عالية ممدوح
1
بغتة، توقف النت تماما. قبل هذا دخل أحدهم إلى حسابي الالكتروني فأغلقت ماكروسوفت كل شيء عني. تقول حماية لي من الأعداء والخصوم واللصوص. علي الوصول إلى جميع التصورات وتنوعها فنحن نحمل في بريدنا ارشيفا؛ ما يخصني الكثير من عقود النشر والترجمة، إلى رسائلي الشخصية، اصول الدعوات التي اتلقاها. وضعت لكل هذا وأكثر ملفا منظما بالتواريخ الأقدم التي تصل إلى العام 2000. بجانب هذا رسائل موثقة من الجهات الفرنسية الرسمية؛ مؤسسات الضمان الصحي، ومن السيدة مسؤولة الضمان الصحي التي تتابع ملفي وقضايا سقمي ومشاكلي، وصولات الكهرباء والغاز، الهاتف الأرضي والجوال، وشركة النت التي اتعامل معها، والهاتف والتلفزيون المرتبط بهما. خطابات ذات طابع قانوني تكاد تكون ولوحدها سلالة ولا يجوز في هذه العجالة تبسيطها، على سبيل المثال من شركات التأمين على الشقة، والتدفئة، وصولات البنك الذي اتعامل معه. كل هذا مرتبط بنوع من الرمز والكود الذي يشير عليك أنت ولوحدك، وهو الأثر الباقي منك. أنت مرتبط بعائلة كونية لا تعرفك بكل تفاصيلك، هويتك ومزاجك ووظيفتك الخ، أنت مجرد رمز في شبكة كونية مهولة مدعمة بتلك الحروف والأرقام، وحين شاهدت البعض من تلك الجداول المحيرة في بدء التعامل مع شركة النت مثلا، قرأت رقما طويلا ووسطه بعض الحروف. لا وجود لي الا عبر هذه الرابطة الرمزية، وأي إقفال أو إلغاء أو اختفاء لها سوف اختفي، ولو إلى حين من الوجود الافتراضي. رولى صديقتي الفهيمة في هذه الأمور تسألني ضاحكة: هل تتذكرين اول كود لك في أول شركة تعاملت معها ومنحت لك خط مرور النت. كان ذلك من القرن الماضي. كاترين السويدية الجنية التي تعيش في اوكسفورد تدخل على الخط، تقول وهي تضحك كعادتها حين أكون في مثل هذه الورط: هذه حفلة تنكرية. وأنا اغلي من الغضب.
2
شقتي الكشتبان خلت من الياف النت، المودم عاطل. والبريد مسروق، وابني في كندا يحضر عن طريق السكايب ولكن ليس بدوام كامل لمساعدتي. والشركة تطلب جميع الرموز، وهذه الأخيرة وجميع الرسائل ضمن البريد المنهوب. أعيش انفصاما افتراضيا ولا انكره وما عليّ الا ان اتبع غريزة عدوانيتي الالكترونية لجميع الدوافع المرضية التي تنتظرني، كالذهاب إلى المقهى كما يفعل جميع الناس في هذه الحالة أو بدونها، والعمل من هناك. لم تستهوني يوما هذه المقاهي. فالمقهى حين ادخله مع الأصدقاء ابحث عن فتنة الفراغ التي تدعني اطفو مع صحبة لطيفة وقهوة لذيذة ونقاشات تسمح بالتهريج والطرافة. لكني حملت اللاب توب في طريقي للبحث عن مقهى في الحي الذي اعيش فيه وهو حي ضاج وحيوي، فاكتشف ان احدهم يدفع بي للمقهى التالي ويوصي بذاك الكائن في آخر شارع فيلكس فور، أو ذاك الذي فتح حديثا في ساحة شارل ميشيل.
3
النت امبراطورية وإذا ما انخرطت فيها فما عليك إلا ان تأتمر بأمرها وتخضع إلى احابيل وحيل حاشية شركات تمنحك الاشتراك لمدة اربع وعشرين ساعة بدون توقف وبسعر مقطوع كذا.. لكي تبقى معلقا في هواء العالم. تتمضمض معلومات وهواجس، وظاهريا أنت تعلم، ان العالم عالمهم وبمقدورهم تدمير ارشيفك التالف العادي والمضحك، وهرس كل ارشيف على الأرض، وعلى نحو ملائم. وحين علم سنودن بذلك وتم الامعان في الفضح والتشبث به هبت الأقوام، والرؤساء والقادة يطالبون بالحماية مما لحق بهم من اضرار. الاسم الأصلي لما قدم ويقدم لنا، هو المحو التام لأي وثيقة تخصني، تخصه. لكنْ هناك أمر يخص الذاكرة والنسيان. شخصيا لا اريد تذكر الكثير من الأشياء والاشخاص، العلاقات والوجوه، المدن والمحطات، الأذية والتفاهات. آه، هذه نعمة ويمكن التحايل عليها، لكن لدي ما اريد الاحتفاظ به، سوابق ذاكرتي، أي ذاك الذي نودعه كما في المصارف، حسابات شخصية يقوم المرء بفتحها في احدى السنين ولا يود غلقها، احداث، ومقالات ونصوص. بلد ينكر جميلنا وجمالنا فهذا يساعدنا على الكتابة المغايرة. حضر لرأسي كاليغولا حين صوره التاريخ بمريض (الهذيان الاضطهادي)، اضحك وأنا مأخوذة بهذا المعنى الذي يضمنه إجبار النت على تعريضي لفعل الاضطهاد.
4
في المقهى قائمة بالمعومات / الرموز أيضا، وما عليك إلا تدوينها قبل ان يفتح لك الفضاء، وأيضا يقول لك، للحماية. في سياق حقائق الارهاب، لا أحد لاحظ ارهاب النت آنف الذكر، وهو موجود أو مكبوت في المكانين، الشعور واللاشعور في ذات الوقت، وهذا الأمر لم يدخل في صميم مفاهيم طيب الذكر عالم النفس فرويد. كتبت الاسم والرموز المطلوبة وأنا أنظر إلى جارتي اليافعة، وتلك، وذاك، هي وهو.. غابة مكتظة بالشبان والناضجين ومن الجنسين، الشاشة أمامهم والاسلاك في آذانهم وهم يسمعون الموسيقى. هذه غريزة النت كما هي غريزة الموت، والامتلاك وباقي الغرائز. أمامي الشاشة تقول اوكي هيا.. هيا إلى… ادخلني المقهى في حالة من الاجهاد الشديد واللاتركيز. اكملت قهوتي لكني شعرت ان المرارة في لساني تتضاعف. حسابي الشخصي ما زال مغلقا، وحسنا نفعل ان يكون لنا اكثر من حساب، أكثر من بلد، وفرضيات، واستنتاجات.. الخ.
***
حاولنا أنا ونادرة الديب، صديقتي النادرة والملهمة في الملمات الصعبة والمعقدة والبسيطة ولمرات لا تحصى حتى استجاب الماكروسوفت أخيرا.
سودت معلومات في دفتر خاص وكتبت فيه كم استغرق الأمر من أيام وأسى واحباط، وأنا استعيد المثل الفرنسي الذي يقول:” لحسن حظنا في سوء حظنا”. ترى، كيف ستكون حياتي لو لم يكن النت غير موجود؟ الزمن مدبر لنا هذا البازار الافتراضي، وأنا ألاحق في تقرير مذهل هذه المعلومات التي تقول: 8000 سنة استغرقت البشرية منذ الثورة الزراعية حتى وصلنا إلى الثورة الصناعية. واستغرقت 120 سنة منذ الثورة الصناعية حتى اكتشاف الضوء. و90 سنة منذ اكتشاف الضوء حتى وصول الإنسان إلى القمر. واستغرقت 22 سنة منذ وصول القمر حتى الدخول عالم النت. ومنذ النت إلى اكتشاف سلسلة الجينات استغرقت 9 سنوات. كما يقدر العلماء ان عام 2015 سوف يتم اختراع حاسوب يتفوق على قوة تفكير الجرذ ويعادل ذلك 10 بلايين قوة كومبيوترية.
ويقدر العلماء ان عام 2023 سوف يتم اختراع كومبيوتر يتفوق على قوة عقلية الإنسان، وسوف تصل قوة هذا الكومبيوتر إلى 10 تريليونات قوة كومبيوترية. وفي العام 2045 سوف يتم اختراع كومبيوتر لديه قوة تتفوق على كل عقول البشر اذا اجتمعت سوية، قوة هذا الحاسوب سوف تصل إلى 100 تريليون. يبدو كل هذا مضجرا جدا ورتيبا جدا، وينبغي التثبت انه سيكون في صالحنا وعلينا ان نبادلهم بالمثل، أولئك القوم، أو شيء من هذا القبيل.