عالية ممدوح
هناك كتب لا تستطيع ان تتخلص من وطأة ثقلها وضغطها عليك فهي تعمل على مراقبتك وأنت تقرأها، تتعلم منها، وترفض بعض شخوصها وسلوكهم المشين الذي يتلمظ بالسلطة والطغيان، وبمدرسة الدكتاتور. هذا هو اسم المسرحية الأخاذة التي ألفها الكاتب المسرحي الالماني إيريش كيستنر، وقامت بترجمتها الكاتبة والباحثة والإعلامية العراقية إقبال القزويني ومراجعة الدكتور عطية العقاد. المسرحية صادرة تحت سلسلة ابداعات عالمية يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في دولة الكويت. هي سلسلة مهمة جدا، فكتبت إليهم كي أنضوي تحت لواء المشتركين معها. فقد اصدرت هذه السلسلة ابداعات غاية في السحر في الشعر والنصوص السردية والرواية والعلوم ، لكنهم لم يردوا عليّ. هل لأنني عراقية وثمة طعم في حلوق الكويتيين من المرارة لا أنا ولا غيري بقادرين على التخفيف أو التهوين منها، وهي أصلاً ليست ذنبنا. ثم سألت وقيل لي، كلا، هذا ليس واردا لدى الهيئة المشرفة، ثم أضافوا قائلين: أكتبي مباشرة إلى (….. ). مدرسة الدكتاتور هي مدرسة حقيقية، بها صفوف وساحة للألعاب وأساتذة يعلّمون فنون الدكتاتورية من مصادرها ومنابعها الأولى. وهناك متخرجون اوائل وبين بين وراسبون في إحدى المراحل أو اولئك الذين لم يحالفهم الحظ للدخول إلى أحد الصفوف فبقوا على قائمة الانتظار. وكما يبدو من المسرحية فالدكتاتور لا يملك الوقت الكافي لكي يضبط غدده الخاصة بهذا الجانب من شخصه، وإذن ما على الآخرين إلا تنشيط عمل تلك الغدد فهو لا يحسن العناية بنفسه وغدده كما يجب. لا يعرف كيف يظهر انفكاك عنصري السخرية والاستفزاز في شخصه مثلاً، فما على الأساتذة إلا تدبير ذلك. ترجمة إقبال القزويني كالحرير الناعم الذي يتسلل إلى الاصابع ثم المخ حتى يكاد يغمى علينا من الخوف وبهجة المعرفة. هل هناك مثل هذه المدرسة حقاً؟ نعم، ليس ذلك في الخيال وإنما هي موجودة، وجدت في المانيا وايطاليا. وجدت في جميع العصور، في الملكيات والجمهوريات والامبراطوريات. وجدت في العوائل والأسر، القبائل والعشائر والاحزاب، في المدارس ومؤسسات الدولة حتى ليبدو، ان هذه هي المدرسة الوحيدة المستمرة في التدريس والتحصيل وتخريج الافواج الموجودين على الخصوص فيما حولنا من رؤساء وقادة الخ . يقول المؤلف في المقدمة: «هذه المسرحية يمكن اعتبارها ساخرة ولكنها ليست كذلك. إنها تظهر الإنسان بصورته المشوهة ودون أدنى مبالغة. دكتاتور دموي هزلي يقضى عليه بواسطة انتفاضة شريفة ثم يغتال الثائر ويؤتى بدكتاتور آخر لم يكن بالنسبة للمهيمنين على الحكم بأكثر من عربة قديمة أو حمار طروادة» الدكتور عطية العقاد دّون مقدمة استعرض فيها سلالة المسرح الألماني وتنوع الثمار التي أثقلت بستان هذا البلد العريق بالفلسفة والموسيقى والفكر والشعر والرواية الخ. لقد رفض مؤلف هذه المسرحية الارتباط بحزب سياسي بعينه ليوظف له قلمه وعلى الرغم من ذلك، وربما بسبب ذلك تعرض للاعتقال مرات كثيرة لكنه لم يفكر بالهجرة عن بلده. وكتبه هي أيضاً تعرضت للحرق والمصادرة ففكر بنشرها في الخارج وتحولت روايته ( رجال ثلاثة وسط الجليد ) إلى فيلم فاتن أنتجته شركة متروغولدن ماير. وروايته ( أميل والمخبرون ) وهي خاصة للأطفال، تحولت إلى فيلم أيضا. أنتج وكتب في المسرح والنقد والرواية والشعر. ولد عام 1899 في مدينة درسدن التي دمرها الحلفاء بعد ان توقفت الحرب تماماً، هكذا كاذلال مريع للالمان. وتوفي عام 1974 في مدينة ميونخ. شخصيات المسرحية كالتالي: وزير الحربية، رئيس الوزراء، الطبيب الخاص، البروفيسور، المفتش العسكري، زوجة الرئيس، ابن الرئيس، الرائد ، الحاكم العسكري، ثم نقرأ: الرابع إلى التاسع، هؤلاء الارقام هم الطغاة لكن بلا اسماء، وانما هم يحملون ارقاماً فقط لكي يتم التمايز فيما بينهم فيبدو انهم يتشابهون فعلا، هكذا يفكر صناعهم ومدربوهم، اولئك الذين لا نراهم في أغلب الأحيان يقودون ويعملون من وراء الكواليس، بيدهم – الرئيس – وهذا الأخير قابل أن يكون كما يشاؤون. وحين ننتقل بين فصول هذه المسرحية الخطيرة، أشعر أنني أنتقل ما بين العراق والعراق، ما بين الاستطراد وآليات القمع والمهزلة البشرية التي تجعلنا نعتقد، ان ذلك الجزء من شخصية الدكتاتور يشترك فيه عموم الرؤساء والقادة في العالم، انه موجود في تردي العقل البشري ويجوز القول انه يصيب اغلبية البشر، وان خصلة الطغيان نراها ذات تنويعات في بعض الوالدين والازواج والأخوة والعمات والخالات، فالمرأة تحمل بعض هذه الطباع وطغيانها أشد وأعنف من الرجل في بعض الأحيان. هي صيغة إنسانية موجودة اذا لم نعد لتربية انفسنا واحوالنا وباستمرار دؤوب ومثابرة لحظوية فقد نتحول إلى طغاة ومن النوع الرديء أيضا دون ان نعي أو ندرك كم قتلنا في داخلنا تلك الأجزاء الجميلة ونحن ننتقل من خانة الشخصية الطبيعية إلى تلك الشخصية المريضة والاجرامية. أقرأ واضع خطوطا تحت هذا السطر أو ذاك. لقد احتشدت المسرحية بخطوط تفّوق فيها الحوار والترجمة والمراجعة فالشخصيات تّعبر ببساطة قاتلة، على الخصوص تلك السيدة التي تلقب بزوجة الرئيس، فقد قتل زوجها الحقيقي وتركت وأمام الجماهير زوجة للرابع والخامس انتهاء بالتاسع فهم يبدلون اشكال الرؤساء. يتقنون ذلك بفن ومهارة لا نظير لها. فكرت بالطاغية العراقي، هل تفننوا في عمل بدائله؟ اولئك الفنانون فيما كان يسمى المانيا الشرقية. تقول الزوجة: «هم يقولون اذهبي، فأذهب. ثم يقولون احتقري ذاتك فأفعل ذلك» تعود الزوجة قائلة لابنها: «فعندما لا يكون المرء قوياً ولا شريراً ولا شرساً، حين لا يكون شيئاً فهو لطيف تجري في عروقه الليمونادة» «في هذه البلاد يكذب الإنسان حتى في منامه» «الدولة في كل مكان، إنها تستلقي معنا كشخص ثالث في السرير» يقول الحاكم العسكري: «الولاء موضوع شاسع وحتى الوطنية تضطر المرء احيانا إلى الازدواجية» حين يجلبون الرئيس رقم 7 لكي يتحدث للجماهير ويبدو ان هذا الرقم قد صدق نفسه انه سوف يكون رئيسا، وان بمقدوره الحكم وإصدار القرارات، فيخطب خطبة طنانة وهو لا يدري ان حفنة من الضباط قد قطعوا التسجيل الاذاعي. جميل حين يصدق الرئيس بأنه بالفعل رئيس، يسمع صوته وأمامهم، لكن الصوت لا يصل إلى الجماهير، فماذا كان يريد أن يقول وهو يدري أنه قد غرر به وتم الغدر برفاقه بعدما كذبوا عليه: «ما الذي كنت أريده، وماذا أريد بعد؟ القليل من السعادة للجميع. القليل من الهدوء. ركنا صغيرا من الحرية. هل هذا بطلب كبير؟» يجيب الرائد بعد أن ينتهي كل شيء: «ان ما يسمى بالضمير لهو مصدر إعاقة حساس. فحتى الحظ هو موهبة» .
الخميس 23 جمادى الأولى 1426هـ – 30 يونيو 2005م – العدد 13520
https://www.alriyadh.com/76272