عالية ممدوح
1
ربما، لم يكن أمام العراقية نسرين ملك إلاّ هذه الطريقة للتعرف على مدينتها الأولى بعد غياب أكثر من ثلاثين عاما، والتعريف عن ذاتها عبرها. إجرائياً، هذا الكتاب “سارق الّلافندر” الصادر للتومن بيروت عن دار الجديد المميزة بالاعتناء الشديد باللغة في جميع أحوال طهيها. أظن، هي الطريقة الوحيدة التي لم تكن ميسرّة أمام الكاتبة، لولا بعض الصديقات كالكاتبة إنعام كجه جي وهيا الطاهر وإلحاحهن إلى تدبير تلك الخطابات الألكترونية التي تبعثها لنا وتحويلها إلى إشغال الحيز المطلوب في كتاب به من الأوجاع أكثر من المسرات، وفي جميع أيام العام، وكل فصول السنة، وفي جميع الدول التي مرت وارتحلت وسكنت واشتغلت وأٌغرمت فيها، وبالتالي تزوجت وأنجبت، بدءا من بيروت والقاهرة وبغداد حتى الاستقرار في تورنتو في كندا مع ولديها. بالإجمال، هذا كتاب تعلن فيه نسرين ملك وأمامنا جميعاً: كيف تتبادل الحب مع مدينة تموت وتدعى بغداد. شخصياً ما كنت أعرف نسرين، لكننا بدأنا المراسلة بين عامي 2014 2015، وعندما كانت تزور تلك البلاد لإنجاز بعض المعاملات، كانت ثمة خطابات تتوالى إليّ ؛ فورية متلاطمة في مشاعرها الطبيعية الفوارة. كنت أتصور أنها لو لم ترسل تلك الرسائل، لما كان بمقدورها المشي خطوة في شوارع مدينة أنجز عليها الخراب والدمار. أظن، كانت تقاوم بتلك الخطابات وقبل أن يلتهمها انهيار البلد فكتبت تقول: “لكل من هؤلاء المسافرين قصّة، ترى هل عاش أحدهم غربة كغربتي؟ هل هم عائدون إلى بيوتهم؟ لا بيت لي في العراق! بيتي في كندا. الآن تطأ قدماي تربة العراق: التربة المشبعة بالحب وبالحروب وبالخصوبة”.
2
بتقديم دقيق تقول ناشرة الكتاب الروائية والكاتبة رشا الأمير: “عفوّا وبلا خطط سرديّة مُحكمة دوّنت نسرين ملك يوماً تلو آخر يوميّاتها. إن ما تسمّيه “خربشات” قد يهم صديقاتها وأصدقاءها وقد يصير كتاباً هو في الواقع نشيد حبّ لموطنها الأصليّ بروائحه وبيوته الكريمة، ولذاك الزمن الجميل الذي عاشته في كنف أهلها وأقاربها. آه، الكتاب بين أيدينا، صار حقيقة، وهو يقضي أيامه في صحبة قارئات وقراء. أقيم حفل توقيع له ولنسرين في مركز رؤى في العاصمة الأردنية، وقامت بتقديمها الشاعرة البارزة زليخة أبو ريشة. إذن، هو كتاب رحلة امرأة لم تتوقف، ربما، طويلاً أمام نفسها لكي تخاطبها أو تسألها أو تتعرف عليها إلاّ أخيراً وعبر هذه الخطابات. كنت أقرأ الأحداث التي ترويها وأنا أريد التعرف إلى نسرين وكيف تحارب عن طريق تلك المعاملات الرسمية في دوائر عراقية مشبعة بعطن الإفساد للذمم، في بلد أصيب بجميع ما يخطر على البال من أوبئة وعاهات بسبب طبقته السياسية والاحتلال الأميركي، الحظر والحروب الغبية. امرأة تتحرك ما بين مدينة العمارة وبغداد تحاول استرداد أرثها المنهوب ما بين هذا وذاك، كما هو إرث العراق. كانت خطة الرحلة / التيه والصمود والفكاهة والهزء هو الذي يعنيني، وهو الذي كنت أتوقف أمامه حين كانت الكاتبة تبعث بتلك الرسائل الألكترونية ذات العاطفة الفورية والسيولة الصاخبة، حتى ألتقيت بها في العام المنقضي في كندا، وتأكدت في نهاية المطاف، إننّي أقف أمام فرن ذري من العواطف الحقيقية.
3
“أحن إلى بيتنا بأبو قلام دائما وكل أحلامي هناك، أمّا كوابيسي فهنا في بيتي بكندا، وبين أحلامي وكوابيسي تزهر زرعتي اليوم بورد أبيض رغم البرد… الحرارة في الخارج سجلت 19 درجة، هل أستأهل هذا؟ ” كتابة الحنين تدعني احترس من جميع مفردات اللغة ذات النزعة العاطفية المبالغ فيها، والتبسيط الأخلاقي الذي يقتضي شيئاً من الدقة. تماماً، أردد هذا ما حدث، هذا ما يحدث هناك، وفي حيثيات كتابة الحنين أنفر من جميع ما أود نسيانه، والأفلات من أسره، ما لا أريد العودة إليه وتذكره إلاّ بشروط إلقاء الأسئلة الحارقة على أي شيء وكل شيء. عندما تموت المدن بين أيدينا وتنعدم راحتنا وراحة الأبناء والآباء والأحفاد لا تنجدنا العواطف وما ندعوه بالحب الوطني والمتطرف أيضا، فنحن جميعاً نشرف على الموت، ويكون مزعجاً أن نقضي أيامنا من غير أن نسأل، ونظل نسأل، ونبقى نسأل، فالحنين لا يمتلك الجواب الصحيح، لكن بعض الكتاب والكاتبات يستسلمون إليه فهو الأبسط وشهوده لا يعرفون الرد أو يحتضرون أو شارفوا على الموت. أسئلة الحاضر تقتضي الشروع اليومي بسؤال: لماذا حدث ما حدث ويحدث؟ شعب بأكمله يقضي نحبه ويخشى الوقوف ولو لساعة أمام ذاته لكي يسألها: إلى أين هو ذاهب؟ إلى أين تأخذه الطبقة السياسية ذات العفونة الطافحة هولا وفساداً.
***
ستكتب نسرين ملك كتاباً جديداً عن الذين قضوا والذين على اللائحة، والذين لا نكاد نصدق أنهم فعلوا ذلك. ستدّون كتابا حاشداً بالتحليلات والشهادات والاستفهامات، وليكن باللغتين، العربية والإنجليزية الجميلة التي تجيدها، وستظهر وثائق وإدانات لذاك الطاعون الذي نخر ومازال ينخر العراق.
السبت 17 جمادى الآخرة 1437 هـ – 26 مارس 2016م – العدد 17442