عالية ممدوح
يخونني ويكتب بدلا عني، عباس بيضون في ألبوم الخسارة الصادر عن دار الساقي 2013. مرضوض ويعيش بين جسده الوحيد وكسوره، ولا يقول اللعنة. لا يتأفف عباس من وحدته، ولكنه يفكر بأمر آخر؛ الجنون. نينو القط الذي كان يضبط ايقاعه على مستوى خواء ما يسيج الراوي من موجودات، هو الذي سنرى فيه الطريق المعبدة لبدء الخسارات التي كانت تأخذ بيده وتلقي به في اللامبالاة، فلا الضجر ينقذه، ولا عاد اليأس يرضى به. كم مرض لدى الكاتب والشاعر؟ كم سر كبير أو صغير لا يعرف أين يضعه ومتى يفك أسره فيفلت ويحضر إلى سرده: “شعرت عندها كما لو أنني خدعت الزمن، عشت أكثر منه، وخرجت منه بدون خسارة وكأنه لم يكن”. أحد الأسرار هو العمر ذاته. المجهول الذي لا نعرف إلى أين ذهب ومتى؟ هو حقد التأليف وثأر المؤلف على التدوين، استيهامه الذي لا يعالج إلا كهوس في الكتابة، فاليد وحدها لا تفعل كل ذلك. عباس بيضون الروائي الذي يكتب الروايات من وراء زجاج الشاعر الشفاف. يتلذذ وهو في قبضة لغته وألمه، وهو يستحضر الرفاق الغشاشين الصغار والكبار، والعشيقات غير السعيدات، الحروب السأمة والاحزاب ذات العضلات التي تنفست منذ عقود، والوطن الضعيف. الوطن هش إلى الحد الذي لا يحتمل هذا النص. بلداننا هي اضعف ما نملك، حتى ونحن نفكر ان نأخذ بيدها وبالكتابة عنها، تحرد وتستبعد نفسها وتظن السوء بنا. في الكتابة تبدو الأوطان اقل من الاكاذيب عليها حتى، ويبدو العمل السردي هو فرصتها الوحيدة لكي يقبل المؤلف بالانتماء إليها. لا يعود السارد عصابيا حتى لو اتهمته الاوطان بذلك لترفع التهمة عن حالها، فيجلس المؤلف مثل فراشة يابانية على حافة الورقة ما ان نمد يدنا لكي نبدأ بالتصفح حتى لا نعثر عليه.
2
الخسارات أسرع من الضوء: “هناك أشياء تختفي في الجسم فقدت اللعاب أو نشفت نهائيا غدة الدمع”. نينو القط رفيق الراوي في الشقة الفارغة، هرم ومرض، هو قرين الروائي، كلما يطل عليه يمحى ويختفي شيء لديه. صلة نموذجية للتذرع بالآخر، لقبول الأنا وإعادة الشهية لبعض ما بقي من المتع منظورا إليها من داخل سرد سيري أو روائي يشتغل كاتبه على محمولات الوقائع الخشنة لكن معظمها مبلغ عنها بالخيال المحتدم. اشتم عباس بيضون وأنا أقرأ بعض الفقرات والفصول؛ هو صديق الجميع، ربما، لكني بالمفرد، وشخصيا أشعر بفائض الليالي والنهارات اللبنانية في كبرياء وصمت ذلك العمر الذي فلت منا جميعا. عموم أسماء وشخصيات الألبوم خدعت بهم إلا وحدة وسهاد عباس بيضون، فلا النوم يختلط عنده بالصحو، ولا هذا الأخير يتلطف معه: “أنام وأستيقظ. ثم أنام وأستيقظ إلى أن أتعب من المحاولة فأستيقظ نهائيا”. الألبوم هو الفخ الذي وضعه المؤلف لنفسه، فقلب المعادلة وتوجه بالكتابة ضد نفسه، بالتهكم الملهم الذي يجيد لعبه معها ومعنا كما لو انه في مختبر لفحص الدم والقرين معاً، يفحص مرددا: هذا محلول كاوٍ، هنا الكحول، هذا هو المخدر وذاك سرير الانخطاف غير المكتمل. لا أحد يتمدد بجواره حتى لو كرر وجود واستحضار أسماء: آمال وماجدة ثم إكرام التي كما أظن قالت لنا صباح الخير في مرآة فرانكشتاين أيضا، لكنها هنا دفعها إلى أول حلبة السباق بالتكرار لأنه أراد الأنتهاء منها ومن داخل الكتابة، ومن داخله بالذات.
3
أحب حقيقة ان أعرف بمن يغرم الشاعر وكيف؟ من هي عشيقته، صفاتها: الجاذبية، الثقافة، الغواية، لكن هل يحب الشاعر الذكاء؟ “ليس الحب سوى الاسم الشائع لأمور كثيرة لا يستطيع في الحقيقة ان يفي بها”. “بقليل من اللعب وربما التزوير نسترد حياتنا لنا، نعيد امتلاكها. إننا نرويها لأنفسنا على كل حال، لماذا لا نغير النهايات؟”. لم اتأثر بشخصية إكرام. حضرت وغابت، انتسبت للحزب الشيوعي، تزوجت مرة ومثنى وثلاث لكنها بين هذا وذاك كان الراوي يتلعثم كلما وقفت أمامه. حسنا، بعض الكتاب العرب وربما في العالم يقدمون بعض العلاقات الغرامية والمرأة من خلالها كما لو انهم يهرًبون شحنات من البضائع الممنوعة فهذه في الأخير وعلى مر الزمن تبدو مضجرة. كأن إكرام وجدت كضرورة إبداعية، كحماقة ملحاحة تصطدم بلغة بيضون التي لا تنسى التحليلات والتأويلات حتى وهو بين براثين اللذة، ويوم شغف الراوي بمحبوبة ثانية بدت إكرام كالعاهة بصعوبة تجاهلها: “فهمت انها فتاة مسكينة وانها ارادت ان تكون محبوبة، ان تشتري صداقة الآخرين، وربما ان تكون مثلهم بالثمن الوحيد الذي حسبت انها تملكه. كان لها جسدها، لكنه جسد فتاة المطبخ والعاملة، الجسد الذي كانت تدخل به إلى المطبخ هو ذاته الذي تدخل به إلى السرير بدون ان تشعر بأي فرق”. هذه الإكرام باسمها الرمزي المؤبد بالكرم الذي جافاه الود، لم يُخطف بها الراوي. الوصل بها هو الفصل عنها.
4
الخسارات تتصدر الألبومات وتقع تحت انظارنا وهي ترتد على الشك وتعمي اليقين. بيضون يصغي إلى خلاصات والده وخاله ولا ترده الندامة عن كل هذا الحفر في الموتى ولا تجانس الأحياء. شطط ابنه زكي ضده، أو لامبالاة بانة ابنته. هو ذات الشخص المنهك بذاته، عباس غيره الذي يعترض على بنود الحزب الشيوعي، أو منظمات العمل التي نراها ضارة بالابداع أو بتنازع ملكية الإيروسية. عباس هو الذي شاهدته قبل اسابيع في باريس. كنت أرى عمره كله قد وضعه على ركبيته وغير مستعد ان ينقص منه (فتفوتة) كما نقول. ياه، كان هادئا ويبتسم وأنا اقول بصوت عال: لقد كبرنا ياصديقي. أي، كبرنا ياعباس. يبتسم وكأنه ينازعني على جميع ما نملك من اعمار بددناها كل في مدينة ومكان، كل في كتاب وخسارة ورواية. ألبوم الخسارة هو ابنه وابني: “ابني الآن في فرنسا، كم فكرت في أن اكتب إليه رسالة أو ربما كتابا ولم أفعل. لم اقدر”. كل كتاب لهذا الشاعر والناثر، لا ازعم انه ينتظر الثناء الطروب، بالتأكيد كلنا ننتظره، ونحن نقرأ ساعات التخلي، ألبوم الخسارة ومرآة فرانكشتاين، هذه كتبنا حين اضاعنا الآباء واضعنا بدورنا الأبناء وكل تلك النعم الطويلة من الحزن الذي شاخ وصار عجوزا مثل نينو القط فلا نعود نقدر على دفنه الا بين دفتي كتاب فتان كهذا.
***
يتعدى بيضون على ذات التجنيس حتى وهو يكتب رواية على الغلاف الخارجي للكتاب، وهو يشطر الرواية ويضرب الحدود فينتج سيرة واستعارة ومنطقا لا يتطابق بين عباس بيضون الحقيقي والمنتج من خلال عمليات الابدال والتواصل بين الراوي ونفايات عباس الخيالي. من هذا وغيره نحصل على الاختراق الذي تسعى إليه كل كتابة حقيقية، ومادام هو اصلا هكذا فلم أر ما كتب على الغلاف؛ رواية، إلا واحدة من عصيانات الشاعر والكاتب، وأنا اسمي هذا بالعنوان الصامت. التجنيس لأي عمل هو الذي يجعلنا نتحدث عنه في بابه الذي فتحه لنا، في حين أن اللاجنس هو ملتقى جميع الأجناس.
السبت 7 ذو الحجة 1434 هـ – 12 اكتوبر 2013م – العدد 16546