عالية ممدوح
1
“” أتحدى أي شخص أن يذكر لي فضيلة مصرية واحدة ؟ الابتذال من خصائصنا الأصلية . نحن نتاج مشوش فاسد لاختلاط جنود الفاتحين بالسبايا من الرعاية المهزومة . المصري من طول عهده بالذل قد ألفه واستكان إليه واكتسب مع الوقت نفسية الخادم ، فينحني أمامك ما دمت الأقوى يبتسم في وجهك ويداهنك وفي الوقت ذاته يمقتك ويسعى إلى القضاء عليك بطريقة خفية مأمونة لا تكلفه مواجهة ولا خطورة ، مجرد خادم “” . طوال صفحات كثيرة من كتاب المصري علاء الأسواني { نيران صديقة } الطبعة العربية الثالثة والصادر عن دار ميريت ، فوق العنوان الكبير كتب قصص وفي أعلى الغلاف وبالأحمر الناري كتب : تجليات أدبية ، نعثر على مثل هذه النعوت وعلى هذا النحو الصافي ، لا لبْس به ولا رجوع عنه . فالمؤلف كما يبدو كرس زمنه لرصد هذه التجليات يوما بيوم ، وعاما بعد عام وعقدا بعد عقد . هو كما أظن خمسيني يسبح في حوض الشهرة شديدة الإغواء ، وهذه تغفر وربما تجيز له ما توقْف غيره وتطارده الخ . الدكتور الأسواني شتام بطريقة حرفية وعلينا استخلاص المعادلات العلمية من خلال نظريات مهنته كطبيب أسنان . تصورته على طول السطور قام بقطع التيار الكهربائي ورفع المخدر وهو يقوم أمامنا باقتلاع أسنان الذين يلوذون به ، وأعني بهم ، شخصيات كتابه هذا .
2
أقرأ وأحدث نفسي : كلا ، هذا ليس سوء فهم ، هي نوعية من كتابة مدبرة كالنميمة وهو ، الكاتب ، كالحكواتي في مقهى شعبي من أحياء مصر القديمة ، حتى لم افطن أو أتذكر الحواديت المصرية التي تناولها ، فهو لم يسع وراء صيد عزيز عليه وإنما لتقوية عضلات الهجوم في جولاته الانتقامية :
هل أنت مصري ؟
نعم للأسف ..
أمر غريب أن تشعر بالأسف ..
أنت تحبين مصر تماما كما تحبين عرضا طريفا في السيرك ، أو حيوانا نادرا في حديقة الحيوان . لكن صدقيني ، أن تولدي مصرية فهذه مأساة “”.
كأن هناك سرا مقدسا لا يعرفه إلا هذا المؤلف بالذات ، سر هذه العناصر المكونة من ؛ الخادم ، الذليل والمبتذل فتعطي خلطة تدعى : المصري . يدًون الأسواني هذا الكتاب وهو يورث غليونه مطلقا شرارة الانطلاق ، المصري هكذا منذ ألوف الأعوام فيدخل في الفجائعية الفولكلورية : “” أكدت لها أن مصر بلد ميت ، والعبيد لا يفهمون إلا لغة العصا “” . مؤكد الكاتب يلتفت للمظالم والفساد والجوع والفقر الخ الذي يواجهه هذا الشعب ، لكن ليس بالتأمل ، بالقياس ، بالتحري بالفحص بالفكاهة والطرفة مثلا ، أو بالحس النقدي الذي يتفهم البؤس البشري ومصر واحدة من واجهاتها كما غيرها من بعض البلدان العربية والعالمية .
3
لم أقرأ لكاتب عربي أو أجنبي كلاما بهذا الغل والضغينة مثل الأسواني ، وإذا خفت قليلا كان يعيد حقنهما مجددا :
من هو شعبان .. . بقال متدين ، يغش الزبائن ويغالطهم ويصلي الوقت بوقتيه .. دنيء وغبي ومتطفل وحاقد كأي مصري “” . كنت أتصور أن مخزون الأسواني نفد ولم يعد أمامه وقت كثير إلا أن يطلق هذه النيران من باب الرحمة والرأفة لكنها تراجعت بفعل التشفي ودقة تصويب الشماتة فتحولت إلى روتين ممل من كتابة الخطب . نكتب بمناسبة صدور الكتاب باللغة الانكليزية فنتذكر الكاتب الأمريكي ذائع الصيت هنري ميللر. بقي كاتبا بركانيا ، ملعونا ، ساخرا ومنددا بأمريكا ومنظومة قيمها السياسية والثقافية والاجتماعية فغادرها واصفا إياها بشتى أنواع الانحطاط والسفاهة والفظاعات باعتباره صاحب رؤية فذة وأسلوب هذياني مبهر ومؤلف يلتمس الأعذار لشخصيات كتبه ولا يخجل من أغلاطهم وانحرافهم فلا يتسمم القارىء بنوع فذ من الغطرسة والتعالي كتلك التي يتمتع بها الدكتور الأسواني. الغرب يفضل هذا النوع من الكتابات التبسيطية والاختزالية ذات اللوحات السياحية بما يسمى بظاهرة الأسواني فهي ذاتها التي اشتغل عليها في عناوين كتبه السابقة فنالت التصفيق والصيت والترجمة وقطفت الجوائز وشكلت رواجا تتسع مبيعاته على مر الشهور ، وكأن هذا الغرب يشاركه في وليمة التذوق والتمتع بموت مصر .
“” لا يمكن أن يكون لديك جمهور جاهز الصنع ، مثل كثير مما لدى مؤلفي أفضل المبيعات . إنهم يعرفون من يكتبون لهم . إنهم عُرابو أذواق ذلك الجمهور ، ذلك يحرّف الكتابة من غموضها وأهميتها وأخيرا من خيالها . يجب أن تكون جاهلا ، بشكل ما ، للقارىء ، إذا ما أردت أن تكتب كتابا جيدا . يجب أن تخلق قراء ، لا أن تقدم لهم فقط ما يريدون ، ذلك فرق كبير “” .
الخميس 12 جمادي الأولى 1430هـ – 7 مايو 2009م – العدد 14927
https://www.alriyadh.com/427423