ثمرة الرارج

عالية ممدوح
1
في أقصى مشهد من مدينة إشبيلية كان قلبي ينبض بسرعة شديدة من ذلك التدفق الشديد للشمس في ديسمبر المنقضي، وأنا أمضي اجازتي هناك. شمس سخية وضاءة تصل إلى أبعد بقعة من المسام، وأنا أنادي على ذلك الثمر الذهبي التي تحمله جميع الأشجار الموزعة توزيعا جميلا على طول الجادات العريضة والفسيحة التي تواجهنا. كنت اقف تحت الشجرة المثمرة وأنا انادي على كل ثمرة علها تسقط علي واحدة. لو كان بيدي بوقا لناديتها فأنا من سكنة هذه الثمرة. وما ان أترك الشجرة الأولى حتى يقول لي أحد رفاق السفر: ها هي تصغي لك فأذهبي وخذي ما تشائين . لم اوافق على مد يدي إلى الأرض والتقاط الثمرة ، كانت الثمار تعود إلى الطبيعة، تتكوم على الأرض ولا يقوم أي عابر سبيل على التقاطها. هكذا ، تُترك كمجموعة أو فرادى حتى تنكمش وتذبل وبالتالي تموت. أنا كنت أريدها ان تعود لي فأواصل فتح ذراعي عسى ولعل احظى بهذه النعمة المباركة . كنت أجري من شجرة إلى الثانية والخامسة، الاحق الثمار الفائضة عن حاجة الشجرة الأم وأنتظر اللقيا. كان منظرهم يأسر الخلايا والبصر. أشجار تحيط الساحات العامة وكأنها أثمرت من أجلنا جميعا نحن عشاق الثمرة أن كانت في أعلى أو تحت اللسان نتلمظها وتأخذنا السعادة إلى هناك، فابتسم في حضراتهم ويتراءى لي ان جلود تلك الثمار تتشقق من رد التحية وملاقاة ابتساماتي. بغتة، تسقط الثمرة الأولى بين يدي، والثانية والعاشرة وحتى مغادرتنا إشبيلية. كنت أنشد لها الأغاني العراقية القديمة جدا فاسمع تنهداتنا سويا، هي وأنا، وكانت الروائح تدخلني مدخل الأناشيد الليلية في بغداد.

2
لم نسافر إلى الأندلس من أجل أن نسأل عن دروس الحنين فهذا الأمر بالنسبة لي باطل الاباطيل. لا أحن إلى قصور الحمراء أو الصفراء أو السوداء، ولا إلى أي حاكم من أية قبيلة كانت: المعتمد بن عباد، أو موسى بن نصير، ولا إلى الأسوار التي حصنت المدينة ثم سقطت في أيدي المرابطين ثم أنتهى الحكم فدخلنا في عقود الخسارات والانتصارات ما بين المسلمين والمسلمين، وهؤلاء والنصارى. كنا نمشي وأنا أشم رائحة ثمرة الرارنج ذات المرارة اللاذعة فهي ثمرة هجينة ما بين البرتقال ويوسف أفندي، وربما الكريب فروت فأنا لا أعرف تماما كيمياء خواصها ودرجات تخصيبها، لكني أعرف أمرا واحدا انها غير موجودة في باريس على سبيل المثال، أو لم أعثر عليها ومنذ عقود. على العكس من إقامتي في المغرب كنت اجدها بسهولة على الخصوص في طنجة أو مدينتي سبتة ومليلة. قلت لمن حولي هذه مكافأة الرحلة وأكثر من الشمس التي دفعنا نقودا من أجل إطلالتها الكريمة. هناك اصغيت لصوت وفيقة، جدتي وهي تنادي على عمتي ان تقطْع نفسَها قبل ان تقوم باغلاق القناني الزجاجية التي أمتلأت بالعصير البرتقالي. لم افهم ذلك، قطعْ النفسَ ماذا يعني ؟ كانت هذه من مهمات الكبار لكن حشريتي كانت مزعجة لأهلي دائما فترد على الجدة:
أي بنتي، نفسَ البني آدم يفسد الأشربة وعلى الخصوص الحامضة.
ما أغنى جدتي وهي تتحدث عن العلوم بطريقة جد يسيرة ودون ان تدرك نسب القلوي والحامضي، أو تلك الانزيمات الموجودة في اللسان وصولا إلى المعدة، فأية ذرة من الانفاس يتم إطلاقها ويصل وجه القنينة وهي ما زالت مفتوحة، وتحتوي على الأسيد المركز سوف يعكر ويفسد جزيئات السائل الحامض، الذي كنا نستعمله في عموم ألوان وأشكال الطهي العراقي، بدءا من المرقْ وإنتهاء بتنوعيات السَلطات والطرشي والمخللات المنوعة والمكونة من الخيار والقرنابيط واللفت والملفوف والشوندر وثوم عجم والبصل الصغير الخ. كان فمي يتنمل وأنا أمسك بيدي الثمرة. كيف نهدر أو نخًزن تلك الطاقات من الروائح والأريج الفتان، ما بين ذلك الذي اختمر وما زال تحت اللسان ولم يبارحنا للساعة، وبين بيت وحي وساحات عامة وأعوام كثيرة ضالة، وخرائب وأناشيد ذلك البلد الضرير.
(يتبع)

الخميس 18 ربيع الاخر 1434 هـ – 28 فبراير 2013م – العدد 16320
http://www.alriyadh.com/813580