امرأة في الرمال : رواية فذة لكاتب نادر

عالية ممدوح

1
/ كُوبُو آبي / روائي ومسرحي ياباني طليعي، ولد في طوكيو في العام 1924 وتوفي في العام 1993. غادر العاصمة مع والده الطبيب وتنقل في بضعة جزر بحكم العمل . تقول الوثائق انه : “” من ابناء جزيرة كايدو في شمال اليابان “”، وبسبب انتقالاته الكثيرة كتب عن نفسه قائلا : “” إني رجل بلا موطن “” درس هو أيضا الطب، ربما نتيجه الضغوط من العائلة . تخصص في علم أمراض النساء والحرب الثانية كانت قائمة في بلده وفي الطرف الآخر من العالم . / امرأة في الرمال / رواية صادرة عن دار الآداب بترجمة عميقة وحرفية للمترجم المعروف كامل يوسف حسين الذي قدم لها وللأدب الياباني الذي تخصص به ، مقدمة مهمة ، مستفيضة ومعمقة ، يحلل ويتأمل فيها مفهوم الوطن / اليابان / المدينة / الاسلوب / البطل المضاد / وعلاقته بالخارج ، بعالم المطلقات والنسبية : “” بوسعنا القول ان النص الروائي الحديث ألغى مفهوم البطل كلية ، وأحل محله الشخصية التي تنتفي عنها البطولة لأنها لم تعد معنية إلا بالكشف عن العلاقات الخفية والمتداخلة بين جزئيات عالمه ، مستدعيا القارىء إلى مشاركته إدراك الحقيقة “” . هذه رواية خانقة ، مستفزة ، صادمة ، غير مريحة أبدا ، لكنني لم استطع تركها جانبا قط . مفتاحها الوحيد ؛ كيف ننشغل بالفناء في كل ثانية ونحن نواجهه كل ثانية فنقوم بازاحته جانبا ، فلا يدوم فعل المقاومة إلا دقائق قليلة وهكذا . حكاية شاقة ، مؤذية . أبدأ وأترك ثم أعود . الكاتب يسدد ضربة للقارئ ، وهو عاجز عن غشه فالرمال سوف تنسل عليه هو أيضا . كل صفحة أورقها كنت اتصور ان الرمال ستغطيني ، وان هذا الرمل كلما حاولا ، المرأة والرجل رفعه وتنظيف المكان منه ، يعاود وبدون انقطاع ، لا يتخلى عن الهدف : خنقنا .

2
تبدأ الرواية هكذا : “” اختفى رجل ، ذات يوم من أيام أغسطس . وكان قد انطلق في إجازة على شاطئ البحر ، ثم احتجبت أخباره ، التحقيق الذي اجرته الشرطة والاستفسارات التي نشرت في الصحف بلا طائل “”. حين قرأت هذا المقطع ، قلت ، عال ، هذه رواية تستنهض الخبرة في اكتشاف القاتل ، أو السجان الخ فإلى أين يمكن ان يذهب ويختفي الرجال عادة ؟ حماما عمومي ، صالة سينما ، حلاق في مول ضخم ، سوق للخضار الخ لكن أبداً ، لم يكن حدسي في محله وهذا ما سبب من مضاعفة اختناقي ، هذا الرجل جامع حشرات ، كان يضع فوق ظهره حقيبة خاصة لهذا الغرض لصيد أقل الحشرات حجما . فنقرأ رأيا جديدا عن النوع من الأعمال : “” غالبا ما يشير الانشغال غير المألوف بجمع الحشرات إلى عقدة أوديب ، فالطفل لكي يعوض عن رغباته التي لم يتم إشباعها ، يستمتع بغرس الدبابيس في الحشرات التي لا مجال للخوف من هربها قط ، وقد تراوده رغبة حادة في التملك ، وأنهم وإلى حد بعيد يميلون إلى العزلة ، ويصابون بالسرقة المرَضية وشاذون جنسيا “” نذهب مع هذا الرجل الذي تشي المعلومات عنه ، انه قد يكون حاملا لبعض تلك الصفات ، أو كلها . فيدخل في متاهة الرياح والعواصف والامطار ، وندخل معه أيضا في طقس اليابان : تسونامي من العبقرية . الإبداع من نوع كهذا هو أيضا يشكل رعبا نادرا فيومي علينا قائلا : “” الرمل تجمع لشظايا صخرية ، يشمل في بعض الأحيان حجر المغنطيس. فتحدث تيارات الهواء والماء اضطرابا هائلا ، واصغر طول موجة في هذا التدفق المثير للاضطراب يعادل تقريبا قطر حبات رمال الصحراء. إن تدفق الرمل أمر لا مناص منه . يغزو سطح الأرض فيلحق الدمار به “” .

3
بغتة ، في أحد الفصول نرى الرجل في خندق / ملجأ / قبو / بئر ، لا أعرف كيف اصفه . أقرأ واعيد ولا اقدر تلمس المكان الرهيب ، القبر أرحم كثيرا . الرجل تعثر وسحبته الرياح لذاك المكان . كل شيء في هذه الرواية يقود وبالتدريج وببطء ، وبتهذيب ياباني جمْ ، وبلغة دقيقة ، صارمة وجميلة جدا تضع القارئ في قلب الأسئلة الحارقة والمخيفة ، جميع الأسئلة وبدون استثناء . الخالق والمخلوق ، الساسية ، الهوى ، التأليف ، الغضب والحنق ، والوحشة المريعة . لكن وجود الأنثى وسط تلك المتاهة لم يمنحه السعادة أيضا : “” كانا يحسان بأنهما رجل وامرأة . رجل وامرأة يراقبان . كان رجلا يراقب نفسه وهو يجرب وامرأة تراقب نفسها وهي تجرب كل هذا في مرآيا عاكسة “” . كل شيء حوله وبجواره ، هو وهي في طريقه للتفسخ والانحلال . منطق التبدد التام هو الذي يشيع اجواء الاختناق فاعطس واختنق واسعل وأشرب الكثير من الماء ، واضع نوعين من القطرات في عيني لكي ازيح الرمل عنهما ، وأقرأ : “” إن الرمال تتحرك على هذا النحو طوال العام . وتدفقها هو حياتها . فهي لا تتوقف قط في أي مكان . لذا ، عادة ما لا تتحمل الكائنات الحية المألوفة للحياة فيها ،. إن الرمال تمثل النقاء والطهارة ، ربما كانت تؤدي وظيفة قوامها الحفاظ والإبقاء “” . كل شئ لا يطاق في ذاك القبو . الاثنان يتناوبان على تنظيف المكان ، وتغطية الطعام ، وتقطير الماء . سجن ، أسر ، هكذا يفكر الرجل فيكرر الفرار ويفشل فيحاول مقاربة المرأة ، ويستسلم قليلا لهذا القصاص الرباني ، فالرمل لا يكف على التسرب : “” لكن هذا يعني أنك على قيد الوجود ، لا لشئ إلا لإخلاء الرمل ، أليس كذلك ؟ “” . كان يسأل لكي يواصل التنفس .

4
أنظر إلى أعلى السقف في غرفتي وأعتقد أنه في طريقه للانهيار فوق رأسي والرمال ستغطيني ، فالمس الموجودات بيدي ، بيدي منشفة مبلولة أمسح بها وجهي ورقبتي . بعض الروايات تأخذك إلى جزئيات مضامينها فيتضاعف عطشنا وباستمرار ، ونحن نتحرك ونبدأ بتنظيف الدار في جميع اجزائها : “” لقد ابتلعت تيارات الرمل ذاتها مدنا مزدهرة وامبراطوريات عظمى ، والحقت الدمار بها . ويطلقون على ذلك ، ابتلاع الرمال للامبراطورية الرومانية “” . تهجس بفعل الوجود وفعل الفناء فتضرب وجهك اينما تتلفت على أساس انك تزيح الرمل عنه ، فأقرر ترك الرواية إلى هنا ، لا أذكر الصفحة ، لكني اعاود وكأنني أجرب الدفن تحت الرمال ، فنحن نعاين قبورنا قبل الدفن ، وأظن حين نمر بكل هذه التجربة تأملا ، وسكوتا وتخليا ، صبرا وفزعا فلا نعود للخوف فيما لو حضر الموت . كان الرمل وأنا أصل الربع الأخير من الكتاب يشبه الزمن ، يهطل وينسل ، يتجمع وعلينا تكديسه ثم يزيحنا جانبا . فالزمن ، بعضنا لا يعرف ماذا يفعل به ، يبدده عبثا وربما دائما . كانت دروس الطبيعة تضعنا وجها لوجه أمام أنفسنا ، تعلمنا يوميا لكننا لا نفهم ، ولا نتعلم إلا ما نريد نحن ، ثم نعاود ثانية وثالثة لتدربنا على الرأفة والتسامح ، وأيضا بعضنا لا يفهم ولا يتعلم ، ثم يحصل القصاص الرباني كما حصل ويحصل في اليابان والولايات المتحدة .. وبعض دول العالم ..

0000
طاقة مذهلة من الحكمة بالوجود ، في الخلق والذات البشرية ، في معنى الكتابة والعلاقات الإنسانية حين نكون في ملجأ أو سجن ، أو حتى في حياة زوجية أو غرامية ، في معنى التأليف والتدوين والمقاومة . رواية فذة لكاتب نادر ، حقيقي ، رشح لنوبل دائما ، ولم .. وحدها هذه الرواية ان تمنحه فوق نوبل . كتاب يعلم أصول المغازلة اليابانية بين امرأة ورجل وهما مطورين بين الرمل ، فكيف ستكون المشاعر والشغف : “” هكذا فإن الجماع يشبه بطاقة السفرات المتعددة ولا بد من ختمها في كل مرة تستخدمها ، ولا بد لك بالطبع من التدقيق للتأكد من أن البطاقة أصلية “” .

الخميس 13 شعبان 1432 هـ – 14 2011م – العدد 15725
https://www.alriyadh.com/650555