عالية ممدوح
1-
مررنا من تحت بوابة عشتار الموجودة حاليا في متحف بيرغامون في جزيرة المتاحف في قلب برلين وهو ما كان يطلق عليه متحف الفن الآسيوي. أخذني إليه الكاتب العراقي زهير الهيتي نمشي ونتوقف مرددين؛ هكذا نحن أيضا نمر كما فعل القواد والغازون، الأبطال الآفلون السابقون واللاحقون، كما يمر الخاسرون أمثالنا من عامة الشعب. هذه البوابة لا تهادن أحدا ولا يتبادر إلى ذهننا الإ إننا – كنا – في لحظة تاريخية آسرة، لم تكن وهما لكنا اليوم أوشكنا ان نغلط في حقها وحقنا، وتأويل زخمها الاستثنائي. لم أعد وأظن غيري بالملايين ما عادوا هم أنفسهم بعد الطوفان/ الاحتلال الأمريكي للعراق. لم يعد حريا بنا تذوق أو تلمظ جمالنا، مآثرنا، وسلطان أبهتنا المندثرة. كان علي الإصغاء لنحيب سري ومكتوم شاهدته في عيني وقسمات سيدة مشرقية، ربما عراقية فالمكان عابق بالرغد العراقي الذي لم تنتف أغراضه بعد ولن فدخلت معها في أنين لم يفارقني إلى اليوم.
2-
ما أن أوشك القرن التاسع عشر على الانتهاء حتى بدأ ما يسمى بطور التنقيبات الأثرية العلمية، على الخصوص من جهة الألمان وفي بابل التي وقعوا صرعى غرام عشتار ومنذ العام 1899- 1917.هذه الآلهة المخصصة للحب قاهرة الأعداء، راعية الرجال الشاحبي الوجوه حيث “تتطلعين تعود الحياة إلى الموتى ويقوم المرضى ويمشون، ويشفى عقل المريض إذا نظر إلى وجهك. إلى متى أيتها السيدة ينتصر عليّ عدوي؟”. في كتب التاريخ عشتار، البابليون يوجهون إليها صلواتهم. هي إستارثي عند اليونان وعشتروت لدى اليهود. وهي النموذج الذي صاغ اليونان على مثاله آلهتهم أفروديتي، والرومان فينوس. كما انها “لم تكن إلهه جمال الجسم والحب فحسب، بل كانت الآلهة الرحيمة والموحية بخصب الأرض. لقد رفض كلكامش أن يتزوج بها حين عرضت عليه الزواج وحجته في ذلك انها لا يوثق بها. ألم تحب في يوم من الأيام أسدا واغوته. ثم قتلته؟” الأسود حولنا يحمون بوابات مدينة بابل وبوابة عشتار. أسود رشيقة راقصة وتستحق المكانة التي خلدتها بها بعض الحضارات القديمة وعلى الخصوص الآسيوية وإلى يومنا هذا.
3-
البوابة طويلة نمشي ونشم ضوع ذاك العصر، بابل. أنا أيضا دونت عنه فصلا في روايتي الأخيرة. بابل في البداية والختام، ليست غواية الرغبات المستحيلة أو أصوات الآلهة الصاعقة، بابل تكرار اللذات وعواصف الألسن الفصيحة والعجيبة وأسلحة الأموات الراسخة في اللاوعي، وهي سوف تظل خارج حساب الرياضيات والمعجزات والأعاجيب. بابل، أظن هي وحدة قياس الدم، دمنا العراقي وبسبب ذلك، حتى لو داست الدبابات الأمريكية والبولندية والايطالية والعبرية على ما بقي من أسوارها وأسرارها فهي فوق النوستالجيا، وأزعم أنها ترتقب العودة، عودتنا. النبي ارميا قال عنها: “كأس ذهب بيد الرب، جعل الأرض سكرى” سفر ارميا 14: 7.أرسطو اعتبرها أعجوبة في سعتها. المؤرخ الشهير هيروديت ذكرها قائلا؛ بلغت هذه المدينة من الشهرة درجة بحيث صارت عنوان حضارة وادي الرافدين ونسب إليها القطر جميعه، فقيل بلاد بابل (بابلوينا) وأهله البابليون. عدت أسوارها وجنائنها المعلقة من عجائب الدنيا السبعة. الألمان أعادوا إلى الوجود شكل المدينة الأصلي بشوارعها ومعابدها وقصورها وماذا كان يسمى به كل منها لاسيما في عصر نبوخذنصر.
4-
هذا الملك الثاني 604- 562قبل الميلاد هو مليكها الشهير. استخدم في بنائها الطابوق المزجج وغطت جميع الجدران بلون الأخضر الشذري الداكن الذي كان ولا يزال متوفرا في مدينة كربلاء المقدسة. كما طّعم باللونين الأصفر والأبيض. ولقد قام بالتوسع الضخم لبوابة عشتار العظيمة والتي كانت هي المدخل الشمالي لسور المدينة. فبابل كانت أكبر مدينة في العالم القديم، فهي أكبر من مدينة أثينا بنحو خمس مرات، ويحيط بها سوران ضخمان ويتألف كل منهما من أكثر من جدار واحد وقد سميت كل بوابة وكل شارع باسم الإله الذي يقع معبده بالقرب منها. ذكرت النصوص المسمارية أسماء الشوارع والبوابات والأبراج والأقواس وأجمل ما فيها صور الحيوانات الزاهية الحمراء والبيضاء. الثيران رمز الإله ادد والتنين الخرافي رمز الإله مردوخ. وقد وجد في أحد القصور الواسعة عدد من المنحوتات التي من بينها أسد بابل الشهير المنحوت من قطعة واحدة من حجر البازليت وهو على هيئة أسد رابض على إنسان ولا يعلم تاريخه على وجه التأكيد. أما الجنائن المعلقة فقد شيدها نبوخذنصر لزوجته الفارسية (اميتس) فقد وجدت أثناء التنقيبات، حيث كانت الأشجار والأوراد تغرس فوق تلك السطوح المغطاة بالتربة.
5-
كنوزنا وفراديسنا نهبت، هو على أية حال أحد مظاهر الاحتلال وبالدرجة الأولى. قبل 2003كان سدنة النظام الاستبدادي حاضرين للنهب، لديهم إقطاعيات بذلك، انتهكوا المتاحف من قبل الأبناء والموظفين الساميين وبعض العسكريين الأميين الذين لا يفقهون المسافة بين الفن ورقصة الجوبي. قال لي زهير: في اليوم الأول من سقوط النظام ظهر على محطة ال cnn مواطن عراقي عادي يرتدي دشداشة وبيده آلة حادة وأمامه إحدى لوحات المتحف الوطني العراقي التي لا تتكرر وهو يغرس آلته بقماش اللوحة وحين سأله المذيع: ترى، لماذا تفعل ذلك؟ أجاب: ما عليك أنت، هذه فنوننا ولوحاتنا ونحن أحرار نفعل بها ما نشاء.
تتأكد أكثر من أي وقت مضى رابطة العلاقات الإضمارية والفاضحة أيضا ما بين الماضي والحاضر، تظهر علانية ثم تتوضح أكثر منذ سقوك بابل الأولى على يد الملك (كورش) وأنا لا أكف على اكتشاف المادة الخام لاسم السيد (بوش) ترى كم حرفا من حروف الاسمين تتشابه؟ كم خصلة،من خصال القائدين تتقاطع وتتمازج؟ جاء دور مدينة بابل في العام 539ق. م وقد عهد الملك نبونبدس إلى ابنه قائد الجيش يليشاصر، إن يتصدى لجيوش كورش الفارسية لكنه قتل في المعركة. انحاز الحاكم البابلي (كوبرياس) إلى كورش فسار هذا الأخير إلى بابل ودخلها في 13تشرين الثاني/ نوفمبر 539ق. م. مرد السهولة التي تم فيها فتح بابل الأوضاع الاقتصادية المتردية، إهمال شؤون المملكة، يضاف إلى ذلك الدعاية الناجحة التي شنها الملك الفارسي في التشهير بالملك البابلي في انتهاك حريات معبد الآلهة. ساعده في ذلك اليهود والأسرى في بابل الذين كانوا يعتبرونه المسيح الموعود.
وردت بعض المعلومات في هذا المقال من المشاهدات وكتابيّ: مقدمة في تأريخ الحضارات القديمة. الجزء الأول للباحث العراقي طه باقر. وكتاب قصة الحضارة. الشرق الأدنى المجلد 1- 2لول ديوارنت.
الخميس20 رمضان 1427هـ – 12أكتوبر 2006م – العدد 13989
https://www.alriyadh.com/193604