في الدرجة الصفر من الوطن

عالية ممدوح
1
أظن ان ما يسمى بالوطن ، ليس نظاما غذائيا إذا ما نزعنا الدسم عنه استقام القلب ، قلبك، وإذا تقدم بك العمر واستفحل بك الداء ضربت بجميع تعليمات الأطباء عرض الحائط لكي تستفحل ولوحدك به فتلقي اللوم على نفسك وأنت تفقده بالتدريج وبسرعة خارقة . لا افضل مصطلح الوطن فهو يأخذني حالا إلى ما كان يتناقص وينكمش ، يتملص ويختفي فيغدو بعيدا جدا ولم يعد يخدعني حتى لو كنت أتصور انه اقرب إلى حبل الوريد القادر على خنقي. أفضل مفردة البلد لكي لا أتذكر رجالات الدولة العراقية العتيدة ، العتيقة والجديدة ، المحبوسين ببلوكات الكونكريت المسلح ، والدبابات الأمريكية التي مازالت ولن تبرح البلد بالمعاهدات إياها ، والمسورين بدجلة .
لا يجوز ان تكون نصف وطني أو ربعه ، أو بضع درجات فوق مؤشر وحشته ورهابه . لا أظن أن هناك حبا يجلب النحس مثل الحب من طرف واحد ودائما من طرف الفرد الواحد ، المكسور الذي يتلعثم بحروف اسمه . إن الحب وحده لا يصنع الأوطان، هناك أشياء خارج مفاهيم علوم الاجتماع والنفس والسياسة ، خارج كل المفاهيم ما زالت تباغتني وأنا الاحقها ونحن نتشاجر ونتلذذ سويا ، هو وأنا ؛ إن التنظير للوطن أمر غبي ، وتفكيك أسره وفتنته فوق طاقتي ومعارفي، وإذا ما أٌدخل الوطن في سلطة الكمال نزعنا عن أنفسنا ، نحن البشر صفتنا الإنسانية ، فدائما هناك شيء أفشل في بلوغ سره ، ربما هو العدالة، وربما هناك أمر نتقاسمه سويا نحن أبناء آدم ؛ الضجر منه . أجل بالضبط هو ضجر تشاطرني فيه بقية عناصري واهوائي بدءا من حبل السرة مرورا بالرنين الصوتي ، وليس انتهاء بالدموع والنشيج . هو شيء يتكرر وجوديا لكنه لا يعزي النفس . إننا لم نفلح وإلى اليوم ان تحبنا اوطاننا كما نريد ونشتهي . إجرائيا فشلت وأنا أجري وراءه ، وفشلت أكثر في التعرف على خصائصه وقوانينه . الأجنبية كنت وما زلت هناك في بلدي ، وهنا في فرنسا ، ودائما كنت أظن ان البلد يصلح ان يكون مادة نصية خارقة للعادة ما زلنا نعيش ونقتات على نفقته وتحت وطأته معا . فدائما هناك وقت للانفصال عنه وبذرائع شتى ، ودائما يتم الانتقام باسمه وعليه وبسببه، فما زالت تلك اليافطة التي رفعناها في اعوام الفتوة ، والتي تقول ؛ نموت، نموت ويحيا الوطن مائلة أمام عيني . ترى لماذا يفنى المواطن من أجل الوطن ؟ هل البلد مغرٍ وبجميع ما يخطر على البال من أفعال الافناء ؟ ففعل الغواية به لم يبطل مفعوله من قبل الدول العظمى والكبرى والصغرى وعلى مر التاريخ ، ثم كان يترك ولحفنة مخصوصة من ابنائه لإنجاز الباقي من العمل وبجميع انواع الاسحلة الفتاكة التي ما زالت تقضم لحمه النيىء.

2
قبل عامين قلت لأستاذتي الجميلة كلوديا فونتين وأنا وسط 22 طالبة وطالبا في المعهد التابع لبلدية باريس التابع للحي الخامس عشر حيث أسكن ، وبفرنسية ما زالت وأظن ستبقى مضعضعة وفقيرة :
أغار من صيغتي فعل المستقبل لديكم . المستقبل البسيط، والمستقبل القريب . يا الله ، نحن هناك في بلدي لدينا حرف واحد هو حرف السين ما ان نضعه في أول الفعل حتى ندخل مرتبة المستقبل . حرف ما ان يلمحه المستبد والمتعاون والمحتل حتى يتوقف العمل بهذا الفعل نهائيا.
اطلق الطلبة ضحكة مهذبة . تصوروا الأمر مزحة . كنت اجلس في الصف الأمامي بسبب مرض عيني المزمن فلم تشاهد إلا كلوديا التي بقيت ترقب مخارج الكلمات وعدد الأخطاء التي ارتكبتها والحروف التي بلعتها . شاهدت لمعة الدموع في عيني وأنا احاول امتصاصها بصمت ، وهي تقترب وتربت على كتفي قائلة:
أوه يا .. لا تقلقي . أنت هنا بيننا .. و ..
منذ عقود والغد في بلدي مدقق به ويعيش بمفرده ففقد عفويته . أظن ومنذ الاحتلال الأمريكي تم عزل هذا الفعل عن بقية الشعب ولم يعوض عنه . وما ان نحاول الكتابة عنه وعن مدينتنا بغداد حتى يغص الحلق بالدم والمرارات فتفتح سجلات جميعها ملطخة بالدماء وما زالت تغطي كل شبر من أشبار العراق . فيظهر الفرقاء جميعا؛ بعض مناضلي الشكولاته بالحليب ، اصحاب العمامات الزاهية الألوان ، مليشيات الطبقة السياسية الفاسدة التي بشرت وأسست للتعصب والتزمت والثأرية ، وانتاج القبح فتم ازدراء واحتقار الحياة قبل عيشها . اما الحزب الشيوعي العراقي صاحب التاريخ العريق بعدد الشهداء فقد بدأ مطارحاته الغرامية مع النظام السابق ، واليوم حين هرم واصاب الخرف كوادره عاد للاستيهامات بين حضني المحتل وتوبيخات رجال الدين . بقي بعضنا، أنا واحدة منهم، نختلي ببلدنا خفية ، نحبه ونشتمه سرا وعلانية، وكما يبدو ستظل مدينة بغداد مدينة شديدة الجاذبية والاغواء بالفتك بها . فبعد شهور على الغزو الأمريكي صرح أحد القادة العسكريين وهو يجري التعديلات على خططه الاستراتيجية قائلا:
سندع هذه العاصمة التاريخية كراجا للسيارات.
صحيح هذا القول ودقيق جدا فقد تم الاتفاق وعلى جميع الوقائع التي حصلت . لم ترتكب جرائم أكثر مما ينبغي ، فدائما كان هناك ومنذ الحقب الدموية التي عصفت بالعراق ؛ كان القتل يتفاوت ما بين قطع الرؤوس وفتح الرؤوس وحرق الرؤوس . هي اطباق ما زالت جاهزة تفتح الشهية فيتم التهامها وعلى الريقْ.
***
لماذا نكتب عنها، عن بغداد ومنذ فقدها كلاما زائفا ، فخما ولئيما في حماسته وفجاجته؟ بلاغة الحنين المريض الذي لم يعد قضية حياة أو موت فقط . الحنين الخادع والأكثر تفاهة فتعافه النفس . فيناور بعضنا، أنا واحدة منهم على الافراط في شغف تلك العاصمة التي لا اعرف غيرها ، ولم أعش إلا في كنفها ، فنتصور اننا ننفرد في نوعنا البشري فيما إذا كان غرامنا بها قد تم وعلى الوجه الاكمل . إنني اتحدث وأكتب عني ، عن نفسي الامارة بنافل القول التي تريد حفظ بغداد في سائل منوي طازج لكي تفرًخ من جديد ونحفظها من المحو. أكتب عنها اليوم بنقمة حقيقية ، اردد لنفسي واشتغل على رواية وكتاب ولا اتصيد اغلاطها وحسناتها الموضوعية حتى. هي كانت يدي التي بترت ، وتبغي الذي توقفت عن تدخينه فلم يعد رمادا اضعه في حلقها لكي تخرس ، وبين اهدابها لكي تعمى فلا تراني ولا أراها . ولا يوم كانت بغداد نجاتي من القتل ، أو لديها فائض من المروءة . كلنا نقاط ذلها وشبهتها ، وها نحن نخسر طفولتها والغد ، غدنا بدونها.
– مقاطع من كتاب يعد للطبع –