الكتابة والمرض

عالية ممدوح

1-
ينبغي التكلم عن المرض كمذكر ومؤنث. ينبغي القول إن المفرد لا يليق بالمرض: هو جمع تلتحق به جميع المفردات وتضطر اللغة في هذا الميدان الاستغناء عن الضمائر؛ هو، وأنت، أو أسماء الإشارة؛ ذاك/ وهذه الخ. اللسان في أثناء المرض يقترح اقتراحات لا حصر لها وأغلبها خطأ. المرض يؤمن بالتعددية ويضجر من الفردية، فصاحة الألم تتجانس مع الكثرة الشديدة. فالوجع لا يقسم نفسه إلى أجزاء ولا نقدر أن نبنيه للمجهول كما في اللغة، اللغات جميعا. كل مرض يريد صاحبه أن يعرف خطوات الاختراق لأي عضو، للأفق الذي يتحرك به، متى سيغادر وكيف؟ لا وجود لشيء أكثر حيوية ونشاطاً كالمرض وكلما تبدع البشرية في الاكتشافات والاختراعات تُكتشف عوالم وكائنات أبدعت هي أيضا خططا لا نظير لها في خط الهروب من المضادات والعلاجات؛ البتر، الجراحة، الدواء بكل فئاته الكيميائية والفيزيائية والعشبية والنفسية الخ. في أثناء المرض ما علينا إلا الاستمرار بالوجع، فهذا لا يعرف الخطأ والصواب، الوجع موجود فقط. لدى بعض البشر غريزة المرض أكثر وأوضح وأقوى من اللأمراض. هذا نمط موجود فيما بيننا ومن حولنا، ندركه في أنفسنا وأهلنا وبالتالي، لا قواعد نهائية في ردات الفعل إزاء المرض، خطيرا مميتا كان، أو متعبا عنيدا وسافلا كما في حالتي .

2-
كنت أرقب نفسي وبدني هذا الذي أنتمي إليه وأشعر أن كل شيء يفلت مني وأنني أتعرض للعدوان والافتراس بصورة منهجية تنتقل من المكان الواحد وبخطى حثيثة إلى جميع أنحاء الجسم. له أسحلة حديثة ومتطورة أين منها أسلحة العراق المظلوم؟ أطلقت على مرضي اسم المرض الحميمي، أي والله، مثل هذا العنف النموذجي الذي لا يفارقك طوال شهور ما يعني أنه يقوم بواجبه ولا يفكر بالقطيعة أصلا. صحيح، يتربص بك فدائما له نقطة ثابتة ينطلق منها؛ العنف والعناد. أبتسم بوهن شديد وأردد: حسنا، هو عنف يوافق عنفي فلا نضطر للصراع طوال الوقت ضد أو مع، المهم هو موجود وأنا أيضا واحدنا لا يستغني عن الآخر، لا أدري لم تذكرت أذكى مقولة في السياسة الامريكية، على الخصوص بما يفيد منطقتنا شديدة الالتهاب، ولا أعرف فعلا من قائلها أو قائلتها : “نعم هناك كوارث ومشاكل في العالم وليس في نيتنا حلها جميعا وما علينا إلا التعايش معها”. آه، ما أجملها من نظرية وهي صحيحة مائة بالمائة. كان الأمر الشاق والمضحك؛ أن المرض صحيح جدا، أعني أنه صادق وعلينا أن نثق به وبوجوده مما جعلني أتساءل : كل شيء من حولي مفبرك ومزور وزائف فلماذا يصدق المرض مثلا؟ فأدرك حالا؛ أن المرض في العمق الوجودي هو الأصل، هو الأسبق، اما تلك – المدللة – الصحة، فتبدو كنوع من الإكراه أو التمويه المخادع .

3-
أنا مريضة شديدة الطاعة وحين وصلت لقسم الطوارىء في مستشفى جورج بومبيدو القريب من دار سكناي والتابعة لها في ملفي الطبي، رُكنت على جنب فترة خمس ساعات. تماما، لم أكن معرضة للموت وكانت الحياة بجواري بامتياز وأنا أشاهد صنوفا من البشر يتدرجون ما بين الموت البطيء مرورا بالذبحات الصدرية وحوادث السير الخ. شعرت أن المرضى كالعشاق يشتركون في أشياء كثيرة: أفكارهم عن المحبوب والمرض مشوشة عمومية وغير واقعية، لكن هذا لا يمنع كونهم عشاقا حقيقيين يعملون جهدهم ألا تبدو هشاشتهم واضحة للعيان ونظامهم النفسي شديد الاضطراب. كنت ما زلت أتوق للتوصل إلى هدنة معه، أن يكون أكثر، كأن يسمح لي بالمغادرة من حين لآخر، لكي أصير ضده وضد هيمنته، وفي قرارة نفسي كان علي أن أتحلى بالصبر الشديد. تماما هو ليس خطيرا لكنه متوحش ولا يعرف التسامح وعلاجه طويل ويطول. قالت لي طبيبتي الجميلة فيرونيك:
صحيح هو مرض شائك، “نوع شديد القسوة من الحساسية الجلدية وحتى إشعار آخر” لا يصيب في العموم إلا بعض الذين لا يعرفون الفرار من التعسر النفسي والانجراح الروحي والإحباط العصبي. كررت على مسامعي كما صديقتي الدكتورة وفاء قاسم بالضبط: أن تنقطعي نهائيا مع كذا وكيت، أن تتعلمي التجوال بين خطوط نقل تسمح لك بجولات جديدة قد لا تكون جميعها لطيفة لكنها لا تكسرك. وعلى قلبك أن يضيء نفسه وبدون أي سند. اجعلي بابه مواربا فربما يزداد رحابة عما هو عليه .

@@@@@@
في أثناء وبعد المرض تفاجئك ذاتك بأفكار غاية في التهكم والفكاهة: كنت أعتقد أن كل مرض يصيب المرء سببه الحب. تماما، الغرام، وإذ بي أكتشف أيضا، أننا نموت بفضل غياب الحب، وأن الأكثر أهمية في هذه الصيرورة بالذات: الكتابة. كانت صور الكتاب والشعراء والرسامين المرضى تتمهل داخل بصري وتخترق قاماتهم ونصوصهم الإبداعية جميع خطوط التأويل حتى تصورت مثلا: لو لم يصب كافكا بالسل فهل كان عظيما إلى هذه الدرجة؟ وفرجينيا وولف التي كانت شهيتها النفسية هي الأسوأ فانتحرت، ونيتشه وهولدرلين، مارسيل بروست، جميس جويس وفان كوخ، السياب وسركون بولص.. و.. يقول الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز:
“قد تكون صحة الكاتب هشة وبنيته ضعيفة ومع ذلك فهو عكس العصابي: إنه محب كبير للحياة، على الأقل لكونه فقط ضعيفا جدا لتحُمل الحياة التي تخترقه أو العواطف التي تجتازه” .

الخميس 27 شعبان 1429هـ – 28 اغسطس 2008م – العدد 14675
https://www.alriyadh.com/370260