يـبدو زمـنًا بـعيدًا ذاك الـذي صدرت فيه نصوص تـدافع عن حق المرأة العربية في أن تـنال الاحترام والاعتراف بدورها الأساس في بناء الأسـرة وتـربيـة الأطفال واكتـساب التـعليم والمعرفة… فـمنذ نـهاية القرن التاسع عشر ارتـفعت أصوات تنبّه إلى ضرورة الاعتراف بدور المرأة المتعلمة، المواطنة، في تـشيـيد صـرح النهضة المرجوّة بعد عصور مديدة من الانحطاط. ومن أبـرز تلك الأصوات، رفاعة الطهـطاوي
في مشاهداته وتأملاته عـن رحلته إلى باريس، وكتاب قاسم أمـين «تـحــريـر المـرأة» (1899م)، وهما صوتان ألحّا على أهمية دور المرأة في بناء المجتمع، وعلى ضـرورة الاعتراف بإنسانيتها وقدرتها على الاضطلاع بـمهامّ جوهرية على دربِ تـرقية المجتمع وتـربية الـجيل القادر على النـهوض.
ومـثل هذا الخطاب، سـيـجد صـدى لـدى نـخبة النساء العربيات الـلائي بـادرن إلى الدعوة إلى تـحرير المرأة العربية مــن الـحِــجـر والـحجاب والـوصاية الذكورية الأبـدية. نذكر من بينـهن على سـبيل المثال، هـدى شـعـراوي ودريــة شـفيق. يمكن القول، إذن، بـأن بدايات تـكـوُّن الـخطاب النسـوي العـربي الحديث كانت في حضـن الخطاب السـياسي الـنهضـوي والوطني المقاوم لـلاحتلال الأجنبي، وكانت بـتـأيـيـدٍ من طلائع الرجال الذين أدركوا أن كل نـهضة تـحتاج إلى مساهمة النساء ضمن قـيـمٍ تـرفض عقلـية الحريم والوصاية والتـنـقيص من كـيان المرأة… وكان من الـطبيـعي، منذ بدايات الحركات النسائـــيـــة الـعربية حتى مـا بـعد الاستــقلالات عن الاحتلال، أن يكون أفـق المـطالب عـنـدها هـو «الـمساواة» مع الرجل في الحقوق والواجبات، لكـي تصبح فعلًا مـواطنة مـحـمـيّـة من العـنف الذكــوري والـتهـميش الاجتماعي والسياسي ووصاية الأزواج. ولـعـلّ هذا الأفـق الأوّلـي يـلـتقي مع أفـق جميع الخطابات والحركات النسائيـة التحـريـرية في العالم؛ لأن تـغـيـيـر الوضع الاعـتـباري للمـرأة، واكتـساب حقوق مُـعـتـرَف بها في القـوانين، مُـرتـبطــان بالـنـضال السياسي الذي يخوضه الجِـنســـان معًا. وما يمكن أن نلاحظه طوال الـقرن العشـرين، هو أن جـلّ الحركات الـنسائية وما أنــتـجـتْـه من خطابات، كانت على اتصالٍ وثـيـق بالأحزاب السياسية التي أصبحت حريصة على كسـبِ أصوات النساء بعد حصولهن على حق التصويت في بعض الأقطار العربية… ويمكن القول بأن الخطاب النسائي، عمومًا، جاء حاملًا بصمات الأيديولوجيات التي سادت الساحة طوال القرن الماضي؛ بيـن لـيـبرالية واشتـراكية وسـلفية وماركسية. ولا يمكن القول بأن الحركات النسائية المـستـنيـرة قد كان لها التأثـيـر الحاسم في تحقيـق مطالب المرأة العربية؛ لأن مجال العمل السياسي والاجتماعي، بـعد الاستقلالات، كان فاقدًا لــشروط الصـراع الـديمقراطي الذي يسمح بـإنجاز التـغـيـيـرات الـبنــيوية والثقافية المؤدية إلى تحقيق نهضة عربية قادرة على الانخراط في العـصـر، وتـمـثــُّـل أسـسه العقلانية المجــدّدة للقـيم والمـمارسة؛ لأجـل ذلك، لا تـزال أوضــــاع المرأة الـعربية إلى اليوم، تـعاني الــلامسـاواة والتـهميش والـعـنف الرجالي والوصاية من كل الأطراف. وعلى الرغم من ذلـك، فـإن ما حـقـقـته نـساء عربـيات من مكاسب وإثـباتٍ للـذات، يـؤكــد أن الحركات النسائية وخطابها قد أثـبتا جدارتهما وضـرورتهما لحماية حقوق المرأة وضمان الشروط المطلوبة لتحقيق المساواة وتصحيح قيم الفكـر الماضـوي.
خطاب مغاير ومساند
لـكن مـا يسـترعي الانـتباه ونحن نـعـايــِنُ حصـيلة ما حقـقـته الحركات النسائية والخطابَ المصاحبَ لها، هـو بـزوغ خـطاب مُسـانـِد ومُـغاير لـدى الكاتبات الـعربيات، مـنذ ثـلاثـينيات القرن العشـرين، وصولًا إلى الحقبة الراهنة، يطـرح أفـقًا مختلـفًا للـمـرأة الـمبدعة، وبــخاصـةٍ في مجال الـرواية. ولعل مي زيادة (1886-1941م) في كتاباتها النقدية، ومن خلال صالونها الأدبي (1913- 1933م)، كانت حاملة لشـعار المساواة بين الرجل المبدع والمرأة العربية المبدعة مع مراعاة خصوصية كــلٍّ منـهما: «إنــما نحن في الذات الإنسـانية الـواحدة الـجـهـة ُالمــاثــلة ُإزاء جـهةِ الرجـل، فـنـخـتـبـر إذن بـفـطـرتـنا ما لا يـستــطيع الرجلُ أن يـعـرفه، كما أن اختـبـارات حـضْـرتِـه تـظل أبـدًا مُــغلقة علينا».(في كتابها: عائشة تيـمور، شاعرة الطليعة). يمكن أن نـفهم من كلام مي زيادة أنه رفضٌ لاستـمـرار الرجل الكاتب في الاضطلاع بمــهــمــة التـعبـيـر نـيابةً عـن المرأة؛ لأن هناك تجارب خاصة بها لا يستطيع إدراك كُـنـهِــهـا؛ ويمكن أيضًا أن نـجد في ثنايا هذا الرأي دفـاعًـا عن مبـدأ المساواة بين المبدع والمبدعة على أساس من التكامل بـينـهما. لكـن هذا المـستـوى من الخطاب سـرعان ما سـيـأخذ في الـتبـدّل منذ خمـسيـنيات القرن الماضي، عـنـدما اتسـع عدد الروائيات، وبخاصة في الشرق العربي (مصر، وسوريا، ولبنـان، والعراق)، وبـعد أن حققت المرأة في تلك الأقطار وجودًا لافِــتًا في معظم مـرافق الحياة (التعليم الجامعي، والوظائف الحكومية، والمهــن الـحرة…). ويمكن أن نشـيـر في هذا السـياق، إلى روايتـيْـن أثارا جـدَلًا ولفتا النظر إلى تجديد نـسـبيّ في الخطاب الروائي النسائيّ: رواية «أنا أحــيـا»، لليـلى الـبعلبكي، و«الباب الـمفتوح» لـلطيفة الزيات. في هاتيْن الـروايتـيْـن نسـمع صوت المرأة عالـيًا يـريد أن يـنـبّـه إلى وجودِ ذاتٍ أنـثــوية، لها رَغباتها وعواطفها وإرادتها التي تـقـبلُ وتـرفض، بل تـتمـرّد على بـطريركية الأب وسطوة العائلة… والخطاب في الروايتـيْـن لا يجـتـرّ ما تدبـّجه الحركات النسائية والأحزاب السياسية، إنما يفسح المجال للذات النسائية لتـعـبـر عن وجودها من منطلق جـوّاني، له خصوصيته التي تـجاهلتها الخطابات الأخرى، أو استـوحاها روائيون رجال من موقع بـرّاني لا يتـغـلغل إلى سـويداء قلوب النساء المحمّلة بعذابات العنف الذكوري وتهميش المجتمع…
مـنـذ سـبـعـيـنيات القرن العشــرين، تـكـاثـر عـدد الروائيات العربيات، في نـوعٍ مـن التـصــادي مع الـحظـوة التي صاحبت جـنس الـرواية في وصفها شكلًا أدبـيـًّا ملائمًا للتـعـبـير عـن التـبدلات المتـسارعة داخل المجتمعات العربية، والتـعبير أيضًا عـن الجوانب الحميمة من حياة الـفـرد الطامح إلى إثـبات وجوده وقيـمتـه. ويمكن القول: إنه منذ الـثمانـينيات، أصبحت الرواية في مجموع حقول الإبداع العربية، لا فـرق بين مـركزٍ ومحيط، بمنزلة شـكل تـعـبـيري يـلجأ إليه الكُتاب والكاتبات الشباب للـتــنفـيس عن احـتقـانات القلق والحيرة والعلاقة مع الذات ومع المؤسسات المجتمعية. وهذه المعاينة لا تعني أن جميع تلك الروايات تـنطوي على العناصر الـفنية والشكلية المطلوبة في جنس الرواية؛ إنما هي ظاهرة أسـفـرت عـن فـرز عددٍ لا بأس بـه من الروائيين والروائيات الذين منحوا ـهذا الجنس التـعـبيـري وضعًا اعتـباريًّا يُـدرجه ضمن مقاييس الرواية ذات الأبعاد العالمية. من هذه الـزاوية، نجد أن الروائيات العربيات نـقـلْــنَ الرواية إلى مـستوى أعـمق قياسًا إلى الخطاب النسوي الذي ظـل يـسـيـر في ركاب الخطاب السياسي والأيديولوجي الـسائــد.
وقـبل أن أورد أمثلة من نصوص الروائيات العربيات، أودّ أن أبـدد التــبـاسًا صاحب الـنـمـوّ الـروائي النـسائي منذ ثمانينيات القرن الماضي، وهو مـا يـتـعـلـق بالتـرويج لـمـصطلح «أدب المـرأة» على اعـتــبـار أن ما تكـتـبه مُبدعاتٌ نساء هو أدب لا يـشـبه ما يكتبه الرجال، ولا يسـتحق هذه التسـمية إلا إذا كان مقطوع الصلة بالأدوات والأشكال الفـنية التي سـبق أن بلورها مبدعون من قـبـل. وإذا لـم تـخُـني الذاكرة، فـإن دعاة خلق أدبٍ نسائي محض، كانوا يـتوخون أن يجري تجديد الأدب العربي أساسًا من خلال إبداعات الـمرأة العربية التي صُـنـفت حركاتها الإصلاحية ضمن الاحـتيـاط الثوري الذي تـفـتـقـر إليه المجتمعات العربية، لـتجديد اللغة والمعنى والـقـيَم… إلا أن مدة الالتباس هذه التي أثـرت في مقاييس التحليل والنقد، سرعان مـا جرى تصحيحُها من خلال إنتـاج روائيات موهوبات، أدركن أن الأدب بوصفه تـعـبـيرًا عن مشاعر وتجارب ومواقف من خلال شـكل فـني، هـو مجال مشـترك بين جميع البشـر، لا فـرق بين ذكـرٍ أو أنثى، وأن مـا يُـمايــز بين مبدع أو مبدعة هـو اســتــثمار الخصوصية التي يـتـوفر عليها كل منهما، فـسيولوجيًّا واجتماعيًّا وعاطفيًّا. بل إن خصوصية التجربة الأدبية مطلوبة من كل مبدع، لكي لا تأتي النصوص تـكرارًا واستـنساخًا لـما سـبَقَ. ويظلّ الأداء الفني المتوارث منذ أجيال والمتجدد ضمن شروط الإبداع لكل عصر، هو ما يميزُه من بقيـة الـخطاباتِ التي يـتـغذى منها فـكرُ المجتمع ووجدانُـه.
الـكتابة الروائية والرمـزية النـسـائية
من خلال قـراءتي لـبعضٍ من روايات كـتبـتـها روائيات عربيات، ألاحظ أن الخطاب الروائي بأشكاله الفنية المتنوعة، قـد حـقـقَ درجة عالية من العمق والـتـغـلـغل إلى لـبّ الوجود الـنسائي داخل مجتمعات لا تـزال متشبـثة بالذكورية وتهميش الـمرأة. بـعبارة ثانية، إن الـتخـيـيـل وتـوظيف المعيش، وتـفاعل الروائيات العـربيات مع النظريات الـفرويدية، أضاف إلى دلالات نصوصهنّ أبعادًا تـمتـح من التحليل النفساني والأنثربولوجي والفلسفة، ما جعل خطابـهن يـتـعدّى الإطار الاجتماعي والسـيـاسي. وهذه الـفئة من الروائيات الـمـميَّـزات يُـمكن إدراجهن ضمن الفـئة التي وصـفـتهـنّ الناقدة جوليا كــريـسـتـيـفا بالباحثات عن علاقة ذواتهن بالـعقد الــرمــزي: «لـم تـعد تُـخاض المعركة من الآن فصاعدًا في ســعيٍ إلى المــســاواة؛ فـالمعركة تـنشـد الاختلاف والخصوصية (…) إن الاختلاف الجنسي، البيولوجي، الفسـيولوجي المتصل بـإعادة الإنــتـاج، إنما يـتـرجمُ اخـتلافًا في علاقة الـذوات بـالعَـقـد الـرمزي الـمتـمثـل في الـعقـد الاجتماعي (…) وهو يُـزاوج بين الجنسي والرمزي ســعـيًا إلى العـثور في هذه الـمـزاوجة على ما يـميز الأنثــوي في البداية، وكــل امـرأة في نهاية الأمـر» (مجلة ألـف، عدد 19، كريستـيـفا: زمـن النساء، ترجمة: بشــيـر الســباعي).
فـعلًا، نـعثـر في بعض النماذج الروائية العربية النسائية على خـطاب يـتـخطى أفـق الدفاع عن المساواة بيـن الجـنسيْـن إلى طـرح مسألة وجود المرأة داخل العـقد الاجتماعي الذي يحدد علائق المواطنين بـذواتهم وبالآخـرين، مع مـراعاة الاختلاف والخصوصية بين الرجال والنساء. ومن هذه الزاوية، نشـيـر إلى نماذج حقـقت هذا المستوى الدلالي العميق من خلال شكلٍ روائي جديد يـسـند المحمولَ الإنساني للنص:
في «اسـمُـه الـغرام» لعلوية صبح (2009م)، تُـطالعنا شخصيات نسائية من طبقة متوسطة، متعلمة، كلهن يعـشن مشكلة الـعـمر الذي يجري نحو الكهولة والشيخوخة. كل واحدة تتحايل لاستــدامة الشباب ومغـازلة الأزواج والـعشـاق… لـكن نهْلا المسلمة التي أحبت هاني المسيحي، جعلتْ من الحب طوق نجاة تقاوم من خلالـه الزمن والسأم ونزوات الجسد العابــــرة. وضمن قصص النساء الخاضعات لـدوامة الـمـوضة، المتهافتات على كوكتيلات الأمسيات الاجتماعية، تـبرز قصة نـَـهْـلا كـرمْـزٍ لـعالم مُـضادّ يكون الحبُّ فـيه تـريـاقًا ضـدّ الأفـول والـموت: «لا شيء يقاوم الشيخوخة غـير الحب». تقول بطلة «اسـمُـهُ الـغـرام». إنها رواية، إلى جانب استـيحائها من حياة النساء في المجتمع اللبناني، فهي تـفتح أمامنا مجالًا لـتأمل علاقة الإنسان بالزمن، ومسألة مواجهة الموت في عالم فــقــدَ الـيقـين… «المـحبوبات» لـعالية مــمدوح (2003م): في رواياتها الأخرى، حملت الكاتبة وطنها الـمـمـزق في كتابتها لـذاكرتها، وفي هذه الرواية نجدها تستوحي حياتها في المنفى وهي متـنقلة بين فرنسا وكنـدا، بين حبها لابنها وهجوم الزمن الغادر في فضاء المنفى… وإلى جانب ما هـو خاص في عاطفة الأمومة، تـنقلنا الروائية إلى «مجتمع» كوزموبوليتاني يضم نساء أجنبيات من أقطار شـتى، وجميعهن تُـحاصـرُهنّ سـطوة الزمن والشيخوخة الـظالمة، وهن يبحثن عن وسيلة للاستـمرار في حب الحياة. «مُـخـمَـل»، لحـزامـة حـبايب (2016م): على مـستوى آخـر، تـستـوحي الروائيةُ حزامة مأساة شعبها الفلسطيني في مخيمات عـَـمّان، لـتصور قسـوة العلائـق العائلية، وانعكاس البؤس على السلوك، جاعلة من المرأة مـركز الـثـقل في مواجهـة المأساة. واسـتـطاعت «حـوّا»، إحدى بنات الأسرة في المخيم، أن تـتحمل كل العنف والأعباء لتـسعف أمها وأباها وجدتها، وبذلــــتْ جهدًا لتـتـعلم الخياطة، لكنها عندما عثـرت على الحب مصادفة، تصدى لها ابنها وأخوها ليـحرماها من حب مشروع… وعلى هذا النحو، ارتـقـت مأساة أسـرة «حــوّا» إلى مســتوى مأساة إنسانية مـرسومة بحساسية أنثوية كاشفة للمسكوت عـنه.
والأمثلة كـثيرة لا يمكن الوقوف عندها في هذا المجال، وتشمل أسماء روائياتٍ راسخات؛ مثل: سـحر خليفة، ورجاء عالم، وحنان الشـيخ، ومـيّ التـلمساني، وسـلوى بكر، وسـمر يـزبك، ورضوى عاشور، وفاتحة مـرشـيـد، والقائمة تطول. وما يجــب التـأكيد عليه، هو أن الروايات النسائية التي تجاوزت حدود الخطابات السياسية والاجتماعية تـوسلت، إلى جانب المعرفة والموهبة، بابـتداع أشكال تـستوحي المنجزات الـفنية في الرواية العالمية، مع إصرار على إسماع صوت المرأة في تجاربها الـذاتية وصـراعاتها مع الموروث الـمُـجـحف بـحقوقها. ومثل هذه الخصائص هو ما يؤهل الإبداع الأدبي، النسائي والذكوري على السواء، لأن يكون مـرصدًا لتـحولاتِ الخطاب الإبداعي المُـجدّد للقيم في كل مجالات الصـراع.
مـحمـد بـرادة – ناقد مغربي