رواية “التشهّي” لعالية ممدوح …حين يكون العجز الجنسي انعكاساً للعجز السياسي والثقافي – عيسى مخلوف

رواية “التشهّي” لعالية ممدوح كأننا نتابع الصعود في قراءة الكتاب الواحد، من “حبات النفتالين” إلى “المحبوبات”، مروراً بـ”الولع” و”الغلامة”. ثمة جرح عميق الغور يتنفّس في العالم
الداخلي لهذه الأعمال كلّها ويفضح مسرح العبث الذي تتحرّك ضمنه.

العضو الذكري هو المدخل إلى رواية “التشهّي” وهو رمز العنف الذكري الذي تتزاوج فيه مفاهيم الفحولة والتسلّط السياسي والاستبداد، ومن مشتقات هذه المفاهيم النظرة الدونية إلى المرأة
وإذلالها واعتبارها مجرّد آلة للجنس. من هنا تبدو الكاتبة في وصفها ضمور الذكر كأنها تنعى العنف الذكوري الذي يطالعنا في معظم أعمالها والذي بلغ أوجه في روايتها السابقة ”
المحبوبات”. وهي لا تكتفي هنا بتصفية الحساب مع هذا النوع من العنف، بل تذهب أبعد من ذلك إذ تعمل على تعرية تلك الذهنيّة الذكورية المستبدّة التي طبعت أجيالاً متعاقبة وحكمت عليها
إما بأن تكون جزءاً منها، وإما بالمنافي والموت.

الرجل الذي يطالعنا في “المحبوبات” عسكري يضرب المرأة، يرفسها، يشهر مسدّسه في وجهها ثم يضاجعها، كما يفعل القتلة في الحروب، أولئك الذين يقتلون المرأة فيما هم يغتصبونها.
الرجل في “التشهّي” ليس عسكرياً، ويعاني من اختفاء ذكره. سرمد برهان الدين، بطل الرواية، يفقد السيطرة على نفسه بعد أن يفقد “ألف”، حبه البعيد والمستباح، ومعها الوطن المفقود
والمستباح هو الآخر. والذكر المريض هنا هو ذكر الأمة المريض، وليس العجز الجنسي إلا انعكاساً لعجز أعمّ وأشمل، سياسياً وثقافياً واجتماعياً.
سرمد ليس مجرد شخص واحد بل شعب بأكمله، ووطن بأكمله. وضمور ذكره فضح لتلك القوة الظاهرية، الهشة والمزيفة. إنّ كشف الفحولة على حقيقتها إنما هو نقض لقيم المجتمع
الذكوري ومبادئه ومثله، ونقض لموروثه. فالفحولة التي تعتبر أن الرجل سيد جسد المرأة هي هنا فحولة تفضي في الضرورة إلى ما وصلت إليه، أي أنها تحمل دمارها في ذاتها.
غير أنّ الثنائيات في أعمال عالية ممدوح لا تقف عند الحدّ المرسوم لها سلفاً، وإلاّ فما الذي يدفع الضحية أحياناً إلى تقبيل القدَم التي ترفسها. في هذا السياق المركَّب، تتداخل أحياناً السادية
والمازوخية في لعبة معقّدة بعد أن يتحوّل العنف نسقاً عاماً وبعد أن تبلغ الشخصيات أقسى درجات القهر والعزلة. وتحيلنا هذه المفارقة، وهي إحدى المفارقات الكثيرة في نتاجها، على العمق
الذي تنحت في داخله الكاتبة.
بجرأة تكتب عالية ممدوح، وهي إذ تعرّي الرجولة الهشّة إنما تنقضّ أيضاً على رموز السلطة نفسها وتعلن إفلاسها ولا جدوى المسدسات والبنادق المرفوعة، يوم كانت لا تزال تُرفَع، بيد
واحدة. والرجولة هنا ممارسة لفعل القوة ولمَسرَحَة هذا الفعل، ليس فقط في وجه الأعداء، بل كذلك، وفي المقام الأول، في وجه المواطنين، ولا سيما في وجه المرأة التي تختصر صراعاً من
نوع آخر. وفي حديثها عن المرأة ومعاناتها في المجتمع الذكوري، لا تسقط الكاتبة في بعض الأطروحات النسويّة المتداولة. لكنها تكشف، وكما يعبّر عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو، عن
تلك النظرة التي تعتبر أنّ الرجل هو الذي يحتكر الشرط الإنساني، وهذا ما نتبيّنه أيضاً عند سيمون دوبوفوار في كتابها “الجنس الثاني” والذي تلاحظ فيه أن ليس ثمة ما يسوّغ خضوع أي
جنس للجنس الآخر.
من جهة ثانية، تواجه عالية ممدوح اليأس بالسخرية والضحك، وهي تعرف أنّ الضحك في الأنظمة العسكرية ممنوع وأنّ المواطنين في بعض مجتمعاتنا (كانوا)، حين يجتمعون ويضحكون،
يقفلون نوافذ منازلهم أو يطفئون الأنوار خشية دهم أجهزة الاستخبارات التي تظنّ أنهم يضحكون أو يتآمرون على السلطة السياسية القائمة. الضحك، في هذا المعنى، يشكل تهديداً للنظام
وللسلطة القمعية. الاستبداد لا يضحك ولا يريد لأحد أن يضحك. الضحك استراحة، وعلى المواطن ألاّ يستريح وأن يظلّ مستنفراً. الديكتاتور عبوس متجهّم ولا يبتسم، وحتى لو ابتسم يكون
لابتسامته صرير أبواب السجون التي لا تتفتح إلاّ لكي توصَد بقوّة من جديد.
الابتسامة، إذاً، ليست فقط انفراجاً في ملامح الوجه وراحة للعين. إنها أيضاً إشارة تَعاطُف والتقاء بالآخر. والكاتبة ترفع سخريتها في وجه الواقع الدموي الأسود وفي وجه التجهّم الذي يخيف
الصغار والكبار على السواء. سخريتها هنا معادِلة للتعاطي النسبي مع الحقيقة، ووقوف ضدّ الحقيقة الواحدة المطلقة. كل حقيقة واحدة مطلقة هي حقيقة مستبدة وقاتلة لأنها لا تأخذ في الاعتبار
وجهات النظر الأخرى وهي مرادف لاحتكار اليقين. عندئذ تصبح وجهة النظر الأخرى، مهما يكن نوعها، من المحرّمات. نذكر في هذا السياق رواية “اسم الوردة” لأمبرتو إيكو. من
المحرّمات التي فرضها القيّمون على الدير من الأصوليين المتزمّتين، الجزء الخاصّ بالكوميديا من كتاب “فنّ الشعر” لأرسطو، لأنّ الكوميديا تقع في باب الضحك، ومن عرف أسرار
الضحك استطاع أن يسخر من كلّ شيء بل واستعمل السخرية لمناهضة السلطة في أشكالها المختلفة. لذلك من كان يصل، أو يحاول الوصول إلى تلك الكتب (أي إلى المعرفة)، كان عقابه
الموت. صحيح أنّ حوادث رواية إيكو تدور في أحد أديرة إيطاليا في القرون الوسطى، لكنها لا تزال تنطبق، في مضامينها وأوصافها، على سائر الذين يعتقدون أنهم يمثلون الحقيقة على
الأرض وأن ما يقولونه هو اليقين وما يصدر عن غيرهم هو الخطأ. وهو هذا المنطق بالذات ما يجعل الأرض خصبة ودائمة الجهوزية للتناحر والاقتتال والحروب.
بجسدها، تكتب عالية ممدوح، بالشجن الذي في قلبها وبالعصب الذي يعنيه أن تكون، في هذا الزمن، عربياً، وعراقياً في الأخصّ. ألم تصرح مرّة بأنها حملت بطل روايتها معها في أسفارها،
وبأنها، حين وصلت إلى الكلمة الأخيرة، بكت. “انتحبت بشجن”. كما لو أنّها أفرغت ما في بدنها وروحها من هذا الجنين الوحش كأنها، لحظة الكتابة بالتحديد، تستحضر الغائب الموجِع، تعود
بصورة افتراضية الى العراق فيما تكتب وتلعن، تصرخ وتضحك، تصفّي حساباتها مع الأوطان الضائعة والأعمار المهدورة في أزمنة البعد والغربة.
وتبقى الأسئلة قائمة: أين القرب ونحن على هذه الدرجة من البعد؟ هل ثمة عودة لأولئك الذين بلغوا هذا الحد من المنفى وطول الانتظار؟ ماذا يبقى من المعلَّقين إلى ما لا نهاية بين ماضٍ
قاهر وحاضر مدمر؟ كأنّ العراق هو الذي ينزف في أجسادهم أو كأن تلك الأجساد مرآة لذاك التصدّع الكبير، من زمن الطغيان إلى زمن الاحتلال. ولفرط ما يطول زمن الحرب، لفرط ما
تصبح الحرب حالة قائمة، نمطاً لتاريخ لا يكتب إلا بالدماء والأوجاع، يصبح الكائن ممزّقاً كخرقة.
عبر الكتابة، لا تواجه عالية ممدوح فقط خوف الحروب، حروب الآخرين علينا وحروبنا بعضنا ضد البعض، وإنما أيضاً الخوف من التردي والبشاعة والابتذال، فتصبح الكتابة الوجهَ الآخر
لفعل العيش. رواية “التشهّي”، كنتاجها بأكمله، نصوص تأتي من الماضي لكنها تذهب أبعد من الماضي وتعانق المستقبل في كلّ كلمة منها. الجريمة كبيرة والحريق كبير، غير أنّ هذا
الحريق لن ينتصر طالما أننا لا نزال قادرين على أن نبتهج ونحن ننظر إلى ورقة خضراء يانعة في الشجرة. هذا ما تقوله عالية ممدوح، وهكذا تحوِّل، بحسب تعبير إيلين سيكسو، “القلبَ
الإنساني إلى حالة كونية تتقاذفها الرياح”.

ملحق النهار الثقافي / الاثنين 31/3/2008
http://www.annahar.com/content.php
priority=11&table=mulhak_thakafi&type=mulhak_thakafi&day=Mon