء ، وبالدرجة الأولى . معجب الزهراني الكاتب والرجل والباحث يقدم النساء في هذا العمل كعقول ثرية ، وابدان حقيقية ، ومشاعر حارقة . نشعر أنه تدرب طويلا على احترام العقل والقلب والثقافة والاختلاف والتعدد ، فكان يلاحق نفسه لكي يعوض هذا وأكثر ، بعنفوان الرقص الذي يتجلى في الغرام ، ويتورط بالجمال فيفرط بالحرية ، بمقامها وحقوقها ..