الحب والحرب في أنموذجين نسويين رواية التغيير في العراق – محمد خضير

ملاحظة حول المصادر
فاتني أن أذكر في مقالة الأسبوع الماضي مصدرين حديثين لدراسة الرواية النسوية في العراق، إضافة إلى المصدرين السابقين، وهذان المصدران الجديدان هما (السرد النسوي) للدكتور عبد الله إبراهيم و(الخطاب الروائي النسوي في العراق: دراسة في التمثيل السردي) للدكتور محمد رضا الأوسي. وإذ أتفادى بذكر هذين المصدرين هفوة مقالي السابق، فإن استدراكي هذا يستتبع استدراكاً لاحقاً مفاده: إن عنايتي بالسرد النسوي العراقي إنما تنصبّ على النوع الذي تشمله رواية التغيير، وما تنطوي قراءتها على معايير مستخلصة من نماذجها المتصلة بحقبتها وموقعها، وأهمها المعيار الثقافي وتمثيلاته السردية النسوية وما يحتمله من تكييفات واستدراكات.-1 غرام براغماتي: عالية
ممدوح، دار الساقي 2010
تختار عالية ممدوح شخصيات نصف عراقية نصف أجنبية، تعيش حالات من الاقتراب والتمازج حيناً، والافتراق والتباعد حيناً آخر، لكنها تعيش في غالب الأحيان حالات افتراضية مقسومة بين ماض وحاضر. أما وصف هذه الحالات بالغرامية، فلأنها معرضة للتفكك والانحلال من أول وهلة تبدأ فيها بسرد حياتها. لا يحدث التفكك تدريجياً، بتوقعات سردية طويلة الأمد، إنما هو في الأرجح يبدأ حالاً بسقوط مثال المعشوق الكامل وانقطاع حضوره الجسدي، مثل رسالة صوتية مسجلة على آلة ملحقة بالهاتف، لا تستغرق أكثر من ثلاث دقائق، يعاد سماعها باستمرار، أو تدوينها مرة بعد أخرى، بلغة الومضات المتفرقة، ثم تصبح هذه الرسائل الصوتية مادة الرواية ومعيارها. الصوت الأول صوت (بحر) المصور، والثاني صوت (راوية) المنشدة، وبينهما عشرات الأصوات المتفرقة مثل جوقة. متعة الاستماع للصوت الرجولي في الهاتف تماثل حالة الاندماج الجسدي الكلية فيه، ومواساة الإنشاد النسوي على المسرح تعوض عن فقدانه. كانت راوية حين تنشد “تواسي ذاتها دون توقف” كما أن صوتها يختزن “مواد مشعة سريعة الاشتعال” على حد قول إحدى الشخصيات الثانوية في الرواية.
تبدأ الرواية بصوت بحر المتصل من مدينة برايتون، يسجله هاتف راوية في باريس ولا ترد عليه. الصوت المسجل والصوت المرتد عنه، يتناوبان في ربط العلاقة الغرامية ثم تفريقها، عبر المسافات والمدن. الصوت المسجل يعري الجسد الصامت ويحصي أعضاءه إذ يشتاق إليه بعنف إيروتيكي، فيقابله الصوت المرتد بوله وتشه مشابهين، وبدلا من ملء العلاقة وتشبيبها، فإن الصوتين يعملان معاً على تجريد حكايتيهما من موضوعها الغرامي حتى تغدوا هيكلاً عظمياً. الصوت يتابع المرأة الحبيبة في مدن أوروبا ويغريها باللحاق به، ويأبى الصوت المرتد إلا أن يعود إلى موطنه البعيد بغداد عبر الإنشاد.
أرادت عالية ممدوح أن تبني تدرجات صوتية، لا جسدية، إشارية وانخطافية، أصوات صديقات وحبيبات متشابكة بأصوات عربية وأجنبية، مرتدة عن صوت الرجل المحبوب. بعد الجسد وإفرازاته يأتي الوطن، بعد الأعضاء والأشلاء تأتي الصور الفاجعة بلقطاتها، بعد الصور والأصوات يأتي الحب. حشدت راوية في صوتها المتعدد الطبقات والتمثيلات كلمات استخرجتها من “خزانة الكلمات المستعملة” حيث ترقد علاقاتها الغرامية المتعددة مع ثيابها. راوية وبحر خبيران بالحب لكن من دون أن يكونا متولهين، لأن وعيهما الشديد بالجسد كوعيهما بالصوت والمكان، يشتت انهمامهما وولعهما حول أكثر من مركز غرامي. هما بطلا خزانة الغرام المتروكة في الوطن مع اللغة الأم وإفرازات العرق والدم، وهما بطلا الاقتباسات المتناصة مع كتب الحب.( أشارت عالية ممدوح إلى مصادر هذه الاقتباسات في نهاية الرواية).
ربما اعتقد بعض القراء أن عالية ممدوح حين كتبت روايتها كانت تفضل “النظريات النفعية في التصوير والهندسة” لقياس “المواهب الجنسية وكرب الغرام”، وأنها جربت تمريناً في كتابة نص من استيهامات إيروتيكية وحكايات حب مخزونة على الرفوف ثم نسبتها إلى شخصيات نصف عراقية نصف أوروبية تقوم بأدوار شتى، ربما كان سردها الصوتي مجرداً من موضوعه الحي، ربما كان هذا الاعتقاد صحيحاً، لكن الأصح من كل هذا أنها أفرزت أنموذجاً “ثقافياً” متقاطعاً مع إفرازات الحب والحرب في روايات ما قبل حقبة التغيير.
استقطبت شخصيات عالية ممدوح حالات غرام متناقضة، تقاطعت فيها إفرازات الجسد مع إفرازات الكلام والكتابة، حتى لتتيه القراءة بين مستوييهما المتداخلين المتناقضين أو فصل مصدريهما الجنسيين أو ترتيب سيطرة أحدهما على الآخر. فقد وُضعت الرواية لكي نشعر بهذا الامتزاج “الخنثوي” في صوتين لا ينفكان يتبادلان الأدوار، وإعداء القارئ بمرضها، مرض الكلام والكتابة.
بهذا الوضع “الخنثوي” الذي تمتزج فيه جهات الحب وأصوات المحبوبين، تنقلب ضمائر الكلام على أجسادها، ويصبح مقبولاً دخول الحقائق مدخل الافتراضات والاستيهامات، وتطول الحكاية أو تقصر لتصبح بضع كلمات على جهاز تسجيل ملحق بالهاتف. إلا أننا لابد أن نقبل الشعور بأن “جميع فرضيات الاندماج الغرامية فاشلة” وأن كتابة الغرام محاولة (بروفة) لإثبات “صفات نموذجية” للأنوثة والذكورة خارج مؤسسة الجسد. كما أن أكثر الجهات حميمية، والتصاقاً بالشعور، كالوطن، قد تردّ الصوت على أعقابه كما يعتقد بحر مصور “الجثث الطافية”، ومثله صوت “الأغنية البيضاء” في إنشاد حبيبته راوية.
هم ليسوا أكثر من أصوات مرتدة عن مصدرها ولغتها “المستعملة”، تائهة في مدن العالم. ولكن لماذا الكرب والمشقة في اختراع أوضاع الغرام؟
أكل ذلك من أجل ألا نفقد الوطن كليا، أم أننا حقاً فقدناه؟.
-2 سيدات زحل: لطفية
الدليمي، دار فضاءات 2009

في الحب تتعرف الذات نفسها وشريكها، كيف بدأت قصتهما وكيف انتهت. في الحب نحتاج إلى الاسم الحي (حياة).
لكننا في الحرب “كائنات غفل، قطيع يُساق للذبح”. الحب يفتح لنا أبواب التذكر، في الحرب نحن معزولون في سرداب، بلا طعام وشراب، بلا ماض ولا مستقبل. لكن الحرب قد تجدد خطاب الحب ببلاغة الفقدان وخيال الحبيب المفقود.
تبدأ (حياة البابلي) بالتعرف على صوتها وأخبار عائلتها بمعونة عمها (قيدار) الذي يترك لها أوراقه ومجموعة كتبه القديمة في سرداب البيت. تؤلف أوراق الشيخ العارف قيدار البابلي ـ الشخصية الافتراضية التي تبحث عنه حياة سدى، وتعثر عليه في نهاية الرواية في رؤيا حديقة، وقد ترهّبَ في دير ـ القسم الأكبر من “كراسات” سيدات زحل، المؤلفة من خمس وثلاثين كراسة، تروي حكاية مدينة بغداد وحكايات عائلة البابلي، إضافة إلى حكايات نساء تلتقيهن حياة في مفوضية اللاجئين في عمان. شعرت (حياة) أن حكايتها الشخصية تقاسم حكايات “العشق والفقد والسجن والاختفاء والخصاء وبتر اللسان واغتصاب البنات” التي تحتويها كراسات سيدات زحل. عرفت أنها ليست وحدها من لفظه الجحيم وأعاده إلى سرداب البيت وحديقته، وأن حكايتها أصبحت النواة المخصِّبة لحكايات الآخرين. تتذكر (حياة) ونتذكر معها أن حكايات الحب في أزمنة الحرب تحتاج إلى التخصيب بحكايات نساء التاريخ مثلما تحتاج إلى حكمة الشيخ قيدار البابلي لتخصيب كراساتها. وقد شكلت التناصات المخصبة في حكايات (سيدات زحل) المعيار الأول لبنية السرد النسوي “الحكيم” الذي تمثله لطفية الدليمي خير تمثيل.
يعمل السرد النسوي الحكيم من داخل لغته، المشبوبة بالتذكر الذي يتجاوز تناص الجسد وإفرازاته إلى تناص التاريخ وسروده. فالحكاية الشخصية لصاحبة كراسات زحل، مدونة تمتص رحيق الثنائيات الغرامية لتسقي نساء سرداب الحب الوحيدات بترياق العشق البابلي. أما ما يجلبه فأل زحل من تناصات منحوسة للنساء، فقد تعادله (حياة) بحمايتهن من “متاهة الدم” التي تستطلعها في تجوالها اليومي في شوارع بغداد، كلما تركت سردابها لتتزود بمصدر حي لحكايات كراساتها. ولا أظن القارئ يصدق تلك الجولات الخطرة، في الأيام الأولى لاحتلال القوات الأميركية بغداد، إلا بكونها
تناصات مع الواقع اليومي الملغوم استعاضت بها حياة البابلي عن جواز سفرها المزور باسم مستعار.
إن حكايات الرعب المستديم تجعل فأل السيدات المنحوسات أكبر حظاً من الحب، وأكثر تصديقاً للقراءة. ولعل هذين الاحتمالين قابلان أيضاً لتسكين فورة اللغة ورثائها لجسدها المهجور.
(حياة) من عائلة بغدادية عريقة سكنت بغداد قبل خمسة أجيال، واكتسبت لقبها من عمل أحد أصلابها في تنقيبات مدينة بابل الأثرية.
ومثل العائلات البغدادية التي أثبتت روايات فؤاد التكرلي عناء حملها نسبها المدني، ناءت حياة البابلي بحمولة الكراسات العائلية التي ألبست بغداد ثوباً أنثوياً اقتطعته من حكايتها الشخصية، تمييزاً لسردها من السرد الذكوري الذي ألبس بغداد أقنعة كارثية وربطها بأفلاك الحرب والاحتلال (رواية عجائب بغداد لوارد بدر السالم، ورواية مشرحة بغداد لبرهان الشاوي). تتخيل (حياة) كتاب (بغداد) سفراً مشتركاً بين أفلاك الحروب وحظوظ الغرام، تسري في عروقه أنفاس النساء وتخصبه حكايات زحل بتناصاتها.
يقتحم كتاب النساء سرديته النسائية من الأبواب الذكورية ذاتها، أبواب الدم والاجتياح البربري، لكنه سيقيم تقاطعاته في صميم الأفلاك النسوية الممطرة بالعشق والغناء. وسنرى أن تقاطعات سرد (سيدات زحل) مثال على معيار “كشف الستر” وراء الجدران والأبواب، المنفصل عن تقاطعات الاقتحام الذكورية. لكن هذين النوعين سيضعان المدينة المستباحة في مركز الاهتمام من خلال الاشتراك في معيار المدونات المتداخلة، وإعــارة ضمير الراوي المتكلم إلى ضمائر مشاركة، وفي رواية (سيدات زحل) علينا أن نصدق ما تقوله الكراسات فقط.
وفوق هذا كله، فإن عناية (سيدات زحل) بالعناصر البنائية الهندسية للبيت البغــدادي، ووحدته الغائرة السرداب، ومحتويــاته الأثريــة والحكائية، حفز ذاكرة السرد التراكميــة على كشف المستور، و “تشعير” نواتها المخصبة.
وإضافة إلى فضاء البيت الداخلي، فإن الحديقة البغدادية وصلة الراوية بأشجارها وأزهارها، عكست عشقاً تصوفياً تجلى في رائحة الأشيــاء العتيقة وملمس الكتب المخطوطة.
ولا أحسب قراءة كراسات (سيدات زحل) تختلف ـ كما قرأنا في رواية غرام براغماتي لعالية ممدوح ـ عن قراءة كتاب محفــوظ في أدراج خـــزانة الكلمات المستعملة.
الصباح 15/7/2013