زمهرير القلب

عالية ممدوح

1-
أصدرت أول مجموعة قصصية في العام 1973عن دار العودة ببيروت، وبعد أقل من أسبوعين نشر الشاعر والناقد والمسرحي اللبناني عصام محفوظ وعلى أكثر من ربع صفحة من جريدة النهار البيروتية والتي كان يتولى إدارة صفحتها الثقافية ولمدة ثلاثين عاماً، مقالا عن كتابي الأول (افتتاحية للضحك) تحت عنوان مثير… فلانة تزيد المد القصصي النسائي.. الخ.
أول مقال يكتب وبطريقة مؤثرة عن الكتاب الأول الذي يشبه الغرام الأول، متشنج وفج وعصبي ووقح وبه فجاجة الخ. كنت أحضر رسالة الماجستير في أدب نجيب محفوظ وأعمل بأمانة تحرير مجلة الفكر المعاصر ونصدرها من بيروت، وأشترك في هذيانات وتوهجات تلك المرحلة من مجد بيروت الحاشد باليافطات المتشابكة ما بين اليسار والتمرد والفوضى، وما بين البحث عن المزيد من الشك بجميع ما لا نقدر على الاستجابة له، أو ما لانستطيع الوصول إليه.
بيروت كانت لها قابلية لا مثيل لها أن تنكأ وجدانك وتدع مناطق دفاعاتك مضعضعة، وأغلب الاحيان تتركك وحيدا ولا تضمدك، وعلى الأرجح لا تسمع صراخك فيتكدر صفوك الروحي، وبالتالي تتضاعف صيحاتك فيسمعها أحدهم، كعصام محفوظ فيكتب عنك مقالا جعلني أستحي من ملاقاته في إحدى الندوات والقول له، شكرا. كنت ولا زلت وبعد كل هذه السنين أشعر بشيء من الانطواء حين يكتب أحدهم أو إحداهن عن كتاب صدر لي، لكن عصام بغتة، ونحن على باب الخروج صرنا وجها لوجه وتحت ضغط الازدحام من حولنا، قال كلاما كالترتيلة الجميلة التي توفر للكاتبة اليافعة وقتذاك، بهجة لا عهد لها بالمباهج المنقضية.

2-
عصام محفوظ في تلك الحقبة كان شاعرا مجددا وحداثيا بالمقام الأول، الا أنه وعلى التوالي، كان المسرح يشكل لديه بالضبط مساحة مقلقة وشديدة الثراء والمواجهة. وكانت تأثيرات المسرح الغربي عليه شديدة وحامية. ومنذ اوائل الستينات هيأ لنفسه موقعه فخلق مسرحه هو. فمسرحيته الزنزلخت لا يزال يؤرخ لها نقاد المسرح العربي لولادة المسرح اللبناني الحديث. فقد زاوج بين الفصحى والعامية مؤلفا لغة ثالثة، مشرقة وجميلة صعودها لا يرهق وبساطتها راقية كما في ألف ليلة. فتبدو المسرحية بمناخاتها النفسية العاصفة قادرة على تحويل القضية الخاصة إلى قضية جمعية. كتبها عصام في العام 1963، فكنت أقرأ عنها شظايا من هنا وهناك لكنها لم تعرض الا بعد العام 1968، أي بعد الهزيمة فاحتملت تأويلات شتى وكأنها جاءت على مقاس ما حصل وحدث. عصام الرائي دونها قبل ذاك التاريخ حين أسس لغة ساخنة قادرة على النزول إلى الشارع والذهاب إلى صفوف الجامعة.
معظم أصحاب الريادات الكبرى لا يعرفون أنهم أصحاب هذا القدر من التحول والتغيير. عصام واحد من اولئك، نهضويته وحداثته كانتا جذريتين، تمس الاخلاق والفكر والمبادئ والثياب وما تحتها.

3-
في العدد المزدوج الرابع والخامس من السنة الأول، آب – ايلول 1974من مجلة الفكر المعاصر التي كنا نصدرها ببيروت، أجريت حوارا طويلا (عشر صفحات) مع عصام. كنت أطارد (سعدون) بطله كما عصام في الجانب الآخر من المرآة. هو من قضاء مرجعيون الجنوبي لكن بيروت ظلت جوهر حياته حتى قتلته في الأخير، كأنه كان يفر إلى الجنوب من بيروت كما كان يتقلب ما بين النقد والشعر والمقالة والمسرح، وكان يشبه قبضة اليد في توتره ومزاجيته، تلك القبضة التي تعرف وانت تراه أمامك وبالمصادفة، هل سيبدأ باللكمات أم سيفتحها مهللا ومرحبا بك. لا أحد يعرف ردود افعاله ولا أقرب الناس إليه، فكان يريد أن يكون أقوى مما يكتب، بمعنى أن الكتابة بكل هذه الخيارات التي يمتلكها كيوسف الصائغ الشاعر العراقي (تراجم، نقد مسرح حوارات الخ) لا تكفيه قط، فكان يتقدم من كل هذه الفنون بعدة المبدع الخلاق الذي يعرف أن كل هذا البوح لا يكفي للعيش ولا يسند الحياة. وكان معذبا عذابا يليق بتناقضاته الهائلة.
فقد أجابني مثلا على أحد اسئلتي بما يلي: أنا لا أختلف عن أي كاتب مسرحي أو روائي آخر في العالم من ناحية توزيع نفسه في الشخصيات التي يكتبها، غير أن هناك بين الشخصيات من يكون الأقرب إلى شخصية الكاتب دون أن تكون هذه الشخصية بالضرورة هي شخصية الكاتب نفسه، لذلك أستطيع القول ان شخصية سعدون التي خلقتها بثلاثيتي والتي قدمتها؛ الزنزلخت والدكتاتور، هي الشخصية الأقرب إليّ من ناحية رؤيتي العالم من خلالها وكما أرى نفسي بها. سعدون كان يفتش عن الحب والحرية والعدالة، لذلك كان فشله على قدر طموحه فتحول إلى شجرة. أما الدكتاتور فهو أيضا كان يفتش عن تحقيق الحب والعدالة وللجميع فتورط كثيرا باللعبة وقرر التضحية بنفسه اذا كانت التضحية قادرة على خلق المجتمع الذي يحلم به. أما المسرحية الثالثة – سعدون ملكا – فقد وصل البطل إلى الحاجز المميت الذي هو حاجز العزلة النهائية والذي تصور من خلاله بأنه لا يوجد أمل لتحقيق الحب والحرية والعدالة في هذا العالم وهذه الاستحالة تعود إلى تركيب العالم السيئ. فتنتهي المسرحية دون أن يستطيع الخروج من عزلته. وكانت النهاية، غرفته أو وطنه هو منفاه النهائي هو كذلك عصام محفوظ، سجن في غرفته بعدما أصيب بجلطة دماغية اقعدته منذ فترة طويلة، كانت منفاه. في موته وقبل موته، كانت وحشته تتلاطم وعوزه قد وضعه أمام الحائط. حين زرت بيروت في العام 1999وبعد عشرين عاما من الغياب استحييت من زيارته فقد كان يعيش تحت وطأة الشظف الحقيقي، ذلك الموله بشبابه وترفه وأناقته وسخريته المريرة. سعدون بطله العصابي، المرح، الشقي، الساخر، والعاجز كما لو كان عصام يرثي نفسه ومنذ اربعين عاما. ثلاثون عاما وهو يقدم صفحته الثقافية الآسرة من جريدة النهار، صوت الليبرالية والحداثة والمعاصرة والتي كانت تجمع بين صفحاتها أجمل فتان تلك المرحلة من شعراء وفنانين وأدباء.

4-
كل كتاب ألفه ووثقه كان يريد أن يقول من خلاله وعبره، بأنه جزء منه، من شباب ثقافته وثقافة جيل كان يتحرق للثقافة والمعرفة والتجاوز ومجاهرة العصر بما كان الجميع نخباً وأحزاباً ومثقفين ينتقدون ما أصاب الفكر والايديولوجيات من تخشب وترهل وفساد وتلوث. كانت صفحته في النهار تعلمنا أن الضوء البعيد سوف يقترب من ارواحنا، وأن الهداية لا تتحقق من الخارج، وأن هذا الضوء حتى لو كان شحيحا فهو القادر أن يجعلنا نتقوى على صنوف القهر والاذلال، فألف ما يقارب من اربعين كتابا، لست في صدد تعدادها الآن. مسرح عصام عبثي فالهزيمة جعلته يهجر الشعر. والحرب الأهلية جعلته يهجر المسرح. دائما الخارج الوحشي يجعل وحشتنا أشرس وأعنف بعدما كفر بالطليعة واليسار مستئنسا بالتراث العربي والاسلامي، مستلهما منه ما كان يجب عليه في وقائع اليوميات بعدما تفاقمت الخيبات واشتدت المرارات. فبيروت كانت مختبرا لتغيير العالم القديم وتحويل المجتمع وإطلاق الاسئلة والتي لازالت، ربما حتى الساعة بدون اجوبة.. كل شيء في تلك الفترة 1974وقبل الحرب الأهلية كان ذاهبا إلى الأقصى، أولها الموت.
على مقربة من موت الأصدقاء الذين لازالوا يلاحقونني وينغصون عليّ قلة رغدي الآفل أصلا. على مقربة من الترحال الذي ألزمت روحي به أنا أيضا، لكي أعود إلى هؤلاء وأتقبل وهم أدعائهم بالمغادرة. على اقتراب من الوجع والتجنب والهجر لازلت أقلبّهم في المنام والصحو وأعرف أن لا أحد منهم يحصنني الا هم. على مقربة من جلافة الموت وعدالته أيضا، وعلى حافة زمهرير القلب وخلاء الروح وكل شقوق الكبد أقول لهم ولنفسي، ولم لا، سلاما.

الخميس 2 صفر 1427هـ – 2 مارس 2006م – العدد 13765
https://www.alriyadh.com/135106