على غرار روايتها السابقة «المحبوبات» (2003)، التي تتخذ من أوروبا – المنفى فضاء لها، تختار عالية ممدوح في روايتها الجديدة «التشهي» (دار الآداب، 2007)، أجواء مُشابهة لشخوص فقدوا البوصلة وسط مناخ العولمة وتبدّل الأنظمة الاقتصادية والأخلاقية، فيما تظل ذاكرتهم ومشاعرهم مثقلة بأصداء الجراح النازفة من جسد وطنهم العراق الغارق في حرب دائمة، تتخذ من الاستمرار طابع الحرب الروتينية…
لكن «التشهي» تنهج مسالك شكلية مغايرة، لا تخلو من جرأة وحرص على زعزعة التابوات، وفي مقدّمها تابو الجنس. ولعل الكاتبة تقصد من وراء ذلك، التغلغُل في ملاحقة أسئلة مُستعصية لا تنفكّ تتناسل كلما حاولت الشخصيات الروائية التقاطَ أسباب العِلـة الخفيّة الكامنة وراء مأساة الشخوص التائهين في منفاهم الأوروبي، ووراء تراجيديا العراق الذي يتكبّـد حرباً مُستعرة منذ ثلاثة عقود.
تتكئ بنية «التشهـي» على شخصية سرمد برهان الدين، المترجم الذي يعشق «أَلف» التي لم تبرح بغداد، بينما هو أَرغمه أخوه مهند، المسؤول عن الاستخبارات، على أن يأخذ طريق المنفى ليخلو له الجو فيرغم «ألف» على الزواج منه. تمر السنون ويكتشف سرمد، ذات يوم، أن ذكـرَه تقلّص بل كاد يختفي، نتيجة بدانته وتضخّم وزنه، هو الذي عاش مغامرات لا تحصى، واتخذ من الجنس وسيلة لإثبات ذكورته والتّباهي بفحولته. وهذا «الاكتشاف» (ضمور الذكَر إلى حد الاختفاء) سيكون محفز أفعال الشخوص في البنية الخارجية للرواية: لجوء سرمد إلى صديقه الطبيب يوسف في باريس ليُشرف على علاجه في المركز الخاص للتأمّلات الروحية والحِمـْية الغذائية، واستعراض طرائق الاستشفاء… إلاّ أن هذه البنية السطحية لا تعدو أن تكون إطاراً عاماً تتفرّع داخله أفعال وتذكّرات ومشاهد واستيهامات تؤثث ماضي الشخصيات وتضيء حاضرها، وتصوغ الأسئلة التي تشغل بالها.
على هذا النحو، يغدو سرمد برهان الدين هو المركز الذي تنتظم من حوله مواقف أو آراء الآخرين والأخريات وردود أفعالهم. ويكون الجنس هو نقطة الانطلاق نحو استكشاف جذور الأزمة التي تعلن عن نفسها من خلال ضمور الذكَر وعطالته تحت وطأة السّمْنة. ومن أجل إجلاء هذه المسألة، يستعيد سرمد سيرته الجنسية مع ثلاث من عشيقاته: فيونا لنتون الأستاذة في المعهد البريطاني في بغداد التي التقطَته وهو في بداية الشباب، وعلّمته معنى المضاجعة، وكيف يسْـتنبت الشهوة من بين الصُّلب والترائب… ثم كيتا الألمانية التي عانتْ من نزوات المناضلين الشيوعيين في المنفى، لكنها توسّمتْ في سرمد موهبة في الجماع فلم يخبْ ظنها. وأخيراً البيضاوية المغربية التي تعلّقت بسرمد من دون تحفُّظ ولا انتقاد. إلى جانب تلك النساء، هناك «ألف» التي بدأ عشقه لها وهما طالبان في الجامعة وظل حبها مُتغلغلاً في نفسه على رغم أن أخاه مهند «غزاها» ثم تزوجها، وظلت هي الأخرى متعلقة به، تبعث إليه رسائل مسجلة بصوتها: «آه يا سرمد، الجنس معك يشبه التحريض ضد كل شيء؛ كلا, ليس هو الثورة أو التمرد كما تقولون في السياسة. الجنس معك يتبدل وينقلب من حال إلى حال فيجعل أشيائي الصغيرة في داخلي تنتقل من مكانها(…) لا أعرف إذا كان دقيقاً القول، ربما كان الشغف هو الذي يسمح لنا دوْماً برؤية شيء جديد في داخلنا» (ص 220). فضلاً عن تلك الشخصيات النسائية، هناك يوسف صديقه العربي الذي يشرف على علاجه في باريس ويقاسمه الأسرار والتأملات… وهناك أيضا عينات من مناضلين يساريين فقدوا البوصلة، خصوصاً بعد سقوط جدار برلين، فتحولوا إلى «كلامنجية» يبررون الانفتاح والعولمة وما جاوَرهُما…
ما يلفت في بناء النص، هو أن السارد سرمد برهان الدين، يفسح المجال من حين لآخر، لكلّ من كيتا والبيضاوية والدكتور يوسف ليسردوا شذرات من علاقاتهم، أو يستحضروا مشاهد وانطباعات. إلا أن صوت سرمد يظل هو المُهيمِن، مُتنقلاً بين ماضٍ وحاضر، ملاحقاً الأسئلة التي تقضُّ مضجعه بعدما أثقلته البدانة. من ثم يأتي السرد مُتدفقاً، مُكسراً الخطّية والتتابع الزمني، مهووساً بالظاهرة العضوية التي أطلقت استيهاماته ومخاوفه من عقالها.
لكن هذا الانجرار إلى «فوضى» السرد يكشف عن ارتياب السارد (والكاتب المفترض) في نجاعة الحبْكة وترتيب الحكي وفق منطق واحد: إنه يفتح الباب أمام تحقُّقات سردية أخرى محتملة: «… أزعم أن الحبكة أو الحكاية تنزع عن هذه المخطوطة دراميتها ودمويّتها وأنا لا أفضل الصفتين(…) كل الأسماء التي ذكرتها هنا، وحتى لو حضر أصحابها مرة واحدة فقط، سأقوم بتعدادها وليس بحسب التسلسل، فهذا حذلقة ولا بحسب الأهمية، فهو نفاق…» (ص242).
في كل الأحوال، فإن السرد والشكل، في صيغتهما المُنجَـزة داخل «التشهي»، يوحيان بوجود رغبة شهوية قوية نحو الحكي المُتشظي، والاستجابة للانطلاق من بؤرة الجنس بحثاً عن العلة أو العلل الخفية التي قلبتْ مجرى حياة سرمد برهان الدين وطوَّحتْ به إلى متاهات الأسئلة الصعبة المتخطية فلَك الجنس في معناه المحدود.
تأويلات متباينة
أكثر من عنصر في بنية «التشهي» يدثر النص بغلائل الالتباس والدلالة المكتنزة لتأويلات متباينة. وقد اختارت الكاتبة أن تستبطن مشاعر حميمة لرجل يواجه أزمة تنطلق من نقطة بالغة الحساسية، هي تضاؤل الذكورة وما يستتبعه ذلك من اهتزاز في الشخصية وفقدان للثقة. وهذا المنظور ينبهنا إلى أن الكاتبة ربما تريد أن تردّ بعض الديْن لزملائها الروائيين الذين كثيراً ما أباحوا لأنفسهم التحدث باسم النساء في مجال وصف تجربتهن مع الجنس؛ غير أن هذا التصدير للجنس في «التشهي» يخفي من ورائه دائرة دلالية أوسع، تنفتح على التأويل والقراءة المتعددة الزوايا. ذلك أن توظيف المغامرات الجنسية والعاطفية يأتي مقترناً بأجواء السياسة والنضال، فيبدو الجنس بمثابة ملجأ بديل في حالة الفشل السياسي. وهذه ثيمة طالما ترددتْ في روايات غربية وعربية. لكن اللافت هنا هو أن الكاتبة تتقصّد أن تشعرنا بابتذال الجنس في تجلياته الشائعة عند الرجال الذين يُفرغونه من أبعاده العاطفية والإنسانية، المُحرضة على تجديد الذات وحب الحياة. بالتوازي مع ذلك، تقدم الرواية ملامح جنس مختلفة تتغذى بالحب وانصهار الذوات في أفق يتعالى على ما هو ظرفي. عند هذا المستوى، تنبسط أمامنا عناصرُ دائرةٍ ترميزية أوسع، تتخطى معضلة سرمد الجنسية لتُعانق مأساة الوطن المصادر الذي احتله «الشُّقـْر» بعدما عانى من استبداد الحاكمين: «الشّقر دخلوا مدينتنا. أضافت: حتى السود والصّفر والسّمر شُقر أيضاً…» (ص 218). من هذا المنظور، تكتسي دلالة الحب المتمكّن بين سرمد وأَلف دلالة رمزية واسعة، وكأنّ ألف التي آثرت البقاء على الرحيل تجعلنا نستحضر العراق بصفته فضاء وذاكرةً وصموداً؛ بينما يشخّص «مهند» الحكم الاستبدادي والتسلّط على المواطنين وانتهاك حرمتهم. أما سرمد برهان الدين فتجعل منه ألف أملاً في الخلاص إذا استطاع أن يتخلص من الترهّل والبدانة واستأنف العمل النضالي… وأكثر ما تتجلى هذه الدلالة الترميزية في الرسالة الصوتية (عشر صفحات من ص 260 إلى ص 270) التي أرسلتها «ألف» إلى سرمد تذكره بقصة حبهما وتستنهض همته وأفكاره، متمنية عودته من المنفى: «لا أُريدك أن تسمع صوت انتحابي يا سرمد. أنا أيضاً أقف أمام المرآة عارية. أنا أيضاً صرت متنكرة مُقنّعة. أقصد امرأة مُستعملة مثل الثياب القديمة. بشَرتي تغضّنتْ والهالات تحت جفني ازدادت زُرقة وحاجباي تضاعفا كثافة، وأشعر أن روحي مطليّة بالذلّ».
ويتوضّح الرمز أكثر عندما نقرأ الفقرة التالية من رسالتها: «أسمع وقع خطوات البشر جميعاً في هذه الساعات لا دموع ولا مناديل، فقط دخان أميركي(…) أشدّ على صوتي كمنْ يأخذ سكيناً يشق فيها قاع الحبال فيدع الصوت لا ينتحل صوت غيره. هو صوتي يا سرمد وبالتالي صوتك(…) لا شبابيك تتلألأ ليلاً بضوء الشموع ولا قبلات نسمعها قادمة باتجاهنا. تعلّمنا كيف نبتلع الدموع فنرقبهم وهم يضخّون ثلاثة أنواع من السموم القاتلة في عروقنا، ومع هذا لا يُقضى علينا… « (ص 270).
هكذا تتسع رقعة التأويل لتشمل قيم مُتخـيَّـل اجتماعي أدركه التّهرؤُ والترهل والعجز. مُتخيَّلٌ يبجّل الجنس ويحصر الشهوة في جزء من الجسد احتفاء بالذكورة؛ وهو أيضاً المتخيل الذي يُعلي من شأن البطش والتسلُّط والقوة المطلقة، مرموزاً له بسلوك مهند الذي لم يتردد في استباحة الوطن وتشتيت طاقاته عبر المنافي. من هنا تبدو أهمية إلحاح عالية ممدوح على السخرية من تبجيل «سرمد» لذكورته تبجيلاً أعمى، قبل أن يدرك قابليّتها للعطب والتلاشي. كأنما هذا الفهم الناقص للجنس، وإغفال تعالقه مع قيم أخرى، هو ما يكمن وراء تلك العلة الخفية التي استفاق سرمد برهان الدين على عوارضها فبدأ يستوعب هول الخراب الرّائن على الوطن وعلى أبنائه الذين استيقظوا مذهولين أمام غلبَة العنف واستيطان الحرب لأرضهم ومُخيّلتهم…
لا شك في أن عالية ممدوح تسعى، منذ روايتها الأخيرة «المحبوبات» إلى ابتداع فضاء لشخوص شبه مجتثين، يعيشون موزعين بين وطن يتوقَّـد في الذاكرة، وعالم شاسع، مُضيّع، تحكمه قوانين العولمة والخوف والمفاجآت والوصفات الجاهزة… وفي «التشهي»، تبدو الشخصيات التي فقدتْ التأثير في مجرى الأمور داخل الوطن، تعيش لحظةَ مراجعة واستشفاء، وكأنها تمثل «المريض العراقي» في دلالته العامة، كما ورد في التسمية التي أطلقوها على سرمد داخل مركز التأملات والحمية الغذائية. وإذا كان صوت «ألف» المُنتهَكَة
لا يكفُّ عن إعلان أمله وتطلُّعه إلى عودة المنفيين بعد شفائهم، فإن سرمد في منفاه يعيش بين الموت والحياة وهو يستمع عبر غيبوبته إلى صوت الحبيبة الأبدية تناديه وتشُكُّ جِلْده بوخزات الرغبة في استئناف الحياة والمقاومة والحب… تلك الرغبة التي تُدير عجَلة الكون وتحرّض على تغييره نحو الأفضل.