رحلة سردية في «كتابة أخرى، سرد عربي مختلف…» لأحمد المديني – عبدالالاه رابحي


رحلة سردية في «كتابة أخرى، سرد عربي مختلف…» لأحمد المديني
… لا ينهض «محترف الكتابة»، بما هو اشتغال على حرفة الكتابة طبعا وصنعة، الا على التفات مستمر للمنصرم، دأب الخلف على قراءة السلف، ربط محكم لسلسلة الاسناد في حديث المتن السردي، نبش في الذاكرة بحثا عن الضالة او الذريعة، سيان للحديث عن الأمر الراهن والانشغال بالآني. تلك كانت سمة الجدّة في البحث الدؤوب عن اشراقة غابرة في ثنايا التاريخ يحدث تكبيرها وتضخيمها للانطلاق منها نحو آفاق مغايرة تكسب الاشراقة توهّجها ، وينير بها الـ «هناك» الـ »هنا» ، ويقتفي بها الحاضر حوافر الماضي. تلك كانت عادتنا في قراءة كتاب الماضي التي تكرّس بها عرف البحث وتقليد الدراسة في انشغال الجيل اللاحق بابداع الأجيال السابقة استيلابا أو تطابقا أو وعيا ، غير أن « كتابة أخرى، سرد عربي مختلف» للاستاذ أحمد المديني تقلب المعادلة حيث الجيل السابق ينكبّ بجدية لدراسة الجيل اللاحق، وكأني بجذع الشجرة يراجع أغصانه، ويمحص فروعه ، ليؤكد اعترافه النبيل بحقها في الوجود من جهة ، ويكشف مواطن قوتها من جهة أخرى . برهان انفتاح ، ومقت للتقوقع باسم محافظة متوهّمة، فأن يوفر السابق الأداة النقدية لتثبيت ضرورة منطق الاختلاف هو في العمق ضرب من ضروب تجاوز التصنيف القائم على رسم الحدود بين الحقب التاريخية، واعتراف في الآن نفسه بميزة المواكبة النقدية، ومتابعة إيناع التطور سموّا بوظيفة النقد في مسايرة الابداع تكريسا لحضور النقد بين يدي الابداع وخلفه، يغرسه ويسقيه ويشدّب أغصانه، بكلمة واحدة يرعاه خوفا عليه أو خوفا منه على الرأسمال الأدبي، يقول الناقد: «الكتابة شجرة متعددة الفروع، متنوعة الغصون، وافرة الأوراق، ناضجة ، حين تكون طبعا مثمرة ، وفي طبيعة نضرة»، فبين الاحتفاء بالنضارة والخوف المشروع من اليبوس ينهض «كتابة أخرى، سرد عربي مختلف»، في تقديري،على مشروع الربط المحكم بين «الأغراس» و «النقول» ضمن الشروط الموضوعية العامة التي تحكم عادة الانتاج الابداعي، والتي يستحيل تناوله خارج التسلسل الثقافي العام في العلاقة الجدلية طبعا بين اللاحق والسابق من غير أن يمارس «الأمس» سلطته وقهره على حرية «اليوم»، يقول الناقد: «لا يماري في هذا الا مشدود الى ماض تولّى هو وفكره ودهاقنته بالأمس» ، هذا طبعا دون تهوّر في جرم قتل الأب واعدام الذاكرة لما كان للأب وللذاكرة من فضل كبير في ترسيخ الذائقة الأدبية وتنميتها. هو ذا الميثاق الذي يوقعه صاحب «كتابة أخرى» في رصده لطبيعة التحوّل المشروع في الكتابة الأدبية وتتبع منعرجاتها في دروب سردية مغايرة تولي أهمية قصوى للعناصرالتكوينية في بناء معمارية العمل السردي ، ولأن التحولات البنيوية التي تطرأ على الكتابة بمختلف تنويعاتها لا تسلم من تأثرها بالواقع الموضوعي ، وهنا الواقع العربي تخصيصا ، ودرءا في الوقت نفسه لكل ربط مجحف بين مستجدّات هذا الواقع ومتغيرات هذه الكتابة، وكأن قدر هذه الأمة ألا يؤمن الا بتغيير الطفرة، جاء تذكير الناقد بالعقود الاولى للمشروع النهضوي ضمن رؤيته المتسلسلة التي لا تؤمن اطلاقا بالقطائع بل بالوصل المتصل بين ماضي الكتابة وحاضرها، حتى في خرقها وتوتبها نحو الجديد بكل انزياحاته بحثا عن الأكمل والأجمل . هكذا انبرت «كتابة أخرى» لدراسة الاجوبة السردية بتشديد على جدلية الشكل والمضمون : من اغراق كل قصد ومعنى مستكين في لجّة العبارة المجازية في نصوص عبد المجيد شكير، ومن معضلة الشكل والفصام الوجودي في تجريبية أنيس الرافعي باعتبارها عبورا لا رسوّا يرمي الى تأهيل القارئ نحو كتابة مختلفة، ومن تداخل الشعري بالسردي في «مختارات» ياسين عدنان بين التلميح والتصريح ، بين البوح والمناجاة، ومن الالتزام الاجتماعي في «أهل البياض» لمبارك ربيع بين تدريج الفصيح وتفصيح العامي في تشريح شامل للنماذج البشرية، ومن الانقلاب على القواعد في عتبات «الاحتمالات العشر» لشعيب حليفي بتكريس حيرة المتلقي في اشكالية التصنيف ، ومن شاعرية «بستان الغزال الأزرق» لاسماعيل غزالي بين الخفاء والتجلي في الصورة السردية الحالمة وهي تعيد نسج خيوط الذاكرة من قلب البحيرة الموحشة، ومن نص الخاطرة في «ليليات» عبد الاله بلقزيز واحتفائه باللغة الواصفة ، ومن لعبة الأشكال في «علبة الأسماء» لمحمد الأشعري بكل استرجاعاتها المضحكة المبكية، ومن «يوميات» المهدي اخريف بطابعها القصصي والمناقبي وهي تعيد اكتشاف الذات والمكان . من كل رحيق المنجز السردي المغربي هذا تنتقل «النحلة النقدية» الى «لها سرّ النحلة» في كتابة الجزائري أمين الزاوي بكل تعدد أصواتها داخل حربها الأهلية، ومنها الى خطاب التعرية في « يتيم الدهر» التونسي حسونة المصباحي بكل توقه لكتابة الملحمة العربية شكلا ومضمونا ، ومنها الى التنزيل الأرضي الذي مارسه «طبيب تنبكتو» للطوارقي عمر الأنصاري في شهادته بين الجذور ونزعة التحرر الأزرق، ومنها الى «البيوت الروائية» في«أجنبية» الكاتبة العراقية عالية ممدوح بكل هاجسها التجنيسي ونوازع الذات النسوية المقموعة، ومنها الى تاريخية الكاتب المصري حجاج أدّول في «ثلاث تفاحات مملوكية» حيث انصهارالكائن بالممكن تحت عباءة التاريخ ، ومنها الى السيرة التخييلية في «الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس» للمصري طارق إمام بكل الزاد التاريخي والمزيد التخييلي داخل البنية المركّبة ، ومنها الى الرواية الرعوية «سأرى بعينيك ياحبيبي» للفلسطيني رشاد ابي شاور بنبرتها الحجاجية وهي تنتصر لقيم التحرر والانعتاق ، ومنها الى كيفية تنزيل دستور الكتابة في «غريق المرايا» لالياس فركوح بما هو «درء الفناء ومداراة النفس عنه» بكتابة الشعوربدل الحدث، ومنها الى الابدال التخييلي زمن اهتزاز اليقينيات في «حانة الحي القريبة» للأردني ياسر قبيلات بكل المنطق العبثي المتحكم في أوهام الواقع ضمن لوحات سردية توهم بالبناء وهي الى الهدم أقرب، ومنها الى الكتابة الرّحلية في «مصر التي في صربيا» للمصرية مي خالد، وهي تحوّل حدوتة السفر الى محكي سكوني منعكس عبر مرآة الخارج، ومنها الى جمالية القبح في «تغريدة البجعة» و«مقتنيات وسط البلد»و«أحوال العبا» للمصري مكاوي سعيد وهو ينقل أحوال البسطاء ببساطة الاشكال ،ومنها الى كتابة المسيرة الحياتية في « لو وضعتم الشمس بين يدي» للسوري خليل النعيمي وهو يكتب نزيف الذات بسرد استرجاعي لا يفارقه السؤال الذي تتناسل عبره الاسئلة غير المطمئنة لشكل او مضمون ، ومنها الى كتابة الضدية في «جحيم الراهب» للعراقي شاكر نوري وهو يكتب التعارض بين الذات والواقع ، بين الطهرانية وهواجس الشهوة داخل كتابة تبحث عن بناء بديل. بهذا كانت الرحلة النقدية في «كتابة أخرى…» بين بيوتات سردية وتمظهرات فنية تتغيى الخرق والتجديد ومواصلة البحث عن شكل كتابي لتصريف اللايقين الاجتماعي . كتابة تراهن عما ينبغي ان يكون تجاوزا واعيا لما هو كائن . لم يمر اثناءها الوقوف النقدي المتأني للناقد احمد المديني دون استطرادات تفتح كوة داخل الاشتغال النقدي، وتقيم المسافة الضرورية بين الناقد والمبدع ليمرر عبرها الناقد تصوّره ورؤيته، كان من بينها قوله: «الكتابة جماليات لا واحدة … فتفطّنوا يا أولي الألباب»(ص64)، وهي التي بتتبعها وتنضيدها قادرة على الكشف عن تصورنقدي بين المخاض والانجاز، وتلك كتابة أخرى عمن قال ذات «غبار الأيام»: «أكاد لا أجد بين البداية والنهاية سوى كائن وجد جسدا وذاكرة وخيالا بالأمس، وهاهو ينظر أمامه على صفحة بيضاء…».

http://www.alittihad.press.ma/ail.asp?codelangue=29&id_info=229786