عالية ممدوح .. “حبات النفتالين”

تجسيد فني للعوالم الأنثوية العربية في تأزماتها المتوارثة

في رواية “حبات النفتالين” تدخلنا الكاتبة عالية ممدوح في تفصيلات الحياة العراقية بكل طقوسها الخاصة وعاداتها وتقاليدها، وتحديدا ضمن منطقتي “الأعظمية” و “كربلاء”. ترحل بنا الكاتبة إلى آفاق و أسرار من حياة فتاة عراقية منذ طفولتها إلى سنوات المراهقة، وهذا هو لب رواية “حبات النفتالين”؛ حيث تحلل عالية ممدوح نفسية فتاة يتملكها الخوف في ظل أسرة مفككة، ويطغي عليها الشك والتساؤلات المقلقة التي ترجمت إلى شقاوة طفولة وعناد مراهقة .

(1)

منذ الأسطر الأولى في الرواية يدخل القارئ إلى عالم البطلة (هدى) وإلى أجواء عائلتها، ليكتشف هواجسها وبواعث قلقها الدائم، فالأب شخص صلب متسلط يلقي الرعب بين أفراد أسرته وولديه (هدى وعادل)، أما الأم فمريضة بالسل “محتكرة للصمت”، والجدة متفوقة في العزلة والعبادة، تنفث آية الكرسي في وجه ابنتها فريدة، وحفيدتها هدي.ضمن هذه العائلة المتضاربة في شخصياتها وميولها تدخل هدى إلى دهاليز الذاكرة لتقص حكايا أسرتها وحكايا زمن عراقي مضي وغدت معظم ملامحه من التراث الماضي : ولعل أكثر ما يبرز في الرواية حضور ذكريات بغداد القديمة بكل مميزاتها الخاصة وعبقها الفريد عن سائر المدن.تقول : “هذا يوم التفرس في الأسواق البغدادية، ذاك شارع الرشيد الطويل، هذا جانب الرصافة، وبين الرصافة والكرخ كان هارون الرشيد يسمع الأحجية والألغاز، هذه بغداد مدينة “المدن” (ص83). فالأجواء البغدادية تشكل هالة الرواية التي تجري ضمنها سائرالأحداث الأخرى .

(2)

والرواية في سياقها العام تجسيم فني للعوالم الأنثوية العربية في كل مراحلها، في كل تأزماتها المتوارثة جيلا بعد جيل. تعرض المؤلفة حكاية هدى وتصف من خلالها حياة الجدة والعمة والأم ونتفا من حياة نساء أخريات.وهى لم تظهر الحكايا كسرد فقط، بل أبرزت تداعياته وآثاره سلوك البطلة وتكوين عوامل تميزها واغترابها، فالبطلة (هدى) تختلف عن أخيها (عادل)، وتحمل عنفا وتفردا يبرزان في سلوكها العام..تقول: “مشيتك تثير الخطر في الشارع، أنت في التاسعة، وهو في الثامنة، هو مسكون بطاقة خارقة على تحمل الأذي والألم، أنت مولعة باقتسام الحسرة والكراهية والحب على الجميع” (ص11).
هذه هى (هدى) بطلة الرواية، الطفلة المتمردة التي تعبر عن ذاتها بعفوية غير مدركة عجز مجتمعها وعائلتها تحديدا على استيعاب نفسية فتاة مميزة تسعى للتواصل مع الناس عبر طريق أو آخر يختلف عن خنوع الفتيات التقليدي .
تبصر هدى استسلام والدتها لهيمنة الأب وتسلطه ومعاملته لها وكأنها خادمة أو جارية لا أكثر، خصوصا بعد أن يشتد عليها المرض فيطلب منها الرحيل إلى أهلها في حلب ويصارحها بأنه تزوج أخرى.تصف الكاتبة علاقة الأب والأم قائلة : “أنا أريد امرأة من صدق.صرفت عليك دم قلبي ورزقي سافري إلى أهلك، سوف أتزوج”. “تركع أمامه تصطك أسنانها، تجهش، يمد ساقيه وتبدأ من البوط تخلعه وتضعه جانبا” .
يبدو هذا المقطع نموذجا عاما عن معظم العلاقات بين الرجل والمرأة في المجتمع الشرقي خصوصا في فترة الخمسينيات التي نادرا ما شذت امرأة عن هذه الحالة .
هذه هى صورة الأم، في المقابل تبدو العمة العانس فريدة التي تترقب الزواج من “منير” الرجل سيئ السمعة اجتماعيا وأخلاقيا، خاضعة هي الآخرى لانتظار حضور منير لخطبتها، ويكتمل الحدث الدرامي في الرواية لحظة وصول نبأ وفاة الأم ليلة عرس العمة وفرار منير من الزفاف وعدم عودته، لتصاب فريدة بنوع من اللوثة والاختلال النفسي نتيجة ما حدث.

(3)

عبر سطور الرواية، تبدو شخصية الجدة من أكثر الشخصيات تماسكا وحضورا. إن العامل الباعث على هذه السيطرة هو أن المرأة تمضي حياتها خاضعة لسيطرة الأب أولاً، ثم الزوج الذي تبيح له الشرائع والقوانين إخضاعها والتحكم بحياتها، بالتالي تكون ردة الفعل الباطنية عند المرأة (الأم) هي الرغبة في تفريغ شحنات القمع الذي مورس عليها ولا سبيل لديها إلا من خلال محاولة السيطرة على أولادها ذكورا وإناثا، والعمل على تنفيذ مشيئتها أياً كانت، بل ومحاولة السيطرة أيضا على زوجاتهم أوأزواجهن .
فالمرأة المضطهدة هي النموذج القمعي المقبل للجيل الجديد خصوصا اذا دعمت تلك السلطة بمركز اجتماعي أو مادي أو ديني، في الوقت الذي تتراجع فيه سلطة الرجل مع تقدم السن واعتياده طاعة المرأة واستسلامها، تبرز سطوة الأم (الحماة) تعويضا لما فات من سنوات الصمت والطاعة .

في رواية “حبات النفتالين” تبدو الجدة امرأة طيبة تلجأ للأدعية والابتهالات والزيارات للأعتاب المقدسة في معظم الأحيان.والجدة هنا على علاقة طيبة بكنتها (إقبال) والدة هدى لأنها امرأة مطيعة ومستسلمة وتعاني تدرناً رئوياً أي إنها في موقع ضعيف، لا يهدد بأي نوع من السيطرة.لذا نرى الجدة ترفض بحسم السماح لابنها بإحضار زوجته الجديدة إلى المنزل، مع أن هذه الأخيرة ترسل إليهم الكعك والحلوى، لكن الجدة ترفض تناولها بحجة الوفاء لذكري المرحومة “إقبال”، وتعمل الجدة أيضا على تحريض ابنها على الزواج بأخرى مع علمها أن زوجته الثانية حامل.

(4)

تحمل الرواية الكثير من التداعيات والهزائم النفسية والعائلية.فالأم تموت، والأب يصاب باضطراب عقلي ويقال من عمله في سجن الحكومة، والعمة تُطلق قبل أن تتزوج.أما بطلة القصة هدى وشقيقها عادل فتترك حياتهما مفتوحة بلا استشراف للنهايات، وبدت هذه النهاية أكثر إقناعا وتناسبا مع الرواية. و هناك حوار طفولي بين هدى ورفيق طفولتها محمود في ختام الرواية يلخص التأزمات النفسية عند الأطفال المضطهدين علماً أن شخصية هدى لا تحمل ملامح طفولية.يقول محمود : “لما نكبر لن نضرب أولادنا، لن نجر شعورهم، ولن ندعهم يهربون ظهرا للشط، سنذهب ونسبح معهم” (ص 206).

حبكة الرواية مزيج من القهر الواقع على المرأة إلى جانب اضطهاد الطفولة والمطالبة دائما بالطفل “المثالي” لا الطفل الطبيعي.وفيها جانب من الخلل في بيئة تطلب من الفرد وتعوده من (الصغر) على الطاعة العمياء والاستسلام الكامل لكل ما يطلب منه. لذا نقول إن الراوية هدى تبدو مجردة من الملامح الطفولية، وتبدو في حوارتها وطريقة قصها كعين راصدة تترقب الحدث وتنقله أكثر مما تعيش مراحل عمرها بين طفولة مراهقة وصبا.
الجدير بالذكر أن المؤلفة اختارت زمنا مضطربا في تاريخ العراق والعالم العربي ككل، بين فترة الأربعينات والخمسينات، أيام نهاية الحكم الإنجليزي، وقيام حكم نوري السعيد، ثم ظهور الشيوعية، وظهور الاضطرابات الشعبية، والتظاهرات الطلابية. تقول : “بغداد كلها دخلت العصيان ذلك اليوم، الجامعات كتبت شعاراتها ورفعها الطلبة باللون الأخضر، والأبيض والأحمر” .

تعرض الكاتبة أيضا قضية الاستعمار الصهيوني، وغليان الجماهير العربية المطالبة بحركة تحرير الأرض، وما رافق ذلك مع حكم جمال عبدالناصر والتفاف الشعوب العربية حول أجهزة المذياع للاستماع لخطاباته، فالزمن في الرواية يمثل تأريخا لمرحلة تاريخية واجتماعية معينة عكست آثارها على حياة الأبطال وأسهمت في بلورة شخصياتهم، لكن الزمن هنا يظل بلا حيز فاعل أو مؤثر، لأنه يحدد فقط الأحداث العامة، ولا يرتبط بأي حدث رئيسي في الرواية1.

مقالات في القصة والرواية ، لنا عبد الرحمن ، صادر في الطبعة الثالثة عن وكالة الصحافة العربية ناشرون ، 2015
———————————
* حبات النفتالين – عالية ممدوح – دار الآداب – بيروت – الطبعة الثانية – 2001