عالية ممدوح
في مطلع الستينات كانت هناك رغبة حارقة في توسيع آفاق الثقافة واكتسابها اذا لم يكن عبر الكتب والمكتبات وهي شحيحة وأحيانا نادرة، فعبر الراديو والتلفزيون الذي بدأ يدخل دولا بعينها، العراق ومصر، ثم السفر، ثم صدور مجلات عدة، دوريات واسبوعيات ذات تخصصات، كالمسرح والطليعة على سبيل المثال في مصر، ودار الآداب المدعومة من قبل بعض المثقفين كعائلة دار (الآداب) بيروت. ثم وصلت الاحزاب القومية إلى كل من سوريا والعراق وبدأت تلك التي تسمى بالثقافة الشعبية، أو الجماهيرية والتي قلبت موازين الاولويات وسلم الميول. لقد دخلت في نصوص التعليم والتربية وعرجت إلى كتابات المثقفين وبدأت ما اسميه بغسل اللسان والقلب والمخ باسم الجماهير، أظن، تلك كانت بداية انهيار التعليم الذي كان يدرب جميع الحواس على الشهوة للموت في سبيل القائد، اما الوطن فقد كان هو أيضا يموت من أجل القائد. تلك الاحزاب القومية حضرت في كل من سوريا والعراق، خرّجت اجيالا ممن يطلق عليهم اصحاب الشوارب البغيضة والرقاب الغليظة والنفوس النتنة. لكنهم كانوا يطلقون على انفسهم لقب الانسانيين، ولو أعطيت فرصة تاريخية للأحزاب الشيوعية في كلا البلدين لتوصلنا إلى هذا نفسه، بل أكثر، فالإنسانية ومستقبلها كانت المقولة المحببة لستالين. من الجائز أن تكون صور وقسمات وشوارب وملابس الشيوعيين أقوى وأعنف بصورة منهجية وتراكمية نتيجة الثقل التاريخي لنضالات الاحزاب الماركسية. كان يقال عن الحزب الشيوعي العراقي على سبيل المثال، انه حزب يخّرج شهداء، لا كوادر سياسية قادرة على استلام السلطة، فقد تم تخريج الكوادر الشعبية ذات الثقافة والثياب الجماهيرية، (ثياب الزعيم ماو) رغم العداوة الايديولوجية فيما بين الاثنين. لكن ثياب ماو كانت ولا زالت في بعض الاحزاب تصور انها ذروة النضال الجماهيري (من اجل الإنسانية). تحضرني الآن مقولة ذات دلالات كنت قرأتها في أحد الحوارات مع كادر شيوعي مرتد، لا أذكر اسمه، لكنه على ما أتذكر كان من إحدى الدول الاشتراكية سابقا ، تقول : كل ستاليني كان ضد ستالين. فهل كان كل شيوعي ضد الشيوعية؟ أو ضد لينين؟ وهل كان كل بعثي ضد حزب البعث وضد ميشيل عفلق؟ يطلقون على تلك المراحل التي جرت وأودت بحياة الالوف من القتلى والشهداء والمخطوفين والمعاقين والخسرانين الخ بالفكر الجماهيري الفاضل النزيه الذي كان مبنيا على إرث القائد (اليوم كل واحد هو قائد) يستطيع ان يبرمج ويكون القائد الأعلى، الاول والاخير. كانت هناك تلك التبعية للجماهير في اطار العمل السياسي والثقافي والاجتماعي. كانت لفظة جماهير تلاحق الجميع مرة كذنب واكثر الاحيان كلعنة، كوادر الاحزاب القومية والماركسية والقادة التاريخين ، وكان القائد، أي قائد يحيي الجماهير بتهيج يصل حدود النشوة الجنسية، أو الاغراء بالإثم فيما اذا قلت أو نقصت الفولتية عما مخصص لها من التهاب العواطف. سمح للجماهير أن تطارد القائد الضرورة، أو القائد العصابي بالهتاف المتشنج ، سمح لها ان تطارده وفق تقاليد جماهيرية صارمة تكرست بآليات ومتع وكأن احدا يديرها من الخارج، فسمح مقابل ذلك للقائد بمطاردة الجماهير بصورة اجرامية عند الاقتضاء. كان يستبعد الوصول إلى المواجهة لذلك لم نقرأ طوال عقدي الثمانينات والتسعينيات اعمالا مبهرة بارزة ابداعيا وذات اختراق مميز، الا بعض الكتابات في العراق على سبيل المثال فانا أتحدث عن بلدي، والأمر في حاجة إلى توثيق وفحص ومراجعات طويلة أحاول العمل عليها في الوقت الحاضر. التبعية للجماهير كانت تنافس التبعية للحزب الحاكم وكانت هناك صراعات غير مرئية بين الاثنتين. فكلاهما يعملان من اجل مصلحة (الوطن) لكن لا أحد يعرف من هو الاخلص له، الجماهير، ام الحزب، ام القائد الضرورة؟ فالنشاط الحزبي الذي يمثله هو كالذروة، ففي داخل الحزب كان ينظر إلى الجماهير على أنها مجموعة من الرعاع لا يجوز ان يجر أو ينسحب إلى حماسهم واندفاعهم الرث. والجماهير كانت تشخص بعض آليات الحزب بأنه متعال ومغرور ولا يعرف أو لا يريد مصلحة الجماهير. سوء فهم كان يتفاقم بين الجماهير والحزب، ثم تكرس وغدا تاريخيا حين كان الحزب يصم بعض الفئات من الجماهير بالخائنة الآثمة التي تستحق اللعنة والقتل. هذا كان أحد انواع السياسة عندنا، فالعراقي مسيس حتى وهو يتغوط يقوم ويحاول تفسير ما يقوم به سياسيا وليس بيولوجيا. لقد أصيبت السياسة بمعناها الواسع وحتى النفعي بانتكاسات مروعة واضرار بليغة فلم ينفع ذلك التضامن الهش والمزور ما بين الجماهير والحزب القائد، فقد بدأت الصراعات بين هذا الثلاثي تسجل أعلى المراحل في الافتراق والاختراق والشقاق ثم الفراق ثم التصفيات. القائد بمقدوره الدفاع عن الجماهير من خارج الحزب فكان يورّم الحزب ويضعّف الجماهير من داخل الاجتماعات الحزبية العمياء والصماء. كان هناك شيء لا يرى بالعين، غائب مفقود (الحالة الوطنية) هذا ما كان يتضح يوما بعد يوم وعاما بعد عام، افلاسات في الفكر والممارسات والتطبيقات الخ. وهذا ما بدأنا نرى نتائجه تسيل كالحمم البركانية منذ الاحتلال حتى اليوم. الطائفية هي القائد، العشيرة والقبيلة بدل الجماهيرية. الاحزاب ذات الانكفاء التنظيمي والجماهيري المرتد على نفسه وعلى الافراد. الاحزاب الشيوعية على الخصوص والتي كما يبدو مطلوب منها ان تكون احزابا لا غنى لأحد عنها، نوستالجيا اشبه بالفوبيا، وإذن، فما عليها الا واجب ان تكون احزابا لا جدوى منها. أناس ضروريون لأنفسهم بالدرجة الأولى ومستبعدون من قبل – الجماهير – ترى، أية جماهير؟ السياسة في العراق علم حديث حتى ليبدو السياسي شخصا مرضوضا بانفجار اجرائي يتكرر بعبادة الذات وجنون العظمة ومعارضة كل من يخالفه ومن جميع التيارات. السياسة علم حديث به يجدد السياسي العبادة لشخصه المقدس لا لمقدسات ما كان يسمى بالوطن، وهي عبارة صارت تسبب اعصارات من رثاء وضحك اسود. السياسة علم حديث لا نعرف اصوله ولا تقاطعاته ولا نريد ان نتعلمه من منابعه أو أصوله وعلوم المعرفة في جميع مفارق الحياة العادية وليست المعقدة وذاك الذي يطلقون عليه – الجماهير. الثلاثة في حالة انكفاء مريع. رجال السياسة لا يقرأون ملخصات التقارير التي ترفع إليهم من صحافة الفريق الآخر حتى. يعوزهم الوقت كعنصر درامي مأساوي، فالوقت العراقي ناتج ابطل مفعوله فاذا لم يقطعك فما عليك الا ان تقطعه عليهم، جميعهم، وكلهم، أولئك الذين يعيشون في الضفة الثانية من القلب العراقي المكلوم. الجماهير في طريقها للانقراض اما البلد فهو كما تتوضح الصور ساعة بعد ساعة يعيش الابناء كراهية الاباء ويتمنى الاباء موت الابناء.
الخميس 10 رمضان 1426هـ – 13 أكتوبر 2005م – العدد 13625
https://www.alriyadh.com/100334