حوار مع الروائية العراقية عالية ممدوح – ترجمة / علي عبد الأمير صالح


((إذا كانت ثمة سلطة أطمح إليها فهي سلطة الفن وسلطة الحرية))
تقديــم :
ولدت عالية ممدوح في سنة 1944 في بغداد، العراق، لأب عراقي وأم سورية أقبل كلاهما من تكريت ونشأت عالية في العاصمة بغداد. هي روائية، كاتبة وصحفية عراقية تعيش في المنفى في باريس، فرنسا. نالت جائزة نجيب محفوظ في الأدب العربي. عُرفتْ بصورة لافتة بكتابها (نفتالين) الذي نال استحساناً واسعاً وتمت ترجمته.
في سنة 1982، بعد أن أكملت دراستها الجامعية في (علم النفس) في الجامعة المستنصرية، ويومذاك كانت رئيس تحرير جريدة (الراصد) الأسبوعية

ومحررة في مجلة (الفكر المعاصر)، قررتْ الرحيل والإقامة في بيروت، ومن ثم فلسطين ولندن، وفي الختام استقرتْ في باريس، حيث تقيم حالياً.
لها الروايات الآتية :
المحبوبات (2005)، الغلامة (2003)، الولع (1993)، هوامش السيدة (ب) (1973)، افتتاحية للضحك (1971)، (وصدرت لها رواية [التشهي] سنة 2007 – م.)
كما أصدرت مجموعتين قصصيتين هما : حبات النفتالين (1986) ، ليلى والذئب (1981) .
تُرجم لها إلى الانجليزية كتابان هما : The loved ones ( المحبوبات ) ، وكتاب Naphtalene : A Novel of Baghdad (نفتالين : رواية عن بغداد)

خلال إقامتها في مركز بومبيدو في باريس، منذ خريف 2001، رسمتْ الكاتبة العراقية عالية ممدوح مكانتها بوصفها كاتبة لا تُقهر وهامشيةً كافحتْ دوماً من أجل حقها في استكشاف إبداعها الخاص. عبر كتابتها الصارمة، الضارية، الحسية تفتش عالية عن شكلٍ من أشكال الواقع الخفي، المنتزع من الأيدلوجيات المنحرفة التي جلبتْ العنف للواقع الإنساني وواصلت إتلاف العالم العربي. بوصفها مراقبة قريبة للحياة الأدبية العربية وللعلاقات بين الشرق والغرب، تتذكر عالية أيضاً مسيرتها كصحافية ثقافية أقامت وعملت في عواصم عربية وغربية، من بغداد إلى بيروت، لندن وأخيراً باريس .

منى شوليه : تُعَرَّفينَ نفسكِِ بكونكِ ((كاتبة حسية))، وهذه الميزة واضحة لكل من يطالع كتبك. هل تقولين بأنه بالنسبة لك الإحساس والوعي مندمجان معاً ؟
عالية ممدوح : الأحاسيس ليستْ افتراضية بالمعنى الذي يجعل إثباتها لاحقاً أمراً ممكناً. أن تكوني حساسة هي طريقة في إدراك شعرية الوجود . إنها كذلك لغة، لسان، وحرية في دمج، في توحيد، الحضارات المتخاصمة. إنني لا أشير إلى ((الشؤون الجنسية البايولوجية))، على الرغم من أهميتها بلغة الذرية البشرية. حين أقول إنني كاتبة متناغمة مع وعيها، أعني الإشارة إلى شكلٍ ما يمكن بواسطته إنجاز الكتابة الخلاقة. من خلال الحضارة الإسلامية، قدّم الأدب العربي أساليب وعلامات – في الشعر والنثر، في فنون السرد والحكايات، في التحليل، وبشكل رئيس في الصوفية (الشرقية). أثث الأدب العربي كذلك مفاهيم خاصة بالميادين المقدسة والدنيوية، مفاهيم كونتْ الإرث الجمالي والبلاغي والتي غمست الأفكار الدنيوية بالقيم الروحية، وبصورة انفرادية حدّثتْ ثيمة الحب المقدس عبر الآلهة، وأبدعتْ استغاثات ايروس بغية الوصول إلى مناطق العقل السرية. بالنسبة لي هذا هو البعد الراديكالي والطليعي لآداب الشرق عموماً – الأدب العربي، اليهودي، الصيني، الياباني.
منى شوليه : ماذا تقصدين بـ ((الميل لكتابة الانتقام)) ؟ هل هي هذه الكتابة التي تسعى للاستجابة للسلطة بدلاً من البحث عن طريقها الخاص ؟
عالية ممدوح : على العكس تماماً. إني أقف ضد الكتابة الانتقامية. فقد بذلت كل ما استطعتُ كي أتخلص من التضمينات الإيديولوجية مهما كانت التي ربما تسللتْ بصورة لا واعية إلى نصوصي وأعمالي السردية. إنها عديمة النفع في الأدب وقلما تستفز المخيلة. في رواياتي، بصورة خاصة، تبنيتُ موقفاً من البرود الشديد في وصف تجربة الحب أو مقامرة الحرية. لا بل إنني حتى لا أنظر للموت بكراهية. الموت يهب القوة لبعض الشخصيات في رواياتي، مع أن البغضاء، الخوف، والرعب كلها تطيع القواعد الاجتماعية فضلاً عن القواعد النصية. ذكر أحدهم فكرة ((الخشونة بوصفها طريقة حياة))، خشونة تتوسع إلى رقة باردة، ذلك أنها تتلاءم مع ما يجري حولنا. أعتقد أن الكتابة ضرب من اندماج الذات، وإذا كانت ثمة سلطة أطمح إليها، فهي بالتأكيد ليست السلطة السياسية إنما سلطة الفن وسلطة الحرية.
منى شوليه : في (حبات النفتالين) ونصك الخاص بـ(تنفيذ حكم Auto dafe)، أشرتِ إلى حلقات عائلية حيث يجسد الأب السلطة وليس ثمة فرد آخر من أفراد الأسرة مؤهل لأن يشغل حيزاً شخصياً. قارنتِ هذه العلاقة مع هيرون، الطاغية الذي فرض الصمت على رعيته. هل تملكين الإحساس بأن نشوءكِ في حلقة كهذه هو الذي هيأكِ كي تجابهي السلطة في سياقٍ أوسع، أي بمعنى سلطة ذات امتداد قومي؟
عالية ممدوح : هذا صحيح بشكلٍ من الأشكال. هيرون سرقوسة، طاغية القرن الخامس قبل الميلاد، كان غايةً في الفظاظة بحيث منع رعاياه من التكلم. على أية حال، الفاشية لم ترغم الناس على الكف عن الكلام؛ بل على العكس، أرغمتهم على التكلم. على مدى قرون عدة، سعى الكتاب الحقيقيون على النضال ضد الاجرائين المتطرفين كليهما: حظر التحدث والإرغام على التكلم. تزدهر الحرية دوماً حين تزداد الاختلافات بين الآراء، المجتمعات، والأمم. ولأنني لم أنضم الى حزب سياسي في بلدي، تبقى الكتابة هي الميدان العميق لكفاحي الشخصي. ما من أحد يملك الحقيقة : الحقائق منتشرة من حولنا وعلينا أن نبحث عنها في باطن، داخل كل واحد منا. لهذا السبب يبدو الفن أحياناً أثمن من الحقيقة .
منى شوليه : يبدو أنكِ تقولين إن الأدب العربي يعاني من جهةٍ من الحقيقة القائلة إن الكتاب العرب يسمحون لأن يُملى عليهم مسارهم، ومن الجهة الثانية، يعانون من الحقيقة التي مفادها أن (الغرب)، حتى وهو يبدو أنه يسعى لفهم الموضوع، يملك حصراً إدراكاً سطحياً للثقافة العربية ولا يسمع سوى تلك الأشياء التي تنسجم مع وجهات نظره المتحيزة. ما هي الحالات التي تفكرين بها من أجل تغيير أكثر إقناعاً؟
عالية ممدوح : هذا السؤال يعود بنا إلى التاريخ، إلى الحقبة الدموية حين عانتْ مجتمعاتنا من الاستعمار الفرنسي والبريطاني. ذلك أن (الغرب) ليس عقبةً، على الرغم من الحقيقة التي مفادها إن الاعتداء علينا في الماضي (وما يزال مستمراً حتى يومنا هذا) له حجم الطوفان، طالما أن (واشنطن) نهبت ثروة القوتين الاستعماريتين السابقتين وأصبحت نموذجاً للهيمنة عبر الشركات الهائلة، القواعد العسكرية المنتشرة في أكثر من ألف موقع في أرجاء العلم كلها، والمخزون الاحتياطي من الأسلحة النووية.
الغرب ما يزال غير قادر على فهم العرب وطموحاتهم. الاختلافات في اللغة، الدين، المنطق، الفكر، المفاهيم المتباينة عن الحرية والحقيقة، الشرف والعائلة، الصداقة والكرم، هذه الاختلافات كلها أدت، وما تزال تؤدي، إلى إساءات فهم بين العرب والغرب. بعد الحرب الكونية الثانية بدأ المفكرون والفنانون العرب يدرسون الفن والأدب في الغرب. في بغداد، وجد الشعراء صوتاً قريباً من صوتهم في قصيدة ت. س. اليوت الشهيرة (أرض اليباب). أما ما يخص فرنسا، فقد اخترقتها الثقافة العربية – الإسلامية عبر التراكم البطيء للأعمال التي أنجزها الكتاب والفنانون الفرنسيون الذين استقوا إلهامهم من التراث العربي (المقصود الكتاب العرب الذين يكتبون بالفرنسية والفنانون الفرنسيون الذين أقاموا ردحاً من الزمن في المدن العربية وبخاصة مدن المغرب العربي – م.). بريطانيا من الناحية الأخرى أبدت اهتماماً أقل بالعرب أنفسهم، في حين أثارتْ ضجةً كبيرةً في ما يتعلق بالأبطال الذين لعبوا دوراً جوهرياً في البلدان العربية، على غرار ت.إي. لورنس( ). أما الأمريكان، فكانوا مولعين فقط بالبترول وكيفية توزيعه عبر الشركات متعددة الجنسيات.
وحتى (الغربيين) الذين أقاموا في البلدان العربية على مدى حقبة زمنية طويلة ظلوا عند هوامش المجتمع العربي. حبسوا أنفسهم في منازلهم مكيفة الهواء ولم يبذلوا أي مجهود مهما كان كي يحافظوا على تماسات غير منحازة مع السكان المحليين. إن الحقيقة المحزنة وظاهرية التناقض هي إن العرب يبدون وكأنهم يملكون إدراكاً واضحاً للغرب أكثر مما يملكه الغربيون للعرب. قال أحد الكتاب العرب ذات مرة كلما كان تأثير الغرب أعظم على مجتمعاتنا، ابتعدنا عنه أكثر. بهذا المعنى، فرض (الغرب) أساليب تفكيره، طرائقه، وصنوف تحليلاته، اقتصاده، علومه التجريبية، نظريات النقد الأدبي، إلخ .. إلا إنهم لم يبتكروا طرائق جديدة كي ينسجموا معنا ويفهموننا. في نظر (الغرب) نحن موضوع صالح للاستعمال بطرائق شتى. أحياناً يُنظر إلينا بوصفنا ممهدين للعنف والإرهاب.
من وجهة النظر هذه، إن الإرث الثقافي يجسد مزيجاً من عناصر مختلفة كثيرة – عناصر عربية، شرقية، وأوروبية. هذا هو الذي يحدث مع الحضارات الإنسانية. ليس ثمة شيء اسمه حضارة خالصة. لهذا السبب فإن جهود فرنسا في استكشاف التراث العربي، قديمة وحديثة على السواء، مهمة جداً. إنها تؤشر عودةً إلى منابع تراثها الثقافي البارز وإلى الرسالة الإنسانية لـ (ثورتها) وقوانينها الأولى. ما أنجزه دارا النشر (أكتس سود Actes Sud) و (سندباد) منذ سبعينات القرن العشرين ويواصلان إنجازه هو عمل منصف : الاهتمام الخاص الثمين والمحب بأجيال من المؤلفين العرب، رجالاً ونساءً. ومع أن نتاج العرب يفوق قدرات ذينك الدارين والتغطية الصحفية كانت ضعيفةً إلى حدٍ كبير، فهي بداية، وهذا هو المهم. إني لا أدّعي ان النتاج العربي يضم كتباً استثنائية، رائعة، إلا أنني أحكم من خلال الأعمال المترجمة من الأدب الغربي التي قرأتها، كتاب عرب كثيرون تفوقوا جمالاً وعمقاً على نتاج المؤلفين الأوربيين المنشور في (الغرب). اقترح زيادة عدد الأعمال المترجمة من العربية إلى اللغات الأوربية، وأناشد (الغرب) أن يولي مزيداً من الاهتمام بذلك ((الآخر)) أكثر مما يفعله راهناً.
منى شوليه : كتبتِ أيضاً ((من خلال ملاحظاتي، يبدو لي على مر السنوات الثلاثين الأخيرة، تكوّنت لغة سرية في داخل اللغة العربية)). هل يمكنكِ أن تشرحي هذا قليلاً ؟
عالية ممدوح : بـ ((اللغة السرية)) أعني التجارب الخلاقة للمؤلفين العرب في لبنان، مصر، سوريا، العراق، فضلاً عن المملكة العربية السعودية: ابتكاراتهم، اشتغالهم على اللغة والسرد، خلقهم لأساليب تتجاوز تقنياً الحقائق الواقعية، إصرارهم على تطوير رؤية لا تهيمن عليها (وجهة النظر السياسية الأوربية). ما يسميه الناس (الغزو الثقافي) – الأمر الذي تعاني منه فرنسا خاصةً في مواجهتها الثقافية مع الولايات المتحدة الأمريكية – فتح (أي الغزو) لنا وللآخرين في (الشرق الأدنى) إمكانية مساءلة الأشياء كلها وأصبحنا واعين جذرياً بالأوهام التي أنتجتها الحداثة بوصفها مقترباً عقلانياً، والتي جاءت نتيجةً لفشل الثورات والأساليب التي ناصرها الفكر الثوري والثقافة العالمية. هذا كله من دون أي انسحاب استبطاني، أي انغماس في المعاصي، كما هي الحال مع عدد معين من الأعمال العربية المحدثة. إن الناقد النزيه القادر على قراءة هذا النتاج وفهم مراميه ، مساراته ومؤلفيه سيكتشف لغةً مختلفةً، منطقاً مختلفاً، وتحليلاً مختلفاً في ثنايا النصوص التي يبقى خلقها، كتابتها، وكونُها: تحدياً ثابتاً لنا.
منى شوليه : صنعتِ لكِ اسماً بوصفكِ صحفية قبل أن تصبحي معروفة ككاتبة. ما الذي أتى بكِ إلى الصحافة؟
عالية ممدوح : معظم الصحف في البلدان التي نالتْ استقلالها منذ عهد قريب، كالبلدان العربية، ناطقة بلسان حال الأحزاب السياسية، سواء كانت أحزاب معارضة كالحزب الشيوعي العراقي أو الأحزاب التي في السلطة كحزب البعث. لكل حزب سياسي جريدته، دورياته، متابعاته، وأدواته الدعائية. ولأن المجتمع المدني كان قد أخفق حتى ذلك الوقت في أن يتطور بطريقة متماسكة، فإن الكتاب المستقلين، وأعد نفسي واحدةً من صفوفهم، بذلوا قصارى جهودهم كي يحرروا أنفسهم من قيود الإيديولوجية، ومفاهيمها الكونية التي لها تأثير سلبي على الأدب والثقافة. عملتُ لصالح جريدة في القطاع الخاص وكنتُ رئيس تحريرها على مدى سنوات عدة؛ على الرغم من نفوذ الفكر السائر في خط حزب البعث، اكتشفتُ طرائق في التحايل على السلطات ونشر آراء تخلصتْ من الشبكة الفكرية إلى حدٍ ما. عالم الثقافة، وهو ميداني، منحني الفرص كي أكتشف ما الذي يجري من حولي في العراق. أصبحتُ معروفةً من خلال الصحافة، لكنني في الوقت ذاته كنتُ مشغولة بكتابة القصص القصيرة والنصوص المفتوحة و، في النهاية، بكتابة رواية. وبعدها غادرت العراق سنة 1982 وخيراً فعلت..
منى شوليه : كيف تربطين بين أنشطتك الصحفية وعملك الأدبي؟
عالية ممدوح : الكتابة للصحافة عمل ملح، عمل مؤقت يجف في ساعات قلائل.. مع ذلك الصحافة تقوّي العلاقة مع الناس الآخرين، مع الناس في محيط المرء، ومع المظاهر الخارجية، المسؤوليات المباشرة، مراكز السلطة، مع الفساد قديمه وجديده، مع الملائكة والشياطين. الصحافة من خلال التجارب الإنسانية، تهب الكاتب كذلك تنوعاً كبيراً من العناصر. مرةً أشرتُ إلى الصحافة بوصفها (الطاهي) لأنها تجعلكِ تأخذين عينةً من كل صنوف الأطعمة اللذيذة من القدور كلها. لكنكِ في النهاية تمسحين شفتيكِ وتشرعين بطهي طبقك المفضل، إبداعكِ الخاص، كتابتك الخاصة.
في (الغلامة)، روايتي الأخيرة التي نشرت قبل أكثر من سنة، نقبتُ في موضوعي بواسطة وصف العلاقات بين المستخدمين في الجريدة حيث عملتُ على مدى سنوات عدة في بغداد ومن خلال استذكار المثقفين العراقيين الذين إلتقيتهم في ميدان الثقافة. انتظرتُ ما يزيد عشرين سنة كي أضع رؤيتي للمثقف، كما اكتشفته، في هذه الرواية. المثقفون العرب أشبه بالفزاعات في الحدائق والحقول؛ يحاولون أن يخوَّفوا، أن يتمردوا ضد السلطة السياسية؛ إنهم أنيقون، معطرون، ومليئون بالنظريات والأوهام. إنهم آخر نتاج الأيديولوجيات العربية – نتاج تم إضعافه بواسطة العجرفة الأوربية البالية والانحطاط العربي في السنوات الخوالي. حيث يبدو المثقف صلباً جداً وخائفاً جداً في موقفه تجاه النساء، وهذا ملحوظ عند المثقف الشيوعي والبعثي على السواء: إنه يغضب إذا أظهرتْ زوجته رغبةً جنسيةً نحوه، لا بل يعاملها كمومس لأنها فعلتْ ذلك.
منى شوليه : تحت أي ظروف أُرغمتِ على مغادرة العراق سنة 1982 ؟
عالية ممدوح : لم يرغمني أحد على المغادرة. باختصار، أردتُ أن أمتنع عن إرسال ابني إلى الجبهة حيث كان مطلوباً منه الذهاب لتلقي التدريب العسكري في فصل الصيف، وهي الطريقة الوحيدة لغلامٍ كي لا يكون جندياً بعد تركه الدراسة الثانوية، وأن يتم زجه في حرب مجنونة ودموية. إنني أتحدث عن الحرب العراقية – الإيرانية. تنقلتُ مع ابني من عاصمة إلى عاصمة، وجربتُ المعاناة العميقة للمهاجرين، مع أن الحياة في مختلف العواصم الأوربية والعربية هبة رائعة للكاتب. إن فقدان موطني الأول منحني في الختام قوةً معنويةً وطريقةً في التفكير والعيش بصورة مختلفة، فضلاً عن الصحة المعنوية الايجابية التي تجعلني أتجاوز المعاناة فقط حين أستدعيها بوصفها عامل إبداع، وهذا منح حياتي إنفتاحات أكبر ومعاناتي مزيداً من الإنسانية.
منى شوليه : كيف مُنعتِ من العمل قبيل مغادرتك العراق ؟
عالية ممدوح : في العراق، نشرتُ وعملتُ في الحقل الثقافي. لم يفرض عليّ الامتناع عن الكتابة، إلا أن صفحات كاملة من مجموعتي القصصية (ليلى والذئب) منعتها الرقابة، كما مُنعت أيضاً سطور وتعابير كثيرة جداً في مقالاتي. كان هنالك رقيب يعمل باسم الحكومة؛ يقرأ ويراقب ما ينشره الكتاب ((المخادعون والمحرضون)) (وهما المصطلحان اللذان يستخدمهما الرقيب لوصف العديد منا). بعدها يبدأ بمراقبة سطور وحتى نصوص كاملة، طيلة الوقت المؤلف، الفنان، أو الشاعر يودع السجن. الأنظمة الشمولية لا تتحمل أن يكون الفرد هو نفسه، وإذا ما حاول شخص ما أن يفعل ذلك – أن يكون هو نفسه – فببساطة يلزمه أن يدفع الثمن.
منى شوليه : هل صادفتِ مشاكل مشابهة في البلدان التي عملتِ فيها لاحقاً؟ هل تستطيع كتاباتكِ أن تدور بحرية في العالم العربي راهناً ؟
عالية ممدوح : لا، أبداً . في البدء عملتُ، ونشرتُ في بيروت في مطلع سبعينات القرن العشرين، في الوقت الذي كنتُ مقيمةً هناك. من بين العواصم العربية، بيروت هي العاصمة التي منحت الكتاب العرب حريةً كاملةً، وجميع المؤلفين أفادوا منها إلى درجة قصوى. حياتها الثقافية كانت غنيةً جداً بحيث يصعب علينا أن نجمعها في صفحات قلائل (أعمل الآن على كتاب عن المدن والكتابة). معظم كتبي نُشرت في بيروت. عملتُ لصالح الصحافة اللبنانية ونشرتُ قطعاً أدبية في الدوريات المهمة في الحقل الثقافي. بصورة غريبة ومتناقضة ظاهرياً، أبحرتُ بين تيارات مختلفة، نشرتُ غالباً في صحيفة الجناح اليميني الشهيرة (النهار) أو في المجلة النقدية (مواقف) التي كان يديرها الشاعر الكبير أدونيس، وفي أحيان أخرى في مجلة الحزب الشيوعي اللبناني (الطريق). كتبتُ كل ما خطر ببالي ووصفت كل ما أشعر به. طبعتُ كتابي الأول، وهو مجموعة قصصية، في بيروت فضلاً عن روايتي الأخيرة. ذلك إن بيروت كالرباط حيث أقمتُ فيها أيضاً، تتيح التعبير الأكثر كمالاً، جمالاً، وجرأةً في العالم.
منى شوليه : هل غيّر المنفى أسلوب كتابتك ورأيك في عملك؟
عالية ممدوح : البشر يولدون منفيين أصلاً. والكتاب معزولون بصورة خاصة. ثمة كتاب يحتكرون اهتمام الجميع ولا يتركون شيئاً للكتاب الآخرين. يسمي الناس هذا غطرسة، لكنني أؤكد ان هذا نوع من التحفظ والتواضع المنبثقين من الضوء القوي الذي يبعثر بذور الإبداع. الكتابة يجب أن تقربكِ من (الآخر)، في حين يجب على الكاتب أن يكون مراوغاً كلياً. بعد بيروت، أتيتُ إلى باريس. تحدثت عن باريس في حوار تلفازي لتلفاز (الجزيرة)، الذي يُبث من قطر. باريس وضعتني في منتصف الطريق. لقد أغنتْ لغتي، قصصي، تحليلاتي، وشخصياتي. اكتشفتُ أشياءً كثيرةً عن نفسي هنا، وجدتُ إنني طورتُ في داخلي إحساساً بالهزء، بالشفقة، بالضحك، بالهزل، بالشجاعة، بالحماسة، شعوراً بالوجود. أصبح أسلوبي أكثر إتقاناً، أكثر دفئاً وأقل تحريضاً. على الرغم من الصعوبة التي ألاقيها في التواصل مع الناس بالفرنسية، أواجه العالم هنا، وحيدةً وبطريقةٍ جديدة. يبدو لي كما لو أن اللغة لم تعدْ مقتصرة على بناء الجملة والتبادلات المباشرة للكلمات. في حالتي الخاصة، اللغة هي انفتاح على الحياة والعالم، هي مقاومة للقبح، ومجهود من أجل الاستفهام بصورةٍ أدق. لا ريب إني محظوظة، وسعيدة جداً هنا، أنتظر العثور على نماذج جديدة لشخصياتي الروائية، وبين يديّ سوف تبدو وكأنها تعرف أنها ستستنشق الهواء الفرنسي الحر والمنشط.
منى شوليه : ما هو رأيك بالطريقة التي ينظر فيها (الغرب) للعالم العربي ؟ هل ثمة عناصر في الثقافة الغربية تجدينها مفيدةً، في سبيل المثال في كفاحكِ من أجل حقوق النساء ؟
عالية ممدوح : أجبتُ قبلاً على هذا السؤال جزئياً وأعتقد أنني أوضحتُ موقفي . إن الكفاح من أجل حقوق النساء، في سبيل المثال، ليس هو المنطقة التي كنتُ ناشطةً فيها؛ إذ أنني لم أنضم إلى أي جمعية من ذلك الصنف. كفاحي (إذا ما استخدمتُ كلمةً لا أحبذها شخصياً) هو أن أناشد عبر الكتابة أن يكون العالم ملكاً مشاعاً للبشرية كلها من السلالات كلها، المجموعات العرقية كلها، الألوان كلها. لا (الغرب) و(الشرق) اخترع الحقيقة. فكيف تتوقعين مني، أنا العراقية، التي تعرض بلدها للدمار والمجازر، أن أثق بالغربيين – بالأمريكان وأن أتقبل الحقيقة القائلة إنهم الوحيدون على وجه البسيطة وفي الكون الذي يملكون الحقيقة، في وقتٍ لم يسيروا خطوةً واحدةً باتجاه ثقافتي، وجودي، لغتي؟ نحن نعيش على الكوكب نفسه ونتقاسم المصير ذاته. لذا فنحن محكومون بالتحاور، وأن ننسجم مع أحدنا الآخر. الإبداع هو أحد السبل التي يجب علينا من خلالها أن نتعرف على الناس الآخرين، بدلاً من أن نسحقهم وندمرهم، نبيدهم، ونستخدم الذرائع كلها كي نبدي احتقارنا لهم. لهذا السبب أقدّر قرارك في أن تحاوري كاتبة عراقية. عبر نقدك وعبر (البرلمان العالمي للكتاب)، إنني واثقة، من أن الكتاب، سوف ينجحون في تحقيق أشياءٍ من خلال شجب القمع و الظلم وإدانتهما. أتمنى أن نجد معاً طريقاً في صد الموت والظلم اللذين يهطلان كالمطر على المدن الموغلة في القِدم، المدن التي تموت وسط لا مبالاة الكون كله.
منى شوليه : هل تقولين أن النساء في الأرجح أقل من الرجال في أن يجعلن أنفسهن يُلقنَّ مبادئ حزبٍ ما وأن يخضعن للعب دور مختزل ؟
عالية ممدوح : لستُ منظِرة ولا عالمة اجتماع، وإني بالتأكيد لستُ منجذبةً إلى النظريات النسوية التي قدمتها المجموعات الفرنسية أو الأمريكية التي أنشأت النقد النسوي والتي، تحت السماء الواقية للراديكالية، تنتج تبسيطات وتنوعات شتى من التطرّف في منطقة واحدة، الجسد– مع أن الجسد بالتأكيد مهم وضروري. إن الجدال حول هذا الموضوع لم ينتهِ بعد ولن ينتهي أبداً في المستقبل المنظور. لستُ في منزلة كي أقدّم أحكاماً محددةً في مسألة ما إذا من اليسير أن نقنع النساء بسهولة في أن يصبحن مناضلات، أو ما إذا سوف يقبلن في المستقبل خطاً حزبياً إلى الحد الذي يقللن فيه استقلالهن .
أعرف إنه في أفريقيا، آسيا، أمريكا اللاتينية وأجزاء من أوربا من مثل اسبانيا، البرتغال، واليونان، تعاني النساء من الظلم، الفقر، الكبت، شأنهن شأن الرجال، لكنني أعرف أيضاً إنهن يجب ألا يرفضن التحالفات مع الرجال. هذه التحالفات أساسية، بخاصةٍ إذا كن يرغبن بأن يواصلن كفاحهن الثوري والإنساني. لا الاشتراكية ولا الرأسمالية، لا اليسار ولا اليمين، لا الفوضوية ولا الحركات النسوية الراديكالية، لا التمركزية في الحالة النسوية في علاقتها بالتمركزية في الحالة الذكورية، تجعل دفع في حالة النساء إلى الأمام ممكناً في القريب العاجل. كل هذه الخصومات، المفاهيم، الحركات : مفيدة ورائعة إذا ما نظر إليها من زاوية معينة، لكنها مجرد بداية لا غير. ثمة حاجة صارخة للبحث والنقاش الجدي في سياق الستراتيجيات الجديدة التي نحتاج نحن البشر، رجالاً ونساءً، إلى اختراعها أو اكتشافها. نحتاج إلى أن ننخرط في بحث طويل، وشاق كي نتعلم كلمات التمرد وأن نكون قادرين على إعادة قراءة تاريخ الاضطهاد – اضطهاد النساء بشكل رئيس، ولكن أيضاً اضطهاد الرجال – ذلك أنه في خاتمة المطاف، ما تجربه النساء لا ينفصل بايولوجياً، أو عنصرياً، أو عِرقياً، لأنهن لا يعشن معزولات عن بعضهن. ما يسمم حياتهن هو في النهاية ما يسمم حياة أزواجهن، حياة الرجال، وبالنتيجة يسمم كل ما هو قريب منا – الطبيعة، الوجود، والحياة.
منى شوليه : إنكِ تكادين تقولين إن العالم العربي المعاصر، بخاصة العراق، يعاني من وفرة من المذاهب والأيديولوجيات، خضع لها على التوالي. بغض النظر عن وضع العراق الخاص بسبب الحصار الاقتصادي، كيف يمكن، في رأيك، تغيير هذا الوضع؟ هل يستطيع الكُتاب أن يفعلوا شيئاً كي يجعلوا الأشياء تتحرك؟
عالية ممدوح : لم ندخل بعدْ العصر الذي تكون فيه الأيديولوجيات ميتةً ومنسيةً كنا نعتقد أننا دخلناه عند المؤتمر الشهير لسنة 1955 (تقصد الكاتبة مؤتمر دول عدم الانحياز المنعقد في باندونغ – م.) الذي أعلن المشاركون فيه نهاية عهد الأيديولوجيات. إلا أن جثة الأيديولوجيات نُثرتْ في أرجاء العالم كلها، وتسلّمت البلدان العربية حصتها منها، مع منظماتها، أحزابها التي تكاثرتْ كالفطر، مذاهبها، السياسية وغير السياسية، كالماركسية، الموضوعانية، الظاهراتية (الفينومينولوجيا)، إلخ، ناهيك عن ذكر الاشتراكية، الرأسمالية، اللبرالية، التقدمية، الفاشية، النازية. كما لم تكن البلدان العربية غريبةً عن المذاهب التي شكلتها الشخصيات الرئيسة من مثل ماو، فرانكو، جيفارا، ستالين، جمال عبد الناصر، تروتسكي، لينين، وذريتهم. لكنكِ إذا عاينتِ التتابع الزمني (الكرونولوجي) لهذه الايديولوجيات في (العالم الثالث) منذ منتصف القرن الأخير، ستجدين أنها ازدهرت وتشكلتْ في أزمنة مختلفة. إذا ما دفعتِ هذا التحليل أبعد قليلاً، على أية حال، ستصلين إلى اللامكان، ذلك أن كل شيء يبدو اليوم مبهماً وكارثياً. تحت نير هذه الايديولوجيات ظهرتْ شخصيات عظيمة، قُتل ملايين البشر، وكانت النتيجة دمار مروَّع. وهي ترفع شعارات الاشتراكية والقومية، زمر عسكرية استحوذتْ على السلطة وسُحق الفرد. جموع البشر كنستها هيستيريا الانتقام من أحزاب المعارضة. هذا هو الذي جرى في بلدي المنقسم إلى حزبين، حزب البعث والحزب الشيوعي، الذي إنضم إلى المعارضة.
النضال ضد (الغرب)، الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، الحروب العربية الإسرائيلية المتتالية، الحروب الأهلية كتلك التي جرتْ في لبنان ومؤخراً في الجزائر، الثورة الإسلامية في إيران وظهور الأصولية الإسلامية، كما سُميت، احتلال الكويت من قبل العراق، هذه الوقائع كلها التي ينبغي أن نضيف إليها خنق حقوق الإنسان من قبل هذه الأنظمة، حلول العهد الذي أصبحت فيه الولايات المتحدة الأمريكية القوة العظمى في عالم متمركز لم يعد يطيق الاستقلال… ما الذي يستطيع أن يفعله الكاتب وهو وحيد ومعزول، إما نتيجة قرار شخصي، أو بسبب كونه في المنفى أو كونه معتقلاً في وطنه؟ كيف لا، بوصفي عراقية وأنا أرى الطائرات الأمريكية والبريطانية تقصف بلدي يومياً من على شاشاة التلفاز، كيف لا أدين وألعن، ومن ثم أكتب، أحتج، أتظاهر مع الآخرين كي أطلب نهاية للمجزرة ولتخريب واحد من أقدم البلدان في العالم؟ ما أهمية كل الكتب في العالم أجمع مقارنةً بأنين البشر في العراق، فلسطين والبوسنة؟
منى شوليه : تقولين أنكِ الآن ترفضين مفهوم التوحيد على أساس المساواة. هل تستثنين كليا إمكانية الأشكال الايجابية من التوحيد على أساس المساواة، حتى بالنسبة لكاتبة قررتْ أن تحافظ على استقلالها؟
عالية ممدوح : إني لا أرفض التوحيد على أساس المساواة انطلاقاً من موقف عنصري أو عِرقي. أنا متمسكة بموقفي، الذي وصفته بكونه ((تلقائياً)) أو ((غير مقصود)). لدّي ألفة حقيقية مع الناس هنا في باريس. إني أواجههم على مستوى اللغة، لغتهم، غير أننا نفهم دوماً أحدنا الآخر. اللغة ليستْ دوماً هي أفضل السبل التي نملكها نحن البشر والتي نستطيع من خلالها معرفة أحدنا الآخر، واللغة وحدها لا تكفي للتواصل مع ما ترغبه وتحبه. إني أحيا هنا في حالةٍ من الحيوية الخلاقة التي لم أعرف مثيلاً لها في أي عاصمة أخرى تحدثت فيها باللغة، وهذا شيء مدهش، في حقيقة الأمر.
بالنسبة للشبيبة من كلا الجنسين التوحيد على أساس المساواة ربما يكون وسيلةً مقنعةً في منع الذات من أن تُؤذى أو تُحطم ومن أجل حمايتها من التهديدات الخارجية. إنما في عمري، أشعر في الوقت نفسه بأني مشتملة على التوحيد على أساس المساواة ومقصية عنه. حتى قبل أن أغادر بلدي، العراق، كان لديّ مسحة فوضوية ورغبة لا حد لها للتمرد. اخترتُ أن أكون كاتبة على الحافة، لكنني لستُ هامشية. أحس إني منسجمة مع أولئك الناس الذين أعمل وسطهم، مع أنني لا أتكلم الفرنسية، ولديّ صديقات عزيزات عليّ ومهمات في حياتي.
القانون الفرنسي يضمن دعماً جوهرياً للأجانب مثلي، بلغة الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية. إنه قانون عادل وإنساني. القوانين تعني لي شيئاً كبيراً بوصفي مهاجرة، القوانين تُعنى بالقومية، العمل، البطالة. لكنها امتدتْ لي بوصفي مواطنة عراقية تملك رخصة إقامة وتتمتع بفوائد عديدة وبحماية حريتها وشرفها وأكن احتراماً لقوانين كهذه .