عالية ممدوح
1 –
كم هي المراثي التي علينا تدوينها ورفعها في وجوهنا نحن لا في وجوه الغير، نحملها كالبيارق ونتقدم بها صامتين لنخبر عن الأصدقاء، عن الغائبين، الذين غابوا وغابوا لكي نجعل ذاك الطيف، الأطياف تبتهج ونحن نسمع أصوات بعضنا للبعض الآخر، أو نطل عليها من مكان غير متوقع، لنقول لهم، ليس بالكلمات أو الدموع أو الايماءات، وإنما، لأننا لا نقدر على الافصاح تماما. الاحزان لا تؤدي غرضها كما يجب، لكن الموت، الموتى يشتغلون على قدم وساق، يعملون بجدية ونزاهة، يوفون الحقوق ولا يزجون بنا الا لللااحتمال. كنت بدأت بكتابة سلسلة حلقات عن برلين، عن تلك الانذارات التي انتفضت في داخلي وأنا ألتقي بأصدقاء لم يبرحوا سريرتي ولم يغادروني أصلا.
2 –
هذا منديلي الذي اقيم فيه كما في التراجيديات الكاوية للكبد وأنا افتحه واطويه لذاك الكاتب العراقي البلوري الذي خاطبته بالهاتف ولأربع مرات أصرخ باسمي ويردد غير مصدق ؛ معقول، كلا، غير معقول أن تحضري من الغياب لكي أتدرب على استقبالك وأنا غير مصدق. وأنا أنادي، يا جليل القيسي، لا زال (صهيل المارة في العالم) مجموعته القصصية الباهرة الأولى تثقب المارين المستوحدين الوحيدين المتروكين والمجانين الذين وسعوا مجال الرؤية فتوسعت مراتب الإبداع. هذا الجليل الذي سلمني هاتفه الصديق الشاعر والكاتب العراقي مؤيد الراوي، رفيقه قائلا بصوته البعيد:
«يستحسن الاتصال به في الساعة الرابعة عصرا بعد اتمام فحوصات الاطباء وزيارات الممرضات. انه يقبع في إحدى مستشفيات أنقرة». هذه الدنيا تسبب الهلع بالصورة التي حصلت معنا، نحن جميعا الذين التقينا في برلين، كأننا نحّضر المراسيم والخطوات لطقس الدفن. اثنان مما يسمى بمجموعة كركوك العراقية المتمردة المضادة والشديدة الحداثة التقيت بهما في برلين مؤيد الراوي والروائي والشاعر الصديق فاضل العزواي.
3 –
قال مؤيد: «جليل في تركيا يجري عملية جراحية بعد انتشار المرض في… خذي، هذه القصيدة، قصيدتي عنه» حارس المدينة «بقيت معي أكثر من نصف عام أكتب وامحي، اعدد واحذف عناصر الوجود وبالتالي أبعثرها إلى أجزاء غير متساوية، نحن، هكذا لا نتساوى بأحد ولا أحد يتساوى بنا. أنتهيت من كتابتها في حدود العام 2002 ونشرت في مجلة – مشارف – الصادرة في حيفا في صيغتها النهائية التي لديك. أعتقد ان القصيدة حاولت ان تكون حضورا يبوح باصوات وطبقات عديدة عن محلتنا، نحن الذين غادرنا واولئك الذين مكثوا في البلاد».
«لحكمة في الموت
أو لنداء من القيامة
أيام يلوث دخانها العمر، ويوشيه بالسواد
أنت هنا، صحوة مرتجى
وأنت هناك، بالتذكر.
زؤادة في اكياسنا، ونحن كما ترى
نقلب السيرة ونعود إليك خفية
لنأكل معا فطور الصباح»
4 –
ثلاثون عاما وربما أكثر لم نلتق أو نكتب لبعض أو نتواصل بالهاتف أو البريد أو أية وسيلة أتصال. ربما، من الاستحالة الكتابة عما يتعذر تعريفة. هل أغادر من باريس إلى برلين فقط لكي أخاطب بالهاتف الكاتب والقاص وكاتب مسرحيات وكتابات لا اعرف جنسها جليل القيسي بعد أكوام السنين وأقول له ؛ عمت مساء أيها الفارس صاحب النبالة والرفعة؟ ما هذه الفجوة، الفجوات التي نحاول ردمها بالصوت والانين والسكوت المر الذي يدوم طويلا حتى ليبدو أساسيا فيفلت منّا عندما لا يمكن اخضاعه لتفسير. لماذا غادرت إلى برلين في ذلك التاريخ بالذات؟. تأخرت أيضا عن ذلك المسرحي العراقي الجميل عوني كرومي بحوالي أربعين يوما هو أيضا خذلني في برلين ورحل. قدم روايتي باللغتين على مسرح ألماني وتحدث ونوه بكيت وكذا وكنت أريد الوصول إلى برلين لكي أقول شكرا. لماذا لا ينتظرني أحد لكي لا تجف الينابيع من حولي فيسحقني العطش والقحط وينكشف الجفاف والوحشة في القلب فاراود الموت على نفسي من يوم إلى يوم، ومن عام إلى آخر. غروري بالموت أقوى من استهتاري بنذالة الدنيا وكأنه يقاصصني على عدم الاستضافة لحد اليوم، أنا المحشوة بالاعوام والخسارات، أنا التي لا أطيق جميع المراثي ولم أفكر بضرورتها قط وإذا ما خاطبتني اقبال تنعي لي هذا الصديق المشع فلأنني خاطبته من شقتها فكان كرمها معي فوق الحدود. ماهذه الابهة والفضيلة التي تتحكم بالموت، بنا وبما يجري لنا في جميع تلك البلاد وبلا تعداد أو أسماء.مؤيد في قصيدتة الفذة ذات النبوءة الخفيضة الصوت عن صديقه جليل القيسي، وبعد قراءة غير عجولة، يبدو لي أنه كان يرثي الذات العارفة، المدمرة المغوية، ذوات الذين غادروا المكان البيت المدينة الأولى، لكنهم لم يبرحوها حتى اللحظة. الراوي على ما أزعم، هو حارس المدينة. وأظن عموم من يغادر، يلتاع بالمغادرة والفقد يتحول إلى – حارس – اللهب الرباني.
5 –
يقول الشاعر الراوي: «منذ غادرت العراق في نهاية 1969 أنقطع التواصل بيني وبين جليل القيسي بسبب الخوف والتوجس من النظام الدكتاتوري، خوفا عليه من رسائلي التي ربما ستقوده إلى المتاعب. كذلك الأمر مع سركون بولص وأنور الغساني الذي كان يعاتبنا في رسالته الوحيدة التي استلمتها منه بعدما أرسلت له قصاصة مع أحد المغادرين إلى كركوك في بداية هذا العام». مجموعة كركوك بالاضافة للشاعر والكاتب مؤيد الراوي، فهي تضم كل من الشاعر سركون بولص الذي يعيش ما بين الولايات المتحدة وبرلين. الروائي والكاتب انور الغساني الذي يعيش ما بين كوستاريكا وبرلين. الروائي والشاعر فاضل العزاوي الذي غادر العراق منذ ثلاثين عاما لا زال يعيش في برلين إلى اليوم. الشاعر جان دمّو توفي قبل سنوات في استراليا. كل منّا وفي بداية الستينات كان يحمل جمرته وينحني على عالمه الصاخب ليكتشفه. يجابه الإرث الاجتماعي والثقافي بوعي نقدي متحولا من التخاطب مع الآخر في سياق الموروث الاخلاقي والايديولوجي السائد إلى الغوص في الذات لمعرفة تعارضاتها وغناها في ذات الوقت . مجموعة جليل القيسي – صهيل المارة في العالم – تعتبر مقدمة مهمة في نصوص القصة القصيرة التي تتجاوز التقليدية وتروح خطوات نحو مغامرة الفكر لتعكس التباس العالم كما هو».
٭ ٭ ٭
كان جليل القيسي يحضر من كركوك بقطار الصباح المصادف من كل يوم خميس، يصل ظهرا ويتصل بالهاتف:
ها، أنتٍ بالمكتب سوف أمر لزيارتك.
يدخل ذاك الفتى الانيق إلى تلك المطبوعة التي عملنا بها سويا أنا ومؤيد وجمعة اللامي وحشد لا ينتهي من الشعراء والكتاب والقصاصين ومن جميع الاديان والايديولوجيات والاهواء والميول المتعارضة. جليل يشبه شاعر كأنه أنقذ من الغرق للتو، كل شيء فيه يشي بالتجديد والحداثة والجدة كمجموعته. كان حييا متواضعا بصورة راقية، مثقفا وبه مخزون من نبالة لا تنفد. قلت له بالهاتف قبل اسبوعين بالضبط: نحبك جميعا يا جليل وما عليك الا ان تبادلنا هذا الحب أليس كذلك.
الغصة كانت هي الأقصى في صوتينا لكن، أظن ما كان يحتاجه سمعه ولو مبتسرا مختزلا لكنه صادق. مؤيد يسميه حارس المدينة ويدعوه لتناول الوجبة الأخيرة قبل أغماضة العين:
«جئناك صباحا، وفي أيدينا مرافىء للسفر
(كل بحر كان حديقة لزهورنا الذابلة)
جئناك غرقى مساء
ثم هادناّك بالحوارات وقت الظهيرة
نحمل نارا توّشح بها غبطتك الاليفة
فارس الوقت أسميناك، وخيولك الخيال»
الخميس 16 رجب 1427هـ – 10 أغسطس 2006م – العدد 13926
https://www.alriyadh.com/178040