الجرافيتي: فن الشارع «1-2»

عالية ممدوح


1
كلما أشاهد جداراً رُسمت عليه الرموز والاحرف، الكلمات أو الشخصيات الحقيقية، أو تلك المقنعة بألوان البويا والطلاء والبخاخات، أقف وأتصور؛ أنه فن المحادثة الحديث الذي يحمل خصائص لإثارة جميع الحواس، وعلى رأسها حاسة الشم أيضا. فالألوان في بعض جداريات الجرافيتي مازالت طازجة، وفي العادة لها رائحة نفاذة تزكم أنوف البوليس الذي يطارد اصحابها وفنانيها، ولكن في كثير من الأحيان لا يعثرون على الفاعل الفنان. هو فن تمضية الوقت في انتظار ان يكون للاحتجاج، التمرد، الصراخ، فنا مشهديا ويحصل على اعتراف عالمي. الجرافيتي، كان فن اعلانات الحضارات الأولى السومرية والفرعونية، الأغريقية والرومانية، وأحسب أن المؤرخين قاموا بعملية تفكيك جدران الاهرامات وبابل وأشور وبومبي، وطاب لهم استخدام تعابير كثيرة وكلها صحيحة ودقيقة في المحادثة بين البشر، قد تصطفي الصمت أو الثرثرة، الشعر، اللون الحروف، الشخصيات الإشكالية، الاحتجاج، الاعياد والفواجع. هو نوع من الانكفاء إلى الخارج، خارج أرواح اولئك الذين لا نعرف من هم في البداية، الفتيان، أجمل الفتيان ؛ أحدهم المشاكس، الفج، الوقح، البذيء، والثائر الخ.


2
أظن من هذه البوابة أرادت صالة بينا كوبتك في باريس الكائنة في ساحة المادلين، الاحتفاء بارباب اعمال هذا الفن. تمسك رأس الخيط وبصحبة التاريخ والاسماء وبدءا من 1990 1970. قام الباحث والكاتب مارك ريستليني بتقديم هذه الحقبة بكتابة جدارية تعرّف بهذا الفن وبالأسماء الاساسية التي حضرت وتوزعت في الطوابق الثلاثة، بالمصادر الأولى التي شكلت هذا الانقلاب الفني في الذائقة الفنية والبصرية، وفي المزاج الشعبي والنخبوي لمسيرة هذا الفن وخلال الثلاثين عاما الأخيرة الذي أطلق عليه في أول بزوغه: فن الشارع بقنينة الرش، أو بخاخة الألوان. لم تعرف هذه التقنية من قبل. كانت مزيجا من غضب واحتاج وتخريب وبذاءة في بعض الأحيان في إيصال الرسالة. وكانت الجدران هي أرض الاحتجاجات، الجسور، قطارات الانفاق، الباصات، الأبواب الكبيرة ذات الواجهات العريضة الخ. وبالطبع كل هذا كان يتم بدون أذن مسبق أو موافقة، لا من أصحاب الشأن ولا من مديري الشركات، وعليه لم يكن هذا الفن يحمل تواقيع في بداية الأمر. ثم استخدمت أسماء مستعارة أو القاب تهكمية، هجينة لها مدلول سياسي واجتماعي.

3
السؤال الجوهري الذي قام بوضعه جامع ومدون المعلومات والتواريخ لهذا المعرض مسيو ريستليني كان مصاغا على الشكل التالي: ترى لماذا تم تجاهل هذا الفن وطوال اربعين عاما في باريس؟ ولماذا اهملته جميع صالات العرض الفرنسية، وعلى الخصوص عرض أعمال الفنان الأشهر والذي يهدى المعرض اليه راملزيه؟ يجيب هو بتحليل مستفيض وبمزيج من أسى وحزن: إن جميع تلك الصالات ارتكبت خطأ فادحا بعدم الاعتراف بهذا الفن، كما ارتكبت تلك الاخطاء من قبل عندما رفضت وتجاهلت حركات كالسريالية والدادائية والتكعيبية الخ. هي صالات يحمل اصحابها عيونا مغمضة ووجانات غير جامحة، فمن غير المعقول انها لم تتعرف جيداً على مايكل انجلو ودافنشي، هذان اللذان اشتغلا أعواما على جدران وحيطان ساحات مدينة فلورنسا الايطالية. يفند الباحث قائلا: إن الخمسين سنة الأخيرة كان سوق الفن ومنطقه حاشداً بالكثير من العبط والتفاهة، وفن الصالونات البارد، تلك الصالونات التي فتحت صالاتها لمن يقال عنهم: اصحاب مهنة أو وظيفة، لا اصحاب مواجهات وتحديات واشتباكات مع الذات والآخر كما حصل في هذا الفن الثائر، الجرافيتي، الذي كانت بدايته التقريبية في العام 1970. كانوا اشبه بعصابة «السموم» فالألوان والأصباغ، وكسر السائد والمألوف كان يشبه السم الذي لا ينتبه لولادة مواهب فتيانه أي أحد، ثم بغتة، كالشهاب تنفجر النيازك في كل مكان ممكن أن تصل إليه عين البشر، وهو يمشي أو يتحرك، راكبا العربة أو القطار أو الباخرة.
4
كان هؤلاء الشبان بدون أسياد أو أساتذة، لا يعترفون بالمعلمين فلا صفوف ضمتهم ولا مقاعد جلسوا فوقها. إنهم شيء آخر، لديهم مشكلة بناء فن لا علاقة له بالمتحف وما يعرض داخله. كان فن الشارع برمشة عين يمتد نحو المستقبل ودون علمهم جميعا أو دون التخطيط له. هذا الأمر بالذات كان مخيفا لاصحاب المتاحف، فلم يهتم بهم أحد، أو يتم الاعتراف بأي واحد منهم. هي حركة كانت تتجمع، ربما بصخب وضجيج يصاحب رقصة وموسيقى الهيب بوب. إنهم يرسمون ويرقصون، هكذا كانت لغة الأجساد تفتح المجال لقراءة لونية ذات صيرورة متغيرة وهي في حالة اقتناص للمواضيع: في الاضرابات وثورات الشباب، في توطئة العام 68 وثورة الطلبة الشهيرة التي اسقطت الجنرال ديغول. ظهرت هذه الحركة وكانت تضم أسماء فنانين غرائبيين، ومجهولي الهوية ك: فازدو، توكسيك، باندو. كانت الأسماء التي يختارونها دائما صادمة لكنها شعبية. بداية اغلبهم جاءت من الولايات المتحدة، كانوا من المنفين والمهاجرين الأسبان الذين يعانون اهتزازا في الهوية واللغة والانتماء.
السبت 6 رجب 1436 هـ – 25 أبريل 2015م – العدد 17106

http://www.alriyadh.com/1042414