الغلامة – جنان جاسم حلاوي – النهار

ثلاث نساء مِثليات تعقدهن وردة حب, وردة سرعان ما تنفرط في حوض القسوة الجاف, في حمامات دم السياسة, وعلى حفافي اليأس والجنون والاخفاق. نساء فقدن عشاقهن ايضا, إذما تتشظى الروح, حيث سوء الفهم والاحباط يعمل على الفراق والغياب والموت.
نساء احببن بعضهن البعض الى حد الغيرة والنكاية, فتفرقت بهن السبل وتشابهت مصائرهن: صبيحة قتلت, هجران جنت, وهدى غادرت العراق قسرا.
تهب عالية ممدوح الحب, ان كان مثليا او طبيعيا, ذلك القدر الفائق من الاعتناء والاهتمام والتمجيد فتبرز عنصر التضحية كونه قدرا او كفّارة في بلد حار, قاس, مائي, طيني ودموي مثل العراق. فتذهب في لغة كثيفة دافقة الى اصقاع مجهولة, وزوايا خافية, واعماق سحيقة في عوالم المرأة العراقية, وتصوراتها لما حولها, وردود افعالها لما يقع عليها, فهي دائما امام مجهول خاص بها, هي الانثى التي يجهلها الرجل: مرآتها التي ترى فيه حبها, وقوتها وفرحها.
وعالية ممدوح على خلاف سائر الكتّاب العراقيين لا تصور الرجل قاسيا بحق المرأة وظالما لها, فهي تمجد الذكورة وتتغزل طويلا بها, وتعطيها من الصفات ما يجعلها مركزا وهدفا وقوة تسعى اليها نساؤها (صبيحة وهدى وهجران). فالرجل هنا محط اعجاب وفرح واعتناء ورغبة ونقطة جذب تشع حنانا وحبا وعطاء, وهو ضعيف وذليل ومخذول امام جسد المرأة وعطائها وفتنتها:
“وصدري يدوخ وصدرك يحز بطني. فتشرع بي, تحملني وتضعني فوق برجك, الى حيث يشاء الرب والليل والاجداد, فازداد فوحانا والتف عليك, اطفو, اميل, استدير ولا اعضك. فتصرخ:
– عضيني, إرفسيني, هيا لا تسكتي, هيا. لا حدود للجسد إلا الجسد.
والثمار تيمم شطر الثمار وانت تريدني, تقول ذلك باللسان والذراعين, باللحم والعرق, بالرذاذ والألم والفراق والخوف والاعتباط, بالبرتقال والنعناع” (ص 180).
و”كلما اعض استدرك نفسي وادشن قوى جديدة لم اعرفها من قبل. غريمي هو, محبوبي, برجي, فريستي ووطري. هذا الريق المخصص للظهر والذراعين, للصدر والفخذين. استبدل ثمار الجنة بوجبات اعضائه. اعض واردد, لأول مرة بصوت واضح, ما هذه الا البداية” (ص 182).
“آه, في غرفة النوم وعلى الفراش, وبكل جلاء ووضوح كنتِ تراقبين اعراض ذلي. كنت تتمايلين بايقاع طقسي. لا تسرعين لكن على اهبة الاستعداد. هذه هي اللحظـة المرتقبة.
وحين, قلتِ, هيا تعال, يقف ذلي في ما بيننا. لا أحد يشتبه بك. هامتك مرتفعة والفيضان لا يتوقف وكرامتك ترفرف. اراها وأنا مطلي بالذل. اعترف بعبقرية نظامك الشهوي. انت تراوغين ربما, وانا لا اكذب لكنني ذليل ومخذول ” (ص188-189).
“رائحة جسمه احلى من جميع العطور. ريحة بودرة وشمع يحترق. ويفوح تفاح مشوي وخبز ملفوف بالنعناع. كلما اشمه اصير غير شكل” (ص 150).
تفتح الرواية نوافذها على مشهد اعتقال صبيحة بعد يوم من انقلاب 8 شباط عام 1963, لارتباطها ببدر حبيبها اليساري الثوري. لهذا التاريخ خصوصية راعبة في اذهان العراقيين حيث قام حفنة من الضباط المغامرين الفاشيست بانقلاب عسكري على الديكتاتور عبد الكريم قاسم لينصبوا انفسهم حكاما بقوة القتل, فجرت آنذاك مذابح واقيمت حمامات دم راح ضحيتها الوف الشيوعيين والديموقراطيين واليساريين والكتاب والصحافيين.
تصور الكاتبة مشاهد مروعة لتعذيب صبيحة حيث يقوم الجلادون باغتصابها في وحشية, وحين تغادر المعتقل مهشمة ومحطمة تجد نفسها حاملا, فيما يغيب بدر الى الابد قتيلا, ليضحى ايقونة تضيء روحها بالامل.
ترمي ممدوح في كل صفحات كتابها الى فضح السلطة مؤكدة على قسوتها وغبائها وحماقتها وديماغوجيتها, فتسخر من انماط ملابس رجالها واثاث مكاتبهم وطرقهم الخبيثة في ايذاء الناس وقتل النفوس بلا رادع, ان في السجون او في دوائر الدولة.
ومثالها على ذلك الجلادون في الملعب الاولمبي في بغداد عندما حوله الانقلابيون الى سجن كبير (وحقا, ففي هذا المعتقل الرهيب يوم 8 شباط عام 1963 تم قتل المئات من السجناء السياسيين بوسائل تعذيب بدائية), او في صورة السيد مسلم, رمز رجل السلطة القاسي والاجوف.
ولا تنتهي الرواية الا بزمن اخر يعيد نفسه في العراق, فيرجع الدولاب الدموي مرة اخرى عام 1978, بعد فشل الجبهة الوطنية بين الشيوعيين والبعثيين, ويخيم شبح الارهاب كما كان في سابق عهده, فيجد اطفال يلعبون تحت أحد الجسور في بغداد “صبيحة” جثة طافية على سطح نهر دجلة وقد تشوه جسدها من اثر التعذيب وحطمت رصاصة القتلة رحمها.
تقوم صبيحة على ثلثي الرواية في مقام الراوي, تتحدث بصيغة الأنا, في سرد مسهب طويل, كثيف, تشده الروائية في قوة ودرية وفتنة, حتى تأخذها حالة الوجد الى التحدث عن مغامرتها في الكتابة, على لسان بطلتها, مستخدمة احيانا مقاطع مجتزأة من اعمال آخرين لكونها قدوة ومبادئ اثرت في آليات كتابتها:
“ان وجود بطل في رواية او قصة ربما, سيدفع بالعمل الى مديات عالية من القوة والعمق والجمال. فهالة الابطال بها جانب من التجرد والنزاهة والغيرية. هكذا كنت اسمع واقرأ وارى, وبسبب هذا كانت تستهويني الكتابة عن اللاابطال, اولئك الذين لا يستطيعون العيش بمفردهم مثلا او بدوني”. (ص 24).
“لكني اعرف امرا واحدا لا غير: ان الفن اهم من الحقيقة” (ص 44).
“على العموم أنا استبق الحوادث, تلك التي جرت او تخيلت انها حصلت, او تلك التي تأخرت في الحصول ولاسباب شتى, لست انا المسؤولة عنها. لكنني بقيت اردد دائما انها ستحصل. كنت اراها حاصلة, ليس في المنام ولا في احلام اليقظة, كانت تحصل امامي منذ قرون وفي ساحات متحركة وخارج او داخل الحدود. هذه فائدة التخيل, لا يترك الانسان وحيداً, فتقابل صديقا, عشيقا قديما او محبوبا جديدا فتتأكد من معنى التخيل وانت ترافق بعض الشخصيات, ترسل اليهم اشارات معينة, هنا بالغوا, وتركوا الساحة خالية هناك. فاسعى جاهدة للبقاء بينهم وانا افسح لهم المجال للظهور كعراة ومتوحشين” (ص 201).
“لكني اواصل تسجيل ادق التفاصيل, على سبيل جمع المعلومات, تقصي الحقائق وصناعة ارشيف خلاق, وليس اخلاقيا. فالناس شغوفون بالفضائح وافشاء الاسرار على ان لا يكونوا هم اصحابها” (ص 202).
لكن الحب لا يتوقف عند حد ولا يتردد, كذلك النساء, فكفاية الجسد لا تتحقق الا في الحب والمضاجعة الدائمة والمتواصلة كي تأخذ الحياة كفايتها وكي يشبع الجسد بالحياة, فصبيحة لا تكتفي بحب بدر ولا بجسد هدى, بل تذهب بعيدا, فتنام مع مصعب عشيق هدى, وكأنها نسخة من ابيها الذي تزوج من عديدات, او هي امتداد ومواصلة لحياة, واستكمال لمشوار حب إنكفأ في صورة هجران التي جنت بعدما هجرها رامي, او حالة هدى التي هربت يائسة الى بيروت.
فبصبيحة وحدها يكون دوام الحب حتى الموت الغامض والمحتمل في اصقاع تضج بالانقلابات العسكرية وتطفح بالقسوة والغياب.
تدس ممدوح في خاتمة الرواية فصلا تمجيديا للناقد العراقي الكبير الراحل عبد الجبار عباس لتضعه في موقع الشاهد على جريمة مقتل صبيحة, والباحث عن الحقيقة, والضمير الاعظـم الرائي للحدث, والقارئ صفحاته بعين الانحياز للحقيقة ضد القمع المغيّب لها.
“الغلامة” رواية عراقية جريئة في فضح القسوة, وفي تمجيد الجسد وتصوير المرأة القوية في حبها ومغامرتها: المرأة الابدية: عشتار العراق التي ترتفع وتسمو دائما فوق جروف الدم والموت, ورياح الخوف والجنون.