المحبوبات .. دهشة الحكاية – سليم النجار

الرواية كتابة تحقق شروط تجنيسها من خلال استحضار العالم وتحريك التاريخ ورسم صورة الإنسان من الداخل، وكل روائي – روائية ، حقيقي يحاول في ما يكتب ، إنجاز شيء جديد يضاف إلى الواقع، يتجلى فيه المعنى الإنساني ويسعى إلى إضافات إلى الطبيعة لا وجود لها في الجغرافيا، لذلك فالرواية لم تضعف في مواجهة العولمة ولم تخش سطوتها ، لأنها لا تستطيع مصادرة إضافاتها ولم تتمكن من الإستيلاء على الثروات التي تضمها طبيعة الرواية، كما لم تتلوث المناطق التي اكتشفتها في أماكن لا مرئية ، بعوادم الاحتراق الصناعي.
ولا جدل في أن جذور الرواية تمتد في وجدان كل إنسان على وجه الأرض وإن مادتها الاجتماعية في كل وعي، والروائي – الروائية ، المتمكن هو الذي ينطلق من محيطه الخاص ليصل إلى منجم المادة الاجتماعية بكل مفرداتها، ودمجها بالعناصر الجمالية، مما يجعلها قريبة من الناس في جميع القارات ومختلف الثقافات .
وإذا كان هناك ثمة قلق على الرواية كجنس أدبي في مواجهة متغيرات العولمة وتحدياتها، فهو قلق ينصرف إلى المس بالخصوصيات وإشاعة الاستنساخ ، فالعالم المعولم يسير باتجاه أن يكون قرية كونية، حيث يعم التشابه الكثير من مظاهر الحياة، وبوعي هذه المتغيرات كتبت عالية ممدوح روايتها ” المحبوبات ” الصادرة عن دار الساقي – لندن .
إن قارئ رواية ” المحبوبات ” يزداد قناعة بأن الإبداع تمردٌ، والرواية أحد تجليات هذا التمرد، في نطاق الإبداع، غير أنه تمردٌ محكوم بضوابط فنية ذاتية، تتكرس في التجاوز والخروج على الثوابت، وتمرد الإبداع الروائي هذا، هو الذي أعطى الرواية كل هذا التنوع الثري، وأبعدها عن الرتابة والتكرار، وما ينتج عنهما من تشابه وتغييب للخصوصيات الإبداعية، التي طالما ميزت بين الروائيين الكبار وعصورهم وأفردت لكل روائي – روائية ، خصوصيته ولكل عصر ذائقته، وكأن الروائيين – الروائيات ، أدركوا هذه الحقيقة، منذ أن عرف فن الرواية.
وهذا هو الهدف من الحديث عن التمرد والرواية، لنقول : إن تمرد عالية ممدوح في روايتها ” المحبوبات ” نتيجة ، لا مقدمة، وأثر من آثار المعرفة الواسعة والثقافة العميقة، لا نزوة من نزوات التجريب والرفض السطحي – السلبي، بكل حالاته ، ولجهود المجددين الذين لم يصلوا إلى جديدهم ، إلا بعد تمثل القديم ، ومثلوا في ما كتبوا فعل تجاوزهم إلى جديدهم .
لقد صار جليا، أن كلما سار الزمن بالرواية العربية الحديثة باتجاه المستقبل ، سارعت أكثر فأكثر إلى التخفف من محمولاتها الدلالية المباشرة وابتعدت شيئاً فشيئاً عن الوظيفة الخارجية ، وهي الوظيفة التي كان القارئ يتوخاها منها ولا يزال، وفي ظل هذا التسارع في مسار الرواية نحو الداخل وتكريسه، يكاد الفن الروائي الحديث أن يكون حراً وينتهج في تكويناته وتعبيراته الشكلية إلى ما يؤدي به إلى آفاق الحرية في تماهِ مع ثقافة منفتحة تنأى عن التشدد والعنف .
لقد انفتحت عالية ممدوح في ” المحبوبات ” بكل تفاصيل حكاياتها المتعددة ، غير المكررة، على فضاء الاحتفاء الاجتماعي في شكل سردي يدفع بالقارئ إلى المشاركة في مشاهد يكون فيها الفرح حاضراً في المأساة، وفي هذا التناقض يكون الاحتفاء هو الناظم لمشاعر شخصياتها الروائية وعوالمها الداخلية التي تأتي عبر الأفعال أولاً، وعبر مواقفها من الحدث ثانياُ، وعبر رأي الآخر ثالثاً، وهكذا تتحدد الشخصيات في البناء السردي، وفق تموضعها في الفضاء الروائي.
إن إحدى سمات الفن الروائي المعاصر المهمة التي عرفت من خلال الرواية الأمريكية اللاتينية ، هي التحويل على عنصر التعرف من خلال الأفكار الشائعة ، الأمر الذي يضفي غموضا فنتازياً عذباً على فضاءات النص .
تحدث أرسطو في فن الشعر عن تقديم الشخصية كما هي، وكان يمكن أو في ما يعتقده الجمهور ممكنا، حتى لو لم يكن الاعتقاد عقلياً ، لكنه اشترط على من يعتمد العنصر الثالث، أن يكون ذا موهبة فريدة، ليتمكن من جعل ذلك مقنعاً، ولذلك كان – ماركيز – يدهش من ذهاب النقاد بعيداً، في تأويل بعض المشاهد الفنتازية – السحرية، مفسراً الأمر ببساطة ، في أنه كان يقول ما يقوله الناس ، فالسحرية هنا حقيقة وإن لم تكن واقعية، حقيقة لأنها واقعة يؤمن بها الناس.
لكن الحقيقة أمر آخر يحتاج إلى البحث والتقصي، والعناء الذي لا يتوقف، فالحث عن الحقيقة لا نهائي، وهذا ما حاولت أن تفعله عالية ممدوح في سحريتها الاحتفائية ، فنقلت الاجتماعي إلى فضاء احتفائي، وبهذا تبدع خصوصية عربية عبر وعيها الاجتماعي الذي يداني وعيها الإبداعي، إنه احتفاء بالحياة تمارسه شخصياتها الروائية ، في فضاء عربي بامتياز ، وهذا يدفع بنا إلى التساؤل ، كيف انشغلت الروائية بالاجتماعي ؟
إن القول بانشغال الروائي – الروائية، بالهم الاجتماعي والقومي ، على حساب ما هو فني، يعني إن النص يتأسس على مقولات فكرية واجتماعية ونظرية، فيكون بمثابة منكأ للإفضاء عما هو خارجي على حساب ما هو داخلي، فهل ينطبق هذا الحكم على نص المحبوبات ؟
النص بنية صغرى، يتحدد نظام تكوينها من خلال نوع وشكل صلتها بالبنية الكبرى – العالم – وهذه العلاقة نظر إليها الفكر الجمالي الإغريقي ، على أنها محاكاة، وواصلت الكلاسيكية هذا الفهم، وجاءت الرومانسية لترى هذه الصلة على أنها تعبير، فالواقعية التي رأت فيها انعكاساً ، ثم مع الرؤى النظرية الحديثة، الخلق، الإبتكار، استقلال النص، واعتبار أن الحياة هي التي تقلد الكتب حسب تعبير ” رولان بارت” لكن ليس ثمة مناص من الإقرار بقيام هذه العلاقة ، بغض النظر عن أشكال الوعي النظري وطبيعتها ونوعيتها ووظيفتها.
وبهذا المعنى لا يمكن أن يتجرد عن ملابساته المتصلة بالواقع أو يتوقف عن أداء دوره في البحث عن الحقيقة، ومن هنا يكون التمييز بين النص الأديولوجي الذي ينبني على الفكرة لإثباتها والبرهنة عليها ، حيث يتحول إلى ثوابت نظرية ، وبين النص الذي هو خلاصة تقاطع البنى الذهنية الذي يحتمل التأويل ويشتغل في محيط الأسئلة.
” المحبوبات ” مع استثناء إسقاطات خارجية مباشرة ظهرت في الفصول الأخيرة ، من الأعمال الروائية العربية الطليعية في قدرتها على تشكل روائي، فتشتغل بنفسها وتحتفي باستقلاليتها، من دون استعانة بالحقائق الخارجية التي تتحول فنياً وجمالياً، إلى حقائق صلبة داخل بناء الرواية المكتفية بنفسها ، وقد اقتنصت رواية ” المحبوبات ” هذه الإسقاطات بالرغم من مكونها الإحتفائي ، مصدر إلهام لنسج الرؤية المباشرة التي اتخذت طابعاً ذهنياً.
” كنت أدري في النهاية إن دمي سيكون وفياً وأنا أدفعه بعيداً، متستراً عليه كذنب أو كعاهة، الدم العربي، وأقف في المؤخرة، والآخرون يحدقون في بصورة غامضة، فلا أعود أُحبُ نيتي الطيبة تجاه الغير ” ص13
وحيث يتحقق الشكل الإحتفائي بوصفه تحقيقاً موضوعياً للمحتوى، من دون أن تكون الرواية بحاجة إلى عودة المتلقي للبحث عن المرجعية في عالم الأشياء والواقع الخارجي، وبهذا يتحقق المستوى التخيلي الإحتفائي ، بوصفه شهادة اكتماله الداخلي .
و” المحبوبات ” إذ تحقق معادلها الموضوعي هذا، إنما تبدع واقعاً جديداً فيك كل العناصر التخيلية المستمدة من عناصر العالم الخارجي الواقعي، والمنتشية بها، حيث يتلقى العقل انطباعاً بالأشياء والكلمات معاً.
” في المطارات تولد، وإلى المطارات تعود إنني متأكدة من إن أمي سهيلة، قالت هذه الجملة يوماً ما ، سمعتها بوضوح وهي تتحدث مع نفسها ، وتستعد لمغادرتنا، يحدث ذلك من حين لآخر، عندما نكون نياماً وهي جالسة في الصالون، أو حين نكون في الخارج وهي في المطبخ تقطع الخبز وترتب باقات الخضار في طبق عميق، تنحني قليلاً ثم تقوم واقفة بقامتها القصيرة، رافعة جسمها النحيل إلى الخلف، فتنجز أفضل الأعمال حين تعرف أنها غير مراقبة من أي واحد منا ” ص7
وإذ يحقق النص حضوره باندماجه في الزمان والمكان ، إنما يسعى إلى صدم أفق انتظار القارئ الذي لا يتوقع مثل هذه المفارقة بين زمن الحكاية وزمن القراءة، فالقارئ العربي ربما ستغيظه صورته في مرآة أنثى غير مستحبة، رغم الجو الاحتفائي لهذه الأنثى ، وهذا ما سيدهش القارئ عندما يتخيل ما سبق أن عرفه وعاشه، لكن ما يراه هنا يدفعه إلى إدراك إن الأنثى العربية كانت واحدة، والمفارقة إنها لم تعد كذلك في هذا العصر.
” وقفتُ وأشرتُ بيدي قائلةً، كلنا من الشرق ، حتى كارولين السويدية، الشرق ليس الماضي، أو البحث عن الزمن الضائع ، هو مصب الحب ، حتى لو كان حزيناً وساخناً وقاسياً، ويعتصر القلب من شدة بؤسه، لا أدري لمَ أشعر بأنكم أقرب إلى الشرق، من الشرق أصلاً” ص 246
فالتصوير الاحتفائي تحمل هنا وظيفة تحفيز الإيهام بالواقعي، ما دام صوت الراوية الأنثى يأتي من زمن معيش ، من قلب الأحداث، وما دامت الجملة الروائية ترد على لسان أنثى فإنها تصف وتصور وهي في آن واحد تقرر على لسان الراوي الأب، الذي كثيراً ما يندمج عنده الصوتان في الكلمة، فتخرج سليمة ممتلئة نابضة بعناصر مادتها، موضوعها، مدلولها، فالقارئ ليس بحاجة لإفهامه إن هذه الأنثى ، كانت تعيسة وبائسة .
وتظهر المفارقة الاحتفائية الساخرة من خلال التورية، ووظيفة التورية في الأحداث الروائية التي طرحتها عالية ممدوح ، تشبه وظيفة الإيقاع في الشعر، حسب ” روبرت برنارد مارتن ” .
” لا ، هذه لست أنا، وإنما غيري، إذ ليس بمقدوري، تحمل هذا الكم من الألم ، لأجل إنسان ما تهب الريح الندية، لأجل إنسان ما يتوهج الشفق، نحن لا نعرف شيئاً، فالأمر سيان ” ص75-76 ”
فالتورية التي تقوم على الجناس اللفظي الكامل والناقص، هي ربط كلمتين أو جملتين متغايرتين، وهذه التوريات تقوم على المصادفة، غير أنها في مستوى أكثر تعقيداً على صعيد طريقة التفكير، وقد كان عالم شكسبير يتميز بحفوته بهذه التوريات ، حيث الجملة غير المتوقعة تمنح سابقتها معنى جديداً، فالتورية تقوم هنا على المصادفة في محيط من الحوار، غير أنها مصادفة واعية ومقصودة من قبل الساردة الخارجية ، حيث تتدخل لتضيف صوتاً جديداً يحيل إلى طريقة في التفكير، وهكذا يتقاطع في مثل هذه التورية صوت الأنثى ، الشاب .
” لم تعد مراهقاً يانادر كي…
كانت كمن يحمل التوبيخ في جيوب منامتها أو معطفها، كلما تحتاج تغرف وتعطيني.
اين ربطة العنق لكي تخفف من شكل تفاحة آدم الثقيلة في عنقك ؟ ” ص76
إن ممارسة الروائية للتخفي ، أتاح للنص الانفتاح على اللغة، فلغة الرواية مفعمة بالتاريخ والنشوة والاحتفاء وهي تنحو منحى مشهدياً تصويرياً، ومن هنا كنا نجد مشاهد حية، وصوراً مفعمة بنكهة المكان ورائحة الزمان، كما :
” لو اختل مكان النخيل وغطى المكان، لو كان عيد الميلاد ليس وقفا على السيد الناصري، الرجل، النبي، وإنما المكان أيضاً، على القدس والنجف وكربلاء، على مكة والمدينة، الصلب لم يحدث في بيت لحم فقط، الصلب في كل العالم ، لاسيما عندنا ” ص 246 – 247
هنا تدفعنا الروائية عالية ممدوح إلى سؤال : هل نحن في عصر الكلام الميت ؟ ويتولد من رحم هذا السؤال، سؤال آخر، هل سننسى إن اكتشاف الكتابة كان هناك ، حينما لم يكن الشرق شرقاً في الذاكرة الأوربية ، وحينما لم يكن الإسكندر المقدوني قد حلم بهذا الشرق ؟
هذا الاحتفاء بالمكان، الذي لن يعرف عنه أي شيء، إلا إذا ما كتب عنه، وإذا تحدثنا عن الكتابة ، فهل يمكن أن لا نتذكر ، مكانها الأول، سومر ، وقبل أكثر من أربعة آلاف عام ، اختُرعت فيها الكتابة ؟ أية انتقالة في تاريخ البشرية ، حينما صارت الأشياء الحية والثابتة في الواقع، محض رموز وإشارات ، وكيف صارت الكلمة المكتوبة فعلاً يثقب الخيال والواقع معاً ؟
في الشرق كانت الكتابة ، وكان صلب الحب، وما بينهما عاشت رواية ” المحبوبات ” لعالية ممدوح، التي عاشت هذا المشهد الروائي الاحتفائي المتداخل في التساؤل باستمرار، وبتداخل المخيلة والروح، حيث الانطواء على حنين غامض إلى حلم بولادة أخرى لمواطن حر في وطنه ، سيد على أرضه.

صحيفة الرأي – عمان 8- 5- 2012