عالية ممدوح
شعرت أن لياقتي الإبداعية بالاجمال، وأنا في ذلك الكوخ، فقدت جذلها. كنت أريد أن أرى الباقي من حياتي هنا أو هناك، وليس الباقي مما لم أكتبه. أن الحياة أعظم مما قد نخفيه في سطور وكلمات وصفحات في كتب، نأخذها على عاتقنا ونهيم بها على وجوهنا. تصورت في بعض اللحظات، وهم يلحون عليّ، ان هذا المكان مخصص لك وما عليك الا ان تكتبي: انه بمعنى ما، عقوبة. لقد حضرت لكي اتحرر من كوني كاتبة فقط ، وأنا اعرف أن عليّ ان أقدم ذاتي ككاتبة فقط. فاديا فقير بدأت بكتابة نص طويل عن شهرزاد الجديدة، وهي ترمز بها إلينا ومعنا جميع الغائبات من الكاتبات العربيات والعالميات. رجاء عالم طلبت جهاز كومبيوتر خاصا بها لكي تكتب عليه نصوصها الانكليزية الجديدة. شادية عالم يوميا تظهر كجني وسط الغابة، ترتدي المعطف الواقي للمطر وتخشى على ألوانها من الاختلاط بمياه الامطار، فترسم وترسم كما الدنيا كانت تمطر وتمطر وتمطر. ابتهال سالم بدأت مشروع رواية جديدة في كوخها المجاور لي. شومان هاردي وسهير حماّد يخططان يوميا لكتابة قصائد ونصوص جديدة.
كانت هناك عذوبة وحفاوة بفعل الكتابة تنتقل من هذه الكاتبة إلى تلك وربما في وقت واحد، ليست كالعدوى، وانما كنوع من الايقاع. كأنك اذا لم تكتبي حسب الاصول المرعية، أو حسب الأتكيت الأميركاني ستفقدين شيئا من وقارك الثقافي. كان علينا ان نلّمع أنفسنا ونردد على بعضنا، وربما أمام أنفسنا، أننا هنا من اجل الكتابة وهذا أمر محترم، كأن الكتابة زر من الالماس علينا ان نحلي به صدورنا. إنني على يقين ان السيدة نانسي سكنر نوردهوف صاحبة المشروع بجميع نواياها الطيبة والراقية والنبيلة لم تكتب في حياتها نصا ابداعيا. بمعنى، أخذت الكتابة والكاتبة على محمل الجد لكنها لم تخض غمار الكتابة كفعل وجودي حارق.
حين شاهدتها أول مرة وكان ذلك بعد حوالي الاسبوعين على وجودي في الاقامة قالت لنا، ابتهال وأنا، وهي على وشك أن تغادر: أنا نانسي.. تصافحنا وتعانقنا بروح من التآخي ما بين البشر. كانت ترتدي سروالا من اللون الخاكي، نظيفا لكنه عتيق، وبلوزة، تلك التي نرتديها ونحن نحضر أنفسنا للقيام باعمال التنظيف والتعزيل في بيوتنا، وحذاء رياضيا بالطبع. وقفت أمام عربتها، نصفها مكشوف من ذلك النوع الذي يستعمل لتحميل الاسمنت والطابوق وجميع مواد البناء. العربة تلك كما ازعم عمرها لا يقل عن الثلاثين عاما.
السيدة نانسي المليونيرة، وينبوع ثرائها متأت من جوهر شغوف مهذب وراق لا يغلف لغته الا بالوضوح والمباشرة، ولا يرسل رسائل ذات معان خفية. كانت أمامي ذات لياقة روحية كما الاميرات المتوجات بالرفعة الجوانية لا بمصطلحات الوجاهة والثراء الفاحش والبطر السفيه. غيرت رأيها بعدما طلبنا منها العودة إلى غرفة الطعام والجلوس معنا ولو قليلا. قلنا لها: سيكون بيننا خبز وملح وهذا هو الذي سيحفظ أرواحنا من الفساد والتلوث.
هكذا نقول في تراثنا العربي والإسلامي. أجابت، نحن نقول ذلك بطريقة أخرى أيضا.
أظن أن لدى جميع شعوب العالم طرقا لحفظ الأرواح وماء الوجه والعينين. قالت: لقد أسسنا هذا المشروع ولدينا هيئة استشارية لإدارته. كنا في حاجة مستمرة للاتصالات مع الآخرين ومن جميع أنحاء العالم والقارات. في السابق كنا نفكر بالكاتبات، بمعنى، ماذا تحتاج؟ المكان الآمن، الطمأنينة، الغذاء الصحي، المناخ الملائم والاعتزال. اليوم قد دعوناكم من العالم العربي، فكنا نقول: ترى، ماذا يريد القارىء أو المستمع الأميركي أن يسمع ويعرف عن العالم العربي؟ ماذا لدينا ولديكم من أفكار ومشاريع ورؤى انسانية وثقافية واجتماعية لكي نقدمها بعضنا للبعض الآخر في مدينة سياتل الأميركية.
هذه المدينة تعيش فيها مجاميع يسارية واشتراكية وديمقراطية وليبرالية قد يتهمون بالحالمين بعض الشيء. لكن شعب سياتل ومنذ العام 1992 حين عقد مؤتمر قمة الأرض في ريودي جانيرو، وكانت تلك القمة فاصلة وقطيعة حين نضجت بعدها بعامين حركة عالمية ذات مروحة أميركية، اوروبية، آسيوية وشرق اوسطية في إشارات احتجاجية وتمردات وعصيانات مدنية بدءا وضدا لاجتماع البنك الدولي، فحمل ذلك الشعار الذي صار ايقونة وهم يرفعونه (خمسون عاما تكفي) لقد اكتسب هذا الشعار مصداقية مذهلة لدى أهالي سياتل الذين استشعروا ان العولمة قد أضرت بقطاعات هائلة من البشر كاتحاد المزارعين،، النقابات والحركات الشبابية والحركات النسوية، الفوضويين الذين هم على ايمان راسخ، أن المجتمع ينبغي ان يتحول إلى مجموعة من التنظيمات الصغيرة والتي بمقدورها ان تحكم نفسها بنفسها دون قانون الدول المتوحش. أهالي سياتل الذين كان علينا ان نواجههم نحن الست كاتبات القادمات من ست دول عربية تحكمها اختلافات وتعرجات شتى.
إننا ككاتبات مختلفات بصورة جذرية إحدانا عن الثانية. هذا التعدد هو الذي أثرى وجودنا بالدرجة الأولى، وقام بدور جيد ومؤثر على جمهور واسع من أهالي سياتل الذين دفعوا أجر البطاقات وكانت حوالي 25 دولارا لحضور بعض الامسيات التي جرت. هؤلاء بعض الذين التقينا بهم، هم من الذين وقفوا ضد الرأسمالية المتوحشة، ومقاتلة الشركات الكبرى التي اندفعت لغزو العالم وفرض القيم الرأسمالية وتسليع كل شيء.. الافكار والاجساد (النساء والاطفال)، ومعاداة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي اللذين ينظر إليهما كجهتين دائنتين لا ترحمان الفقراء رغم محاولتهما الظهور بمظهر اعداء الفقر.
في نهاية 1999 وخلال اجتماعات منظمة التجارة العالمية بسياتل بدأت حركات مناهضة العولمة وقد تجمع المتظاهرون كالسيل في شوارع المدينة وهم يرتدون ازياء غريبة من مجموعة انصار البيئة، أو ملابس على شكل سلاحف بحرية واختلطوا بعمال صناعة الصلب والفلاحين والطلاب، ثم ربطوا انفسهم في سلسلة بشرية حول مقر انعقاد المؤتمر. ولم تنجح الهراوات أو الغازات المسيلة للدموع في تفريق 40 ألف متظاهر فاضطر بوليس الرئيس كلنتون إلى اعلان الاحكام العرفية (مثلنا بالضبط).
سياتل فتحت لنا الطريق كما فتحت لمناهضة العولمة في مدينة جنوى الايطالية احتجاجا على مؤتمر قمة الثماني فتجمع 300 ألف متظاهر احتجاجا ضد زعماء الدول الصناعية الذي عقد في يوليو 2001 وسقط أول قتيل للحركة ويدعى كارلو جولياني برصاص الشرطة الايطالية.
لست في صدد التأريخ لعصيان وتمرد هذه المدينة الذي بحثت عنه في الانترنيت الا بعدما وصلتني الدعوة من مؤسسة هيجبروك. وإذن سوف نكون وسط أهالي سياتل الذين تظاهروا ضد الحرب الأميركية في افغانستان والعراق وهتفوا لا للعسكرة والعولمة ولفوا رؤوسهم ورقابهم بالكوفية الفلسطينية وذهبوا إلى الأراضي المحتلة ليعيشوا اذلال الاحتلال والإبادة في مدينة جنين، ولذلك حين وقفت الشاعرة الفلسطينة/ الأميركية سهير حماّد في اليوم العاشر من شهر مايو لتلقي قصائدها النارية خطفت الاضواء وحصدت التصفيق والاستحسان والاعجاب. اما نحن فقد كانت لنا تفاصيل وعواطف اخرى. والى الحلقة القادمة.
الخميس 11 شعبان 1426هـ – 15 سبتمبر 2005م – العدد 13597
https://www.alriyadh.com/94214