حاورته: عالية ممدوح
دعاني الروائي البارع حبيب عبدالرب سروري إلى مركبته الفضائية التي اقلعت بنا وأنا أقرأ روايته الساحرة حفيد سندباد الصادرة هذا العام عن دار الساقي. كنت أتلمس طريقي المحفوف بالإثارة والمتعة بين فصول وصفحات وشخصيات هذا العمل المعرفي المهم. من المرات النادرة التي يستفاد، بالمعنى البراغماتي، فنان من وظيفته كأستاذ في البرمجيات والحواسيب وما لا أعرفه فعلا في هذه الفيوض المعرفية المدوخة التي قدمها بيسر فاتن. فيوم نلتقي سويا اتصوره سوف يقفر من أمامي عائداً إلى الفضاء وداخلا للمركبة المركونة في أبعد بقعة من الكون فلا أقدر على اللقاء به ثانية، ربما، إلا في عمل روائي جديد. أمر غير نافع أبداً اختصارها أو الإمساك بكبدها، لكني، وأنا أقرأ شعرت بفزع حقيقي، فهذه رواية تضعضع القارئ، لروائي يشتغل على مفهوم الزمن والنت والعولمة والغد. رواية وطنها السرد الآسر والأفكار المتألقة والمعارف التي لم تقف عند حدود، بدءا من سقوط دول وليس انتهاء بصعود اخرى. فزعي يتضاعف على مدى الصفحات عندما يشرّح، كيف تسقط «المدن الخالدة» وأنا عشت سقوط بغداد الأسرع من سقوط روما. عال، إنه السقوط الأقل ترويعاً وأسراعاً بسبب العولمة. « يخطر ببالي دوما أن الحضارة البشرية ستنهار يوما، ذات صيف بالتأكيد،
كما هو الحال منذ سقوط روما وحتى صيفنا الشواشي هذا الذي يشبه، أقل أو أكثر، صيف، نهايات الحضارات، وحالة الطوارئ الاستثنائية على مستوى الكوكب اليوم 30 يوليو 2027، لا تبشر بالخير». قلت، علينا سؤاله حول ما أصابنا بالخوف ومما ينتظر كوكبنا، فكان هذا الحوار:
وأنا أقرأ عملك الساحر ـ حفيد سندباد ـ، شغلت كما شغل، ربما، معظم القراء بالآتي، ترى ما الحل لهذا الإنسان الجبار الأناني والهش أيضا؟
قبل الرد أسمحي لي أن أذكّر القارئ العزيز أن كل أحداث الرواية تدور خلال ثلاثين ساعة فقط، كارِثيّةٍ جدّاً في حياة كوكب الأرض، بدأت في صباح 30 يوليو 2027!
لكنها مفعمة بتنقّلات زجزاجية لا تتوقف في المكان والزمان، خلال نصف قرن سبق هاذين اليومين. يبدو خلالها كوكبنا الأزرق، أكثر فأكثر: قرية صغيرة تقع في أطراف أصابع نادر الغريب، بطل الرواية.
تاريخ أرضنا منذ سبعينات القرن الماضي تعبر الرواية من خلال تقاطع حيوات وصراعات شخوص الرواية. ترتسم خلالها جليا اتجاه السنوات القادمة حتى 2027، حيث تتفجّر أحداث كبرى تهز كوكب الأرض.
مآل الإنسان في نهاية الرواية يرسم معالم حلٍّ مفتوحٍ ما: هروب الراوي للحياة في “القرية” التي تنتج وتعيش وتتكامل على نحوٍ ينسجم مع إيقاع الطبيعة البدائي، بعيداً عن التعقيدات والمصالح الأنانية لقوى المال التي تهيمن على كوكب الأرض وتقوده إلى كارثة يوليو 2027.
“القرية” في الرواية (لها أيضاً اسم آخر رمزي: “وادي عبقر”) تقع قرب البحر المفتوح على الشرق والغرب. تلتقي فيها التكنولوجيا بالميثولوجيا، الثقافة والفن بالكمبيوتر.
هي، كما يبدو ربما، مستقبل الراوي أيضاً (مع أو بدون روبوته؟ سؤال مفتوح، لغز!)…
هذه الحياة الجديدة هي المخرج ربما، إن كان ثمّة أمل بمخرج لمستقبل الأرض!…
هشمت روايتك الحاضر، وعموم النصب الخالدة وعلى رأسها برج أيفل، على سبيل المثال، ترى، هل يستحق العلم أن يسحق حياة البشر إلى هذه الدرجة؟ ألم يخامرك ولو للحظة أن بعض ـ الجهل ـ بالعلم أجمل.. ؟ أو أرحم ؟
لا أظن أن العلم هو المتهم في الحقيقة. السياسة والأيديولوجيا اللذان يستخدمان العلم بطريقة لا إنسانية هما جذرا كل الكوارث.
القنبلة الذرية مثلا يمكن استخدامها لتفتيت كويكب في الفضاء يوشك أن يرتطم بالأرض، قبل دخوله الغلاف الجوي، وإنقاذ حياة البشرية لذلك. ويمكن استخدامها لمحو قارات من خارطة الأرض وإبادة الملايين.
قرار الاختيار سياسي بحت، لا يتخذه الباحثون في المختبرات العلمية.
لا شك أن الطغيان والإرهاب الذي يستخدم العلم لسحق الإنسان، بجانب أنانية الدول الكبرى وهي تقود كوكب الأرض للمجهول بيئيا واجتماعيا واقتصاديا، هم مصدر كل الكوارث.
أما الجهل الذي تتساءلين ببراءة مبررة، عزيزتي الأستاذة عالية، عن كونه حميداً في ظل هذه الخرائب، فهو في الحقيقة الطامة الكبرى: ففي عصور ما قبل العلم الحديث، وفي فجر تاريخ الإنسان، كان حصاد القتل والتدمير في كوكب الأرض أكبر مما عرفه القرن العشرين، أو ما نعرفه اليوم!
روبوت عالم الغد هو ما يستخدم الآن في اليابان والولايات المتحدة ويقوم ببعض الأعمال في شركات كبرى. بهلول رفيق الراوي، اسمه يثير الهزء وهو يملك حياة وفكر الراوي، لكن قبل خمسة عشر عاما على الأقل تحولت بعض المجتمعات إلى صمت المقابر، العائلة اختفت، العلاقات الغرامية انحسرت، الأمومة والأبوة ستنقرض، يعني الحياة البشرية في طريقها للاختفاء حتى لوكان جهل بعض المجتمعات في بعض القارات وتخلفها مازال سائداً، فإلى أين سيذهب كل هذا التخلف؟
ثمّة فعلاً نمطان من الحياة، كما تنطوي عليه رؤيتك المزدوجة لحضارتنا الإنسانية اليوم: مجتمعات يوجّهها التطور التكنولوجي نحو آفاق جديدة كانت عما قريب تبدو خيالية، تقودها الروبوتات والذكاء الاصطناعي، كل العالم مفتوح لها، لحركة طلابها وسوّاحها وأموالها؛ ومجتمعات تغرق في مزيد من التخلف والظلامية والانحسار والخسوف، العالم مغلق أمامها، لا يستطيع سكانها مغادرة سجون بلدانهم.
التطوّر التكنولوجي الصارخ جسّده، في الرواية، دخول الروبوت المؤنسن بهلول لحياة الراوي، ثم تطوّراته السريعة خلال 12 سنة على نحوٍ يحاكي بدقّة التطوّر المرتقب للتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، وانتقاله من ذكاء “موجّه” يفوق اليوم ذكاء الإنسان في مجالات محدّدة فقط، إلى ذكاء “غير موجّه” في المستقبل، يتعلّم فيه الروبوت كيف يتعلّم، ويتحرّر لذلك من خضوعه للإنسان، ليهمين أكثر فأكثر على كلِّ حياته.
يبدأ تحرّر الروبوت في الرواية عند رفضه لاسمه “بهلول”، وتغييره لاسمٍ آخر: “حيدر”، أو “كارمن”، ثم يلحقه صياغته ل “بيان حقوق الروبوتات المؤنسنة”…
علاقة الراوي بروبوته المؤنسن، المفعم بآخر برمجيات الذكاء الاصطناعي والتعلّم الذاتي، تطوّرت لصالح الثاني وسيادته، كما يتضح مع تقدّم فصول الرواية!
إحدى الفرضيات التي تبدو قوية على المدى القريب في هذا العالم الذي يزدوج فيه، كما لاحظتِ، الذكاء بالجهل، والتطور التكنولوجي بالتخلف المتعاظم، هو تزايد سيطرة تحالف قوى المال والذكاء التكنولوجي للعالم الأول على مجمل العالم.
لن يشفي ظمأها في الحقيقة، في تصوري وتصور كثير من الفكرين، غير حكومة دولية واحدة تحرِّك كل كوكب الأرض وفق هواها!
من اندمج مع حركة هذه المسيرة وطوّر ذاته علميا وثقافيا، يستطيع أن يضمن له موقعاً مناسبا من الإعراب في عالم المستقبل.
ومن لم يستوعب ميكانيكا حركة القادم، وظل بعقلية الماضي، فمصيره التشظي والانكسار الذي ستفرضه قوى العالم المتقدم، التي لا تحب البطء والانتظار!
حروف أربعة جمعتها وأطلقت عليها ـ غافا ـ وحللت بفتنة طاغية مناهج هذه الشركات العملاقة وهي على التوالي: غوغل، آبل، وفيسبوك، وأمازون. هؤلاء الأربعة سيحكمون العالم فعليا وعملياً وكونياً وأطلقت عليه “منظم معلومات الكرة الأرضية” سؤالي جزاك الله خيراً إذا أخبرتنا أين ستكون هذه الأمة التي تسمى عربية الخ.. من جميع ما يحصل وحاصل؟
جافا مركز القوّة الكبرى المهيمنة على عالم اليوم، وعالم المستقبل.
أمتنا العربية حاليا، لسوء الحظ، تجثو في العالم المتأخر الثاني الذي ينتظره التشظي والتهميش. كل مؤشرات الدراسات الاستراتيجية ترى أن دورها في عالم المستقبل مجرد بائعة لبعض المواد الأوليّة، لا موقع لها من الإعراب في عالم الحداثة وإنتاج الفكر والمعارف والأبحاث العلمية.
كل ذلك يبدو معقولا مقبولا بديهيا أيضاً، لولا هزّة نوعيّة، تغيّر أسس التعليم والتفكير في عالمنا العربي.
ليست هناك حتى اللحظة، لسوء الحظ، أية مؤشرات لهذه الهزة المأمولة. لكن، لنناضل، رغم ذلك، من أجل ولادة هذه الهزّة الحميدة…
كأنك تنادي على اليمن كلها من عبق الماضي لكي تتحضر للغد فقد كان غرامك ببلدك قاتلا، هل سيبدل العلم حب الوطن فرض عليّ، على سبيل المثال، فالفيلسوف ادرنو بقي يردد : فلنبدل اوطاننا.
حضور اليمن في أكثر من نصف أعمالي الروائية الثمان طاغ. بدأ ذلك في روايتي الأولى “الملكة المغدورة” التي كتبتها بالفرنسية، وستظهر ترجمتها العربية في دار الساقي قريبا، والتي تدور في عدن، عاصمة جنوب اليمن في سبعينات القرن الماضي.
في روايتي ما قبل الأخيرة، “ابنة سوسلوف”، نرى كل اليمن، خلال سنوات بداية الربيع العربي وما قاد له من خرائب فيها.
لها في روايتي الجديدة، “حفيد سندباد”، موقعاً غير هين، رغم الهموم الكونية والمستقبلية للرواية، كما لاحظتِ، علاقتي عميقة وثيقة حميمة باليمن وآلامه وهمومه. ولذلك، لست من المعجبين بشعار “فلنبدل أوطاننا”.
أفضِّل عليه: “فلتتبدّل أوطاننا”، أي لتتغيّر وتتطوّر وتدخل ركب الحضارة الحديثة، رغم كل هذا الانهيار.
http://www.alriyadh.com/1518984