عالية ممدوح
حمدالله على حصولي على الجواز العراقي الجديد. إني الآن عراقية بجميع شهود الاثبات ؛ هوية الأحوال المدنية وشهادة الجنسية العراقية وهذا المحروس العتيد والجميل كعريس بلونه الزيتوني الكامد وخطه الذهبي اللماع والمصاغ باللغتين المباركتين العربية والكردية . عال، لم أعد مجهولة النسب والهوية، السلف والدم ولو هو مختلط بالدم السوري من جهة أمي وبغير هذا وذاك فانا وحيدة في عراقيتي. أظن كل عراقي بمعنى من المعاني وبعد التي واللتيا يستقل قطاره ولوحده ويكاد يصل إلى لا مكان بعينه، إلى لا شخص بذاته . جميع المقاعد ، صحيح يجلس وجلس عليها المارون العابرون والمغادرون ال .. ولكن بالمعنى الوجودي لا أحد يجلس عليها. فالجلوس والقيام عنها إكراه تام . ما علينا . جواز سفري العراقي الحديث الطازج الصادر للتو كرغيف محلة باب الآغا الشهيرة في بغداد : لذيذ ورخيص وابن أودام . كاغده صاغ سليم ، محيوك بطريقة لا يدخلها التزوير الفبركة والفساد لا من الآعلى ولا من الأسفل . جواز عراقي صحيح مائة بالمائة، لا يتأهب للانصراف عني على الأقل فترة عشر سنوات . ياه ، هل ساعيش حتى ذلك الوقت ؟ لم أره عابس الوجه ولا يتظاهر باللطافة الشديدة ، انه فقط جواز بدا لي كمن أنتهى من عمله وسلّم إليّ وما علي إذاً إلا ان ارفع غطاء المائدة وأقوم بتنظيف الصحون فالضيوف انصرفوا. وآلان لا يراني أحد ، اي أحد ممن قام بتزويدي إياه ، فلا أنا ساتبدل ولا هذا الجواز سيمحى عن بصمة ابهامي. فالجواز العراقي وحيد هو الآخر ويعيش في عزلة وها نحن الاثنين نعيش سويا تحت ضغظ التحاسد والضجر من بعضنا للبعض الآخر.
2
أتصلت بي المسؤولة اللطيفة في السفارة قائلة بجذل حقيقي:
لدي بشارة لك طولها من باريس لبغداد.
اطلقت ضحكة وأنا أجيب :
أكيد وصل المحروس .
نعم ، نعم . ..
في اليوم التالي وحين وصلت مقر القنصلية العراقية لم اجد كرسيا واحدا خاليا. كانت هناك عدة عوائل عراقية وأطفالهم يتشاجرون ويتمازحون باللغة الكردية والآباء يتكومون على شبابيك القنصلية . فتحت أمامي غرفة الشؤون القنصلية وقدمت لي جميع أنواع المساعدة والرعاية الحقيقية، ثم بدأنا بالتوقيع العادي على سجل الاستلام بالطريقة التقليدية ؛ طبعة الابهام على العلبة الحاضنة للون البنفسجي الغامق جدا. قالت السيدة : وقعي هنا . وقعتْ . صورتان وللمرة الثانية فظهر أمامي نشيد النصر أو نشيد الأنشاد . نظرت إليه كمن ينظر إلى الوجه الآخر من القمر. كان يعوزني أن اطلق الهلاهل في صوت واهن، وهن من انتظار أربعة أعوام بقيت شبه سجينة في باريس. لم استطع تلبية أية دعوة وجهت إلي من البلدان العربية وها أنا لا أتحدث عن معذبي الرنان الصوت بلغة العشاق المغرمين. أنظر إليه بعين باردة وأظن ان بمقدور هذا الدفتر أو الكتيب الصغير جدا، هو أصغر من الجوازات القديمة ببضعة سنتيمترات ، فهم يدمجون الشكل الجديد لكي يتدفق مع المضمون الحديث، فبعد الجمهورية العراقية ذات العنوان الأنثوي ألزاخر بالتوريات اللطيفة، عدنا إلى جمهورية العراق ذات الطاقة الذكورية المركبة وكأنها ابرة تشج نسيج خمار حريري رقيق .
3
لم تنته الحكاية . سمعت صوتا من وراء الزجاج وأنا أهم بالتوديع والأمتنان:
أمر أخير مدام ، البصمة الالكترونية .
يارب الأولين والآخرين . تذكرت رحلتي للولايات المتحدة حين تم الأمر كما لو كان رفة جفن، ثوان وعلى وجه الدقة الأصولية . في سفارة بلدي كانت بصمتى أشد ميلا للويل والثبور مع وفي هذه الآلة الصغيرة ذات اللون الأزرق وما أن اضع ابهامي حتى يضيء الأحمر معلنا انتهاء المهمة . جربت ان تكون بصمتي كما لو كانت خفة الكائن الذي لا يحتمل هذه الآلة ولكن عبثا. حاولت أن تكون طبعتي بثقل فيل في غابة فكبست بشدة وأيضا بلا نفع. جربنا وقلبنّا الأصابع كلها على سبيل المزاح والفكاهة والجميع يستغرب هذه القطيعة واللامبالاة من رؤوس أصابعي داخل الآلة. كنت اتهكم على نفسي مرددة أمامهم: ان الاصابع تحمل أسرار النفس الحميمة كلها وها هي ترفض البوح أمامكم . فظهر المؤشر على الشاشة أمامي ثانية ؛ صفر الجودة واطئة ولا يجوز تسليم الجواز إلا بكفاءة عالية . بغضت اسمي واسم الذي خلفني ، اجدادي العراقيين والسورين وجميع الكلمات التي تنتهي بالياء والنون . ساعة ونصف ونحن نحاول والمؤشر صفر .
4
إنني في مرصد الصفر وهذا الأخير حارس مرمى جيد يصد الهجمات من هنا وهناك. سئلت أن كنت مريضة بالسكري، فقلت: مؤشر السكر لدي في صعود وهبوط وعليّ ضبطه لكني لا أتناول أي نوع من الدواء . سألت السيد الذي أٌرهق بسببي وهو يخاطب بغداد ولمرات عدة من أجل بعض الاستثناءات، قلت له:
إنني أمامك بوجودي الفيزيائي التام ولدي شهود بذلك، أنتم كلكم وهذا لا يحتاج إلى تحديات هذه البصمة القادمة من وراء الاطلسي . هذا أمر يؤخذ على جانب عال من المسؤولية من قبل أحدكم. أضفت وأنا أرى الوجوه أمامي ، القنصل على رأسهم :
حسنا لقد أكتمل المقال ، مقالي عن هذا المخلوق الاسطوري الذي يدعى الجواز وعن هذه الآلة الخرافية التي وصلتنا بعد الغزو والاحتلال الامريكي.
تذكرت رأيا لريجيس دوبريه يلخص ما يشبه ما نحن عليه : “” الاعتراف بأن هناك “” أبا “” مع عدم منح “” الأبوة “” سلطة الاسطورة ، أو على الاصح، اذا كان ثمة اسطورة، الولايات المتحدة ، حيث ثمة “” أب “” .
اجاب المهندس وصوته قادم من بغداد بعدما فتح الخط أمامي وهذا الأمر كان غاية في الاريحية العراقية مجيبا: حسنا، فلتكن هناك استثناءات وعلى مسؤوليتكم وهذا ما حدث فعلا الخ . نظرت إلى جوازي العراقي نظرة واحدة تامة العدة والعتاد كمن أنتهى من المس الذي أصابني. شفيت للتو من تلك المباراة ما بين شهود الاثبات من جانب كوكبة من أصدقائي، شهود بعراقيتي وهم من الاقليات الأجمل في حياة تاريخ العراق وحياتي ٍ«سيرد كل هذا في كتابي القادم» وبين ذلك المحامي الفرنسي النبيل الذي تولى أمري ورفع القضايا باسمي وكلها قصص وغصص. غرغرت عيني وكتمت انتحابي وأنا اطلع من باب القنصلية. صرخت وحدي وأنا على وشك أن ارزم عظامي كما أرزم بلدي واحوله إلى مدخرات لكي أقوى على أحتمال حكم وصولجان تلك البلاد .
++++
4000 دولار أمريكي كلفني هذا الجواز العراقي الجديد. كلا ، هذا الرقم لم تأخذه السفارة العراقية ولكن أخذ لإعادة تأهيلي كعراقية لا تمتلك اوراقها الثبوتية الاصلية بعد ان تم تلفها من قبل أحدهم كنوع من الثأرية. هذا المبلغ دفع للمرتشين والفاسدين من أبناء آوى ومن ضلوا السبيل. قطعتها من اللحم الحي لكي أعود عراقية في فتحة عيني المغوليتين ووجنتي الشاهقتين وقلبي العاصي. ياه، يا للرخص ب أربعة آلاف دولار وأمريكي فقط عدت عراقية من الرأس إلى أخمص القدمين. جوازي العراقي ألفه حول رقبتي كلعنة وفتنة، كثمالة وظمأ، هو ليس والدي ولا أمي، ولا أخوتي، ولا أهلي، هو ليس الأغنية ولا المغني وفي الغالب هو الذي سيضاعف من وحدتي وانفصالي وأنشطاري وما علي إلا تحمل ذلك التمادي والاندفاع في داخلي. وضعته جانبا أول ما وصلت البيت لكي اعود لسكينتي وعزلتي من جديد .. و ..
الخميس 1 ذي القعدة 1432 – 29 سبتمبر 2011م – العدد 15802
https://www.alriyadh.com/670922