كنت بمقدوري دعوة حفيدي لكي يكتشف حينا القيم, الأعظمية؟ هناك ولدت ودرست, تخرجت واشتغلت وأغرمت. إن ما كان يرعب حقا ألا يتعرف الحفيد علي بلد جدته قط. يسأل والده. هل كان هناك حي بذلك الاسم فعلا؟ أم وجد علي شكل مساحات روائية فانسحب واختفي في أثناء البلبة والاضطراب, فدخل في وهم الكاتبة/ الجدة, التي تميل للفكاهة والمبالغة أيضا؟ هذا كان جوهر الجحيم, ألا تكون الجنة موجودة في مدينتي, لذلك ظل هاجسي الأكثر ضراوة هو استدعاء قوة الحياة وحيويتها في مواقف ومصائر الأشخاص.
قوة البيت العراقي بالذات في رواية( النفتالي) وهي تدور بين أحياء الأعظمية معفرة بالغبار واللا تسامح والفشل مما جعلها تتناول الآلام كما المضادات, تخزنها في مجري الدم لتقاوم عبرها الدمامة والظلم.. قوة مازن وهو يحاول ترميم روحه لكي يقوي علي المواجهة وهو محاصر في الغرب.. قوة صبيحة في رواية الغلامة.
هكذا تحدثت الأديبة عالية ممدوح مؤلفة رواية المحبوبات والفائزة بالميدالية الحادية عشرة لجائزة نجيب محفوظ للأدب الروائي التي يقدمها قسم النشر بالجامعة الأمريكية بالقاهرة منذ عام96 لتقديم أفضل الأعمال الروائية المعاصرة وترجمتها لتصل لأوسع قاعدة من القراء علي مستوي العالم لتسليط الضوء علي الأدب العربي المعاصر وفرسانه الجدد وفهم بعض من أبعاد الثقافة العربية.
ومع صاحبة روايات المنفي والشتات التي تحولت سطورها لتعاويذ مضادة للنسيان ولشتي أنواع الأستلاب وعوامل الفناء كان اللقاء.. تحت سماء رمادية ورزاز امطار خفيفة تلاشت الحدود وتقاطعت الأماكن والأزمنة.. تشابك الماضي والحاضر والمستقبل وتداخلت الصور ما بين سماء القاهرة وباريس وبغداد ضفاف النيل والسين ودجلة, لنعايش معا لحظات الارتحال واكتشاف الذات والوطن والبشر..
لم يكن بين يدي نص مكتوب يساعدني في أن أقترب أو أتكشف عالم روائية بدأت نص المحبوبات بعبارة في المطارات نولد وإلي المطارات نعود.. لم أعثر في مكتبات القاهرة علي أي من نصوصها وتعذر علي استعارة أي مخطوط من لجنة التحكيم للجائزة لضيق الوقت.. كان دليلي الوحيد لحظة لقائي معها, كلمات متناثرة التقطتها أذناي وحفرت خطوطا في عقلي.. ففي قرار لجنة التحكيم أشار استاذنا د. عبدالمنعم تليمه إلي وعي وموهبة عالية بتقنيات الفن الروائي وتشكيلاته الجمالية وتحدثت د. هدي وصفي عن النص غير المحدود الذي تتماهي فيه الفلسفة والأدب ويتحول فيه المتلقي إلي راو من الدرجة الثانية عندما يمتزج الإبداع بحكاوي الحياة, وتحدث ابراهيم فتحي عن عراقية الشتات التي تجسد محنة وطنها, واهتمت د. سامية محرز برواية المنفي التي تحتفل بالاختلاف والتضامن في آن واحد لتقدم رؤية شعرية في عالم يغيب شاعرية البقاء..
لم يكن في جعبتي سوي كلمات تشي بأكثر مما تفصح عنه فكان علي أن أخوض بنفس رحلة البحث لأتعرف عن قرب علي الكاتبة والانسانة التي اختارت الرحيل والأغتراب لنقترب أكثر.. اعتذرت لأني لم أقرأ لها من قبل وسألتها عن ابداعها وإذا ما كانت قد تدرجت من القصة القصيرة إلي الرواية وعن الأفكار والقضايا التي تتكرر في رواياتها علي مستوي الوعي واللا وعي.. قالت عذرا لاننا لم نتعرف من قبل ولكنك لن تجدي لي أي نص في المكتبات في القاهرة.. أنا خسرانه لأني لم أقرأك وأنت خسرانة لانك لم تقرئي لي فالكتابة أرقي أنواع التعارف الانساني.. مع ذلك فوجودي في القاهرة بهذه المناسبة فرصة حقيقية ليتم التواصل مع الكتاب والنقاد والقاريء المصري..
وأضافت لقد بدأت بالقصة ولكني شعرت أنها تضيق علي فاتجهت للرواية وعن القضايا التي تتناولها في أعمالها قالت البعض يري أن الوطنية تعني الكتابة عن القضايا الحارقة الكبيرة, أنا برأيي ان الذين يكتبون عن القضايا الصغري التي لا تري بالعين المجردة ليسوا أقل وطنية.. من يكتب عن قصة حب عظيمة.. من يخترق المرجعيات ويتحدث عن المسكوت عنه ويقاوم شتي اشكال الاستلاب ليس أقل وطنية ممن يكتب عن فلسطين..
استوقفتها قائلة.. إذن فهي الحرية ولكن علي أي المستويات.. المرأة أم البشر أم الوطن كله؟!
قالت نعم الحرية ولكن للبشر كلهم.. منظومة الحرية تهمني كذات, كأم, ككاتبة, كمخلوق بشري.. الحرية كمرجعية لاتخاذ القرار والفعل بل والخطأ لكي اتعلم من عثرتي. ومن هنا كان اختياري أن استخدم في كتاباتي ضمير المتكلم الذي سحق.. هو ضمير لا يحبه النقاد كثيرا لأنه أنت, وممنوع أن تتحدثي عن الذات.. عليك أن تقولي نحن( أي الجماعة). والجماعة يمكن أن تسحق الذات وأنا مع تحقيق ذات الفرد. والكتابة مشروع لتحقيق الذات. فالعالم ملك لنا جميعا والحقائق مثبوتة فيما حولنا وما علينا إلا البحث عنها في الداخل.. داخلنا.
توهجت والتمعت عيناها واضطرت للتوقف لتلتقط انفاسها فانتهزت الفرصة لاستزيدها فقلت.. هل هذا يعني انك تتفقين مع الرأي القائل أن الأيديولوجيات تحد من قدرة الكاتب علي اكتشاف العالم وتلعب دورا في تسليط الضوء علي كاتب وإهمال آخر؟! أجابت عمليا أنا لم اشتغل بعمل سياسي تنظيمي حزبي مبرمج ولم أتعاط بالايديولوجيات ولكن أنا أعرف من خلال زوجي لأنه عمل بشأن سياسي. أظن الايديولوجيات خرجت مجموعة من كتاب غير مستقلين.. مجموعة من الموظفين وليس من المبدعين..أنا كنت أحاول أكون كاتبة صحيحة غير مسحوقة.. الكاتب ايديولوجيته الوحيدة أن يكتب جيدا.. قانون ايديولوجيته ابداعه. لكن الذي حدث انهم صعدوا اناسا يستحقون أولا يستحقون ووزعوا النياشين والأوسمة علي من قد لا يستحق لمجرد انه ينتمي للخانة الفلانية.. انهم يصنعون نجوما واصناما ثم يسجدون لها..
راودتني رغبة أن أصفق لها وأن أعترف لها بأن هذا مانتحدث عنه في الكواليس دائما وإن خشينا أن نصرح به ولكني ابتلعت كلماتي آرائي طبقا لقواعد اجراء الحوارات وسألتها عما اذا كانت جرأتها وكلماتها القاطعة نتاج للحياة في باريس تحديدا وعن تجربة الغربة التي اعتبرتها في كلمتها اثناء احتفالية القاهرة بالجائزة أحد السبل لاكتشاف الذات والوطن فقالت: صحيح جدا.. الغرب اعاد تربيتي بصريا وجماليا ومعرفيا.. بوب معارفي انا عندي احساس دائم حتي وأنا في بلدي أن علينا أن نراقب أحوالنا كما نراقب الآخر.. علينا أن نعلن إن كنا مهزومين أو غضبانين.. نحن وصلنا للهاوية لأننا لم نعترف باخطائنا ولا هزائمنا التي هي جزء من كينونتنا البشرية..
الغربة تجربة موجعة ولكنها تضع مسافة بينك وبين جسمك, علاقتك بالبشر وببلدك.. تعيد التواصل.. تعلمت منها توثيق معارفي وتاريخي الوطني وأن احوله إلي الشخصية المركزية في جميع اعمالي. احاول التوثيق و التجريب والشهادة لكشف الأحابيل الايديولوجية ودناءة السياسة الدولية التي كلفت ولا تزال تكلف بلدي غاليا جدا. انني احاول اللحاق ببلدي وأنا أسابقه في الجري لكيلا تموت المدينة وأنا اكتبها. تجربة الغربة قاسية فيها فظاظة ولكن كل شيء له ثمنه.. التعليم المجاني انتهي امره وأنا دفعت ثمنا باهظا ولكني سعيدة به. قلت: من بين أوراقك سطور تقول سيدون العراق بكل الطرق الممكنة واللامعقولة ثقافة الفناء والاختفاء. بغمضة عين اختفي العراق.
وفي موضع آخر تقولين لكن بعض المدن الميتة وتلك التي تموت أشد حياة من التي يسمونها حية ثم تقولين بمقدوري محاولة فهم العالم اذا فهمت بلدي وهو يموت ويختفي.. بلدي الذي لا يعرف كيف يواري الجثث, تغص بها الشوارع والمساجد وليست هناك أية مراسم مرعية, دينية, اخلاقية, أو دولية لدفنها. نعم ان الولايات المتحدة هي مركز العالم, ولكنها لن تكون قدر بلدي.
عند هذا الحد اسمحي لي أن أتساءل عن موقع الرواية التاريخية, التي تلجأ إليها معظم الروائيات الجدد في العالم العربي لتأويل التاريخ واسقاطه علي الحاضر, في كتاباتك الشخصية؟
قالت: في رواية الغلامة تم اغتصاب وقتل صبيحة ورميت جثتها علي شاطئ دجلة.. حدث هذا في عام63 في مرحلة كانت أشبه بحمل خارج الرحم أنتج ولدا مشوها.. كان بيتي مقابلا للنادي الأوليمبي الذي تمت فيه الاغتيالات وتحول لمعقل عفن ورمز لهذه المرحلة. أخذت هذه الصورة ووسعتها وكتبت الغلامة التي تعتبر إلي حد ما اسقاطا رمزيا علي العراق الذي اعتصب وانتهك. مع ذلك أنا لا أميل كثيرا للماضي وما عندي خبرة باستخدامه أنا ليس عندي هذه الحيل لهذا النوع من الأدب الذي يحتاج لقدرة روحية.. أنا أعرف قدراتي واختار المشاعر الانسانية وبالنسبة للرواية التاريخية لم أجد فيها حالي..
من وراء زجاج الشرفة الرحبة تألق شعاع شاحب ايذانا بمغيب شمس تبادلت الأدوار مع رزاز المطر الخفيف طوال اليوم. ادركت أنه لابد لي من الانصراف لأترك لمضيفتي فرصة الاستعداد لأمسية جديدة في القاهرة قبل الرحيل. مع ذلك وقبل عبارات الوداع المعتادة لم أملك إلا أن اسألها عن موقع الأدب العربي في فرنسا واذا ما كان يصنف كأدب حقيقي أم مجرد شكل غرائبي.. فقالت كلا الشكلين موجود ومع ذلك فهناك اسماء بعينها تقدم أدبا حقيقيا ورؤية لمصائر البشر مثل صنع الله ابراهيم وجمال الغيطاني وحنان الشيخ, يسعي القاريء الفرنسي لهم.. وهناك من يحاولون أن يكتبوا طبقا للملامح والقسمات التي يتوقعها الغرب وهذا هو مشروع كتابي القادم. فأنا أريد أن أزيل هذه الهالة وابعثرها وأظهر صورنا الحقيقية.
في الطريق أظلني آخر شعاع للشمس قبل المغيب وتردد في سمعي صدي كلمات عالية نحن بنات وابناء احداث جسام كسرت ظهورنا وحفرت علي ملامحنا الوحشة والهزائم, وبسبب جميع الويلات بقي صوت القلب.. سواء كان علي بعد آلاف الأميال أو علي بعد نصف متر..
شباط 2005