عالية ممدوح في ( التشـّهي) العالم.. شهوة واحدة – صادق الطريحي

يشكل الجنس في المجتمع الشرقي أحد المحرمات التي لا يمكن الحديث عنها ، رغم أنه يشكل الجذر الأساس لتغيرات السلطة ولدراما الحروب في المنطقة.
وعلى الرغم من أن الأدب العربي والمجتمع الاسلامي ، قد سمحا بتناول الجنس جماليا ، وبخاصة في القرن الرابع الهجري ، إلاّ أن الذائقة السياسية للسلطة لم تسمح بذلك اليوم. من أجل ذلك تمثل هذه الرواية حدثا خطيرا يدخل في سجل الأدب العربي ، مع عشرات وربما مئات الأعمال الممنوعة من التداول العلني.

على مدى 270 صفحة تستمر رواية (التشهي) لا لتنتهي في الصفحة الأخيرة ، بل لتبدأ من جديد لتمثل دورة حياة العراق بدكتاتورياته ومعارضته وأحزابه وشخصياته التي تبحث عن وجودها في السلطة والمعارضة والجنس. تتلخص أحداثها حينما يكتشف البطل ضمور عضوه الجنسي ، وعجزه عن أداء مهمته في إنقاذ الشعب من الدكتاتورية فيبدأ بتذكر مواقفه السياسية والجنسية السابقة ، ويستعين في علاجه بأحد أصدقائه الأطباء ، وبأحد المراكز العلاجية ( مركز التأملات الروحية والحمية الغذائية) وفي النهاية أو البداية ـ لا فرق ـ يكتشف عجزه ثانية بعد أن تبدأ الرواية من جديد بخبر احتلال العراق من خلال الرسالة الصوتية لـ (ألف) عشيقته التي فشل في الزواج منها. وفي كل ذلك يطفح الجنس كبطل متفرد في الرواية التي تذكرنا بجنسية (الحب في زمن الكوليرا) لكنها تفترق عنها برمزيتها السياسية وبواقعيتها في الوقت نفسه.
اختارت الروائية العراقية عالية ممدوح شخصية واقعية من المدينة العراقية ـ بغداد ـ لتجري من خلال سرديتها المتشظية أحداث الرواية التي تبدأ بدايتها الحقيقية من ارض بريطانية في العراق ( المركز الثقافي البريطاني في الوزيرية) حينما يضاجع سرمد برهان الدين ـ بطل الرواية ـ أستاذة اللغة الانكليزية في المركز ، الأنثى الشهوانية فيونا التي هي بعمر أمه ، والتي تعلمه أسرار الجنس بعد أن يفقد عذريته معها، تماما كما فقد فلورنتينو اريثا عذريته مع امرأة ثيب اغتصبته في غرفة مظلمة، بعد أن فشل في الزواج من حبيبته . أتكون فيونا هي التي أغوته بمضاجعتها أم أنه اختارها عامدا في مدينة مليئة بالمومس ، لتمثل مضاجعته لها انتصارا على الاستعمار والرأسمالية التي تنتمي فيونا إليها؟ أحد الأسئلة الكثيرة التي أثارتها الرواية. لا يمثل الجنس الهدف الحقيقي للرواية ، بقدر ما يمثل المجال الحيوي الذي اختارته الكاتبة لتسجل اللحظات التأريخية لسقوط الآيديولوجيات اليسارية والاجتماعية ، ولتعرية مجتمع شرقي يضج بالجنس ويأبى الاعتراف بذلك في وقت أصبح فيه كل شيء مكشوفا.
من خلال إعادة المواقف الجنسية السابقة ، يكتشف سرمد برهان الدين إن سبب فشل اليسار في المنطقة هو خطأ ترجمة البيان الشيوعي ، أي لو أنه قام بترجمته مثلا ـ وهو المترجم الماهر الذي ضاجع اللغة الانكليزية من خلال فيونا ـ لكان الأمر على غير ما هو عليه الآن ، إنه يريد أن يقول لقد فشلت القيادات اليسارية ، ولو كان الأمر لنا نحن الهامش لنجحنا! وهو يعترف في الوقت نفسه بضعفه وبقلقه الإيماني وبتغير أسمائه ، ” سرمد ، أنت هش ومكسور ومجروح “. وعند مراجعته المتكررة لمركز التأملات ـ يتحول اسمه في المركز إلى المريض العراقي ! ـ ولعدد من الأطباء ، يكتشف أنه لا يجد حلا لمشكلته ، ويكتشف أيضا إن أحد الأطباء مثله قد تعرض للمهانة والذل على يد السلطة (الشذوذ الجنسي ، المخابرات العراقية) أما القارئ فيتذكر مباشرة عددا من المراكز الاستراتيجية التي تقدم مجموعة من الحلول للمشكلة العراقية لكنها لا تنجح أبدا!
وسرمد الآن أمامنا في بداية الرواية رجل مترهل وسمين وغير متناسق وثقيل الحركة ، ومع ذلك فمازالت ألف تنتظره كمنقذ ومخلص لها من الظلم والجور الذي تعرضت له عبر رسالتها الصوتية التي امتدت لعشر صفحات. ما الذي يمكن أن توحيه لنا مثل هذه الأحداث؟ هل يعني ذلك أن المنتظر المعارض لا يعمل الاّ بالاسم ؟
ـ لاحظ اسم سرمد ـ وان هذا المنتظر عاجز عن التغير دون أن تعي ألف ذلك!
والمعارض المنتظر لا يموت أبد ” لكنك لا تموت لسبب سرمدي خرافي لا أعرفه ، ولا أعرف سره ، لماذا لم تمت” ، يقول له الطبيب …
إن ملاحظة بسيطة لحياة الشعوب المغلوبة على أمرها ، نكتشف أنها دائما ما تصنع منتظرين سيأتون مع الفجر حتما.
وطيلة بقائه في المنفى يصبح سرمد شخصا لا يطاق ، وغير مقبول من قبل الشيوعيين والبعثيين والأصولين والمستقلين! خاصة بعد أن يكشف عن زيف المعتقدات وتأرجح المواقف لهذه الفئات. ألا يعني ذلك غياب الرؤية الخاصة للفرد وأن عليه أن يكون تابعا أو متبوعا طيلة حياته؟
ومن خلال رحلة علاجه أيضا ، يكتشف سرمد أن العطالة الجنسية تسري على اللغة التي لم يعد باستطاعتها التعبير عن همومه ، ويتحول دجلة عنده إلى نهر مخنث! ويبدأ بلعن الأماكن التي كانت أثيرة لديه
” يوسف ، نحن أنقاض ياعزيزي” ، يقول لصديقه الطبيب …
لقد استطاعت الروائية ومن خلال الجنس كمضمون أن ترسم صورة واقعية لبلد شرقي مضطرب ، تمثل فيه السلطة ذروة الشهوانية والقوة الجنسية (اغتصاب ، شذوذ وسادية ، زواج رسمي) ـ تتمثل في مهند ، عضو المخابرات العراقية وشقيق سرمد ـ وتمثل فيه المعارضة صورة الضعف والاستسلام والدوار في المنافي بحثا عن الأمان ـ كما هو في سرمد ، حتى النساء الأخريات ـ كيوتا الألمانية والمغربية البيضاوية ـ اللواتي مارسن الجنس معه كن فارات من آيديولوجيات ليست لها القدرة على تلبية رغباتهن. أما صفة المترجم التي تلبست سرمد برهان الدين فقد كانت تشير إلى آلية النقل والاستنساخ فقط دون أنتاج شيء معرفي يمكن أن يساعد في إزالة الدكتاتورية.
ومن خلال اللغة استطاعت الروائية أن تلائم الشكل مع المضمون عندما تشظى السرد ليعبر عن تشظي سرمد برهان الدين في المنافي أو تشظي الواقع العراقي بين آلية التابع والمتبوع. كان الراوي هو سرمد برهان الدين الذي سمح للشخصيات الأخرى أن تعرض مواقفها كما ترها هي لا كما يراها السارد.
وعلى العكس من رواية (الحب في زمن الكوليرا) التي طفحت بالجنس والنشوة ، ومارس البطل فيها الجنس حتى في سنوات شيخوخته ، نجد أن سرمد برهان الدين يصاب بالعطل الجنسي وهو في بداية الخمسين من العمر، ليمثل متوسط عمر الفرد العراقي.
(التشهي) رواية جريئة كتبت في فترة انتقالية حرجة ، ربما لن يسمح المستقبل بعرض روايتها في الصحف العراقية، بخاصة إذا علمنا أن الروائية قد تعرضت إلى التهديد ـ في لندن ـ لكونها قد قالت أشياء لا يسمح للرجال بقولها فضلا عن النساء.
* عالية ممدوح ، التشـّهي ، رواية ، دار الآداب ، بيروت ، 2007