رأيت رام الله

عالية ممدوح
تبدو عائلة البرغوثي في كتاب ابنها الشاعر / مريد البرغوثي / < رأيت رام الله > مثل كتيبة من المشاة الفرسان الاصحاء ، نسمع دوي خطوهم وانقطاع تنفسهم وهم يطلقون زفيرهم الحامي فيسحبوننا وراءهم الى مهابة المكان الاول ، تلك اللؤلؤة ، فلسطين . فنلحق بهم ، مرة بجوار التصاوير الصافية رغم القدم ، ومرات في قراءة متفحصة لمدونة التاريخ . يميل علينا الشاعر مريد بصوت خفيض وبلا حذق ، بعدما تشققت لهاتة من المرارة والسموم ، سوء الطالع والخديعة ، ليطوح بجميع الروايات المروية من قبل ، عن المتخيل الذي يبدو اشد واكثر واقعية من الواقعي ، وعن كل الوقائع التي لم تعد منسجمة حتى مع نفسها وهو يشاهدها بعد ثلاثين عاما ، فنلحق به طيلة 220 صفحة ، لنتحسس شجرة انسابه ونعول مع سلالة غصاتنا وخيباتنا ، على اتساع رقعة سني عمره ، واعمارنا سويا . باليد اليمنى يضع المراهم وهو يوسع حوض كبده لكي يسع الجنازات اليومية ، ويدير النباتات المتسلقة ، نباتاته في المنافي لكي تواجه فلسطين . وباليسرى كان يبلور تقنيات الكتابة وهي تؤثث خزان الذاكرة وخداعها ، آثارها وألقها . فيكتب ويكتب ، غراما ، خوفا تطيرا من اندثار الذاكرة ، واكثر الاحيان من نشاطها وتدرجات تعذيبها . مريد العائد الى رام الله بعد الويل والهول كجميع المقتلعين من الفردوس ، سيخضعنا معه كقراء اساسين في تجربته ، بين العلاقة الملتبسة ، الماكرة بين المكان الباطني ، الجواني الذي كان ، والذي يهمنا ما يكون ويتكون امامنا بين الافتتان والاحباط ، واكثر الاحيان سوء الفهم والتفاهم ، بين المخاتلة والخديعة من منطلق المبدأ الكوني << الذي يجعل الجراحة تضعف العضو >> هذا العضو ، الذاكرة التي تبدو احيانا غير قابلة للتصديق . هي تتذكر ادق التفاصيل وغير خاضعة للرقابة ، وتندحر وتسهو امام بعض الاحداث الطنانة . هنا تبدو ذاكرة مريد ، سلاحا سريا اشد فتكا من قنبلة ذرية . وهكذا ، كان عليه ان يعلم وليده الوحيد تميم ، ونعلم اولادنا واحفادنا ، ألا ننسى ، قد نسامح نادرا ، قليلا ، لكن لا ننسى . << نحن لا نرفع لها الأغنيات الا لكي نتذكر الاهانة المتجسدة في انتزاعها منا . الاهانة تنقص حياة المهانين . نشيدنا ليس للقداسة السالفة ، بل لجدارتنا الراهنة . فاستمرار الاحتلال يشكل تكذيبا يوميا لهذه الجدارة >> كلما انجز صفحة من القراءة ، كلما يحتشد السؤال : لماذا لا يكتب الشعراء الاصحاء كالبرغوثي روايات ؟ ادونيس كان باهرا في يومياته الشخصية التي صدرت قبل اعوام . درويش في ذاكرة للنسيان كتب الشكل النفيس من اكتمال النثر والسرد الروائي . سعدي يوسف سبق الجمع وكتب رواية بسلوك الشاعر ، فجاءت الرواية بين الانشطار والتبعثر . لماذا لا يكتب عباس بيضون وسامي مهدي الذي قال لي يوما ، انه كتب رواية ، لكن لن تستطيع اية دار عربية نشرها ، لأن الايروتيك فيها قلب اساليب الكتابة . انسي الحاج صاحب مناجم الاحجار الكريمة . حسب الشيخ جعفر ، عبدة وازن وامجد ناصر وغيرهم الخ . لماذا يستبعدون فنهم الجميل وبؤر شعريتهم بالموجودات بكتابة هذا الجنس بانسجام الشعر مع يقين الرواية الضاج لبني البشر في القرن المقبل . البرغوثي في هذا الكتاب ، كاتب من تيلة شديدة النظافة والعافية ، في الدقة والسخرية ، الدعابة والمرح . حتى نرجستية كشاعر مختلفة وغير مألوفة هنا ، في هذا النص . هو مغامر يذهب الى التخيلات بهاجس الحقيقة ، ومفكر يندهش من رهافة وردة الصباح وهي تتحمم امامه بندى فلسطين ، وشاعر لا يشجب المدنس او الشرير لأنه يملك سلطته ، لكنه يبتعد عن المقدس ايضا لكي لا يسقط تحت هلوساته . رايت رام الله ، كتاب مفتاحه تجربة الحب لمحبوبة حبيبة ، وحيدة متوحدة في اللقيا والانتظار ، في النسيان الذي يخاف من مادة التذكر ، وفي غضب الحبيب حين يتشوف المحبوبة بآثامها وذنوبها . المدن العظيمة كالقدس، القاهرة ، بغداد ، بيروت ودمشق ، قد تتحول الى لعنة او مرض او اسطورة ، او فسحة فكرية او مشروع معرفي لاستقراء الشخصية البشرية ، بين التراجيديا والالم . كل هذا وضعه الشاعر وهو ينشىء رهانه وبعد ثلاثين عاما ، كيف يطلع من كيماء الغرام ، وطننا هوليس مجرد شبكة مواصلات واشجار تين ذات عراقة ، لكنه ثنائية بين السماء والارض ، البشر والانبياء. فيخاف الشاعر وهو يجوس الارض المقدسة ، يخاف أرلا يكون متأكدا مما يرى ، فيبدأ يفرمل علامات التاريخ والطريق ، الزعيق الاعلامي والتواطؤ الدولي وقوى الاحتلال السفيهة امامنا ، لكي نذهب معه قاطعين جسر الهواجس والسخط اليومي والذل المهين . فيجرب ان يكون متشددا مع ذاته لكي نكون منصفين معه ومع خفايا الوقائع ، حتى يظل بصره يحلل ولا يتخيل ، يمازح ولا يشمت ، يستفز ولا يزدري . +++ استعرت الكتاب من احدى الصديقات بعدما سألت عنه في مكتبات باريس فلم اعثر عليه . كنت اوشك على البكاء في اثناء قراءة بعض الفقرات او الصفحات ، لكني بدلا من ذلك كنت استعد ثانية للدخول في حالة انشراح من علاقة الكاتب بالكتابة التي تدخلني مدخل حب . كتابة تبلور لك المكان وتشيل ما اصابه والبشر ذاتهم من تكاذب واحتيال ، واحيانا ابتذال ، فيسلمنا كما سلم تميم عدة البناء وقوة الرافعة بعدما اعاد الولاء لشقيقه منيف ، فأعاده لنا كأخ جسد الحنان التراجيدي ، كفارس يمنح ويهب من ثروته وعرقه على تعليم البنات والاولاد وبدون ان يحملك منة الدين او فج الرأس بأوبئة الايديولوجيا . مريد لا يتمرد على الشاعر المتميز داخله ، لكنه يجنده ليحقق معنى شعرية الوجود والامكنة والمخلوقات ، تلك التي تخاف وهي تقف امام الهاوية . ومن هذا المعنى تبدو < رأيت رام الله > مقاربة شعرية لكينونة اللغة في الخفر الانساني والالم الوجودي ، في الكتمان والاندفاع المحسوب ، في التنفس الهادي من تحت تراب المدينة قبل ان تسحب مدينته خارج الكلام او خارج الزمان ، زمانه وزماننا ، في بحث ضار عن سر الجريمة الاولى ، وليست الاخيرة في جدولة مدننا العريقة ومنظومة قيمنا وثقافتنا القومية في اطار النظام العالمي الجديد .