الشاعر وليد جمعة

عالية ممدوح
-1-
سألت الصديق الكاتب والباحث العراقي عبدالامير الركابي عن الشاعر العراقي وليد جمعة. كان صوتي كالمولدة الكهربائية: ذبذبة بين ونين عراقي وبين ما لا أعرف كيف أبحث عنه لدي الركابي.
– وليد جمعة، هه، هو ما غيره، صديقك، تعرفه هل هو جني؟ أي أعرف هو شاعر بس هذا لقب مرقع وهو يسكن على مسافة بعيدة عما يكتب اليوم، كل الأيام.
– لكن ما به؟
– وما ادراني ما به، لكني أعرف ما بيّ من جراء ما سببت قصائده لي.
من قبل، منذ وقت طويل جدا قرأت له شيئا ما وكان حسب ما أتذكر شيئا شاهقا. فيما بعد عرفت أنه أحد اصدقاء الرسامة العراقية سناء التميمي التي تعيش بباريس وكلما نلتقي ولو بصورة جد متباعدة كانت تلهج بسيرته وتحاول الاقتراب من سريرته.
فيما بعد حدثني عنه الصديق المخرج العراقي المعروف قاسم حول. كان يتحدث كأنه يصور فيلما ووليد جمعة في الكادر يراه مقسوما على العراق، يراه من جانب وقفا العراق. قاسم قال عنه كالفيلم، كالوثيقة وبحنان لا يضاهى.

– 2 –
اليوم قرأت ما أرسله إليّ موقع – كلام – الخاص بقصيدة النثر وهو بالمناسبة موقع حيوي متحرك رشيق وشديد اليفاعة. ولأنني مصابة بعيني وانتظر العمى بصبر جميل فأنا لا اتابع معظم ما ينشر خشية الترهات والسفاسف. في هذا الموقع وقع بصري على قصائد للشاعر العراقي وليد جمعة مأخوذة من موقع كيكا المهتم بالنشر والتراجم والادب.
تماما، صورته كانت منشورة أيضا بجوار القصائد، لم أتصوره الا هكذا، صورته هي العراق. لا أحد يشبه العراق كما هو وليد جمعة. ربما، لا أحد يموت ويقوم ثانية وتتساوى لديه الدنيا والآخرة كما هذا الشاعر. بلى، أبالغ ولم لا أبالغ، لم لا نقول للذي نحب مشغله ونسيجه، صنارته وطرائد صيده أننا نحب ذلك الشيء غير الموثوق به في القصائد، أجمل القصائد هي التي تتأرجح ولا تجازف على أي تأكيد ما أو يقين، تأخذ حصتها ومغانمها مما لا تعرف وليس مما تتصور أنها تعرف:
«راجيا من كوابيسه
أن تجيء على مهل
حيث كانت احلامه الشاحبة
شاحبة
وصحوته الكاذبة:
ثراء التفاصيل، وفقر النوايا»
«لقد كان حلما عجيبا
فلا مسلك الضيف كان غريبا
ولا رهبة الموت رهبة»

– 3 –
طباخ وليد جمعة، بستاني، صيدلي صائغ معلم خياط وطبيب. له لقب مالك الأرض بالقياس العراقي الذي لا يقاس بالهكتارات والدموع والعبق، ذاك الذي أنا أيضا لا أعرف ما هو القياس، لكن قصائده تهدد عراقيتي أنا التي كغيري كنت أظن أنها عراقية ولا يجوز التحدث عنها لأحد، لأي أحد. تعرّقت عراقيتي بسبب وليد جمعة، ترى ماذا صنع بك وبنا العراق وماذا سيصنع الباقي – منهم – للعراق، وبالعراق؟
ما ان بدأت أقرأ بصوت كالنشيج «ملثم بالموت» حتى أكملها عبدالامير الركابي بصوت هو الآخر كالانفجار، هذه القصيدة عنوانها الاصلي هي «العبئريون سيرثونني» وليس كما ذكرت لي، أنها نشرت تحت عنوان مغاير: الأغنية المرحة.
«ملثم بالموت
عندي مراسيم لدفني من يد القابله
أقيس مسرى قدمي بينه
وبين جذب الارض للسابلة»
يشتبك الركابي معي وأنا اسأل:
– ألم يصدر ديوانا؟ أين نعثر على قصائده؟ أدري، زين أن لديك جل قصائده، لكن لماذا، لماذا؟
– لا ديوان بعد، أحسب وهو يشتمني كعادته لأنني أحفظ شعره ولأن اغلبه موجود في مدينة طرابلس اللبنانية وليس بباريس.
– لكن لماذا عندك؟
– لأنه حضر إلى بيروت وعاش معي فترة طويلة. في تلك الفترة، لم ينسجم مع الشيوعيين وكان هذا في العام 1978.
– من الجائز أن الشيوعيين لا يتلاءمون معه، لا أظن أنه ينسجم مع نفسه حتى ليبدو لي من خلال نصوصه أن في جلده إبراً تخز نفسه قبل غيره وقد خزت الشيوعيين ربما.
– كأنك تعرفينه..
– لم اره قط، لكن من قال إنني لا اعرفه، لكن أكمل، كيف هو؟ ما به؟
– كان يكتب ويترك القصائد في أي مكان وأنا أجيء وألمّها وراءه. كنت أدري أنه سريع الاشتعال وحاضر لكي ينتقل من هذا المكان إلى غيره. نتشاجر فيهجر ولفترات طويلة لكننا نعود، نفترق سنوات وحين نلتقي نضع كتفا على كتف ونمشي سويا.
– هو شتّام؟
– هو يشتم أي أحد، هو لا يطيق أي أحد، هو لا يعيش مع أي أحد وإذا كان لابد فذاته بالكاد يطيقها أو تحتمله. يواصل الركابي:
«ملثم بالموت
عندي له عدته الرثة
حبل من القنب، لا مقصلة
ملحوظة من عتعتات الزمن
وتفلة على غباء الوطن
وحفرة
في قاعة الخلد أو.. المزبلة
لكنني ينقصني شيء صغير اسمه جثة
فلست بالجثة»
– قل، قل وماذا بعد؟
– اسمه وليد المشهداني نشر قصيدته في مجلة مواقف بهذا الاسم. كما نشر ثلاث قصائد في جريدة السفير في آخر الثمانينات حين كان الكاتب الياس خوري مسؤول الصفحة الثقافية.

– 4 –
يواصل الركابي قائلا: في العام 1973 حضر وليد إلى مجلة الفكر الجديد الشيوعية الاسبوعية وقدم إلينا عريضة باسم الادباء الشباب المضطهدين. ولقد فتحت المجلة صفحاتها من أجل هذه الفكرة التي ناقشها واشتغل عليها الشاعر سعدي يوسف والشاعر صادق الصائغ ولكن باسم مستعار والركابي. نشرنا جميع النقاشات التي أثارتها وثيقة وليد جمعة. بعد ذلك بفترة قصيرة، ألقى وليد قصيدة، ربما، كانت المرة الأولى والأخيرة لا أدري. كان اللقاء في مقر اتحاد الادباء الذي غص بالحضور ولقد صعد حشد كبير من الجمهور سياجات المقر لسماع وليد. في تلك الفترة كان حكم البعث يقطع السراويل العريضة ويجز شعر الصبيان الطويلة ويصبغ سيقان الفتيات لما فوق الركب بالبويا التي لا تزال الا بشق الانفس. وقف وليد جمعة وقال: «عفطة قبل الصباح لوزير الداخلية».
٭٭
٭ غادر أو هاجر إلى الدنمارك في منتصف الثمانيات ولا يزال.
٭ بغدادي من صوب الكرخ، ولديه وشم جميل في ثلاث، أنفه وصدغه، لا يتذكر الثالث، قلت، ربما في كبده.
٭ مريض، مصاب أبدي بداء السل، مثل امي التي قضت به. كتب عن هذا أهم قصائده.
٭ يتواصل في تلك البلاد الزمهرير، يكتب ولا.. ويعيش في دار العجزة.
تاريخ النشر 22 حزيران 2006