«»أيوه يعني «»

عالية ممدوح

1
كنت بالفعل أقرأ رواية أو قصة ، وكنت اسمع جميع الأحداث التي ترويها أمامي الطبيبة والممرضة . التكنيك ليس حديثا جدا ولا ما بعد الحداثة ، ربما هو بين التسجيلي والسجالي لكنه معقول ، وحسب التعبير النفسي يصدق بالضرورة حتى لو دخله بعض التناقض والتبدل . لم يكن المهم البداية أبداً ، فهي ككل بداية ممكن تصديقها ، اما ما أصغي إليه فهو يندرج في الارتجاج وأنا اسمع الرسالة الصوتية على هاتفي تقول : الرجاء حضورك إلى مستشفى { سانت آن }SAINTE ANNE من أجل مدام … وجدنا اسمك في ملفها الطبي . الساعة كذا ، ويوم كيت . حسنا ، فلنضع لهذه المدام اسما حركيا مستعارا من النفي والموت والقهر . حاولت أن لا يكون للاسم ذرة من رجاء ولا ينتسب للمستقبل ، اللهم لا تحير عبدك ، لكني احترتُ فقررتُ تركها تحت خانة ال مدام ، فهي بهذا المعنى ، تحمل شحنة من الغرب الذي هرسها ، والبلد ، ذاك العراق بلدها الذي لم ينتظرها . سيدة لها سحر في شخصها وإطلالتها وصوتها ودماغها الخ . المستشفيات بباريس كثيرة جدا وكان المهم لدي هو العنوان وكيفية الوصول إليها وعلى الموعد بالضبط . صحيح ، المدام ، ربما مريضة مثل جميع البشر ، مثلنا وحسب المعايير المعتادة ، بمعنى ؛ أن المرض رغم كراهيتنا له فهو يبدو لي في غالب الأحيان يشبه الشعور الوطني ، علينا أن نصدقه في داخلنا ولا يجوز نقضه أو مجرد التشكيك بوجوده أو تفسيره حتى .

2
في الحي الرابع عشر تقع هذه المستشفى . بيدي جميع المعلومات لكني أفضل التأكد فأقف وأسأل عن الشارع يمينا أو يسارا فأشعر أن هناك نظرة ما بين التحفظ القريب من الخوف ، والسرعة في الرد والاختفاء عن طريقي ! طوال الطريق أحاول القيام بدوبلاج لعلاقتي مع المدام . لا لزوم قط لديباجة مقصود منها الثناء أو المديح وكان من الممكن أن أتابع بكل بساطة وإلى ما لا نهاية ؛ ما يربطني بها هو ذاته الذي جعلني بالمقابل أوافق أن يكون اسمي وعنواني ورقم هاتفي ومفتاح شقتي عندها هي أيضا . اليوم أو الآن ، هل يعني هذا شيئا ؟ إنني ذاهبة في طريقي من أجلها وأنا أفكر دوما ، أنني أحبها . إننا نحب بعض الكائنات بطريقة لا تعرف البوح بنعمة العاطفة فنفوت الفرصة علينا وعليهم ، أولئك المخلوقات حين نترك الأمور تجري في مجراها فلا نتدخل بها حتى تأتي هذه اللحظة . آه ، هذه المدام موجودة وبكثافة في داخلي لكنني منذ سنين لا ألتقي بها . كنت أحاول ترتيب الوقائع وأقول ، كلا ، لم يكن الأمر هكذا أبداً ، ولكن ، ولا يوم كان عكس ذلك أيضا . هذه الصداقة عمرها قبل بدء الكلمات ، وفتح الكتاب أو غلقه ، أو تشكيل المفاهيم والأفكار الخ .

3
وجدت الممرضة السمراء الرشيقة بوجهي ، ذكرتْ اسمي فقلت نعم . شيء مقلق جثم على صدري وخيط من مرارة كان يلسع لهاتي وأنا أدخل رواقا طويلا . جلست على مقعد خشبي طويل فكنت في البداية أراقب كل شيء ، تركت التأمل جانبا فهذا ليس وقته . فكنت ألاحظ أحد الأطباء يدخل إحدى الغرف الجانبية ويغلق الباب وراءه بالمفتاح وحين يخرج يفعل ذلك ثانية . لم يصلني أي صوت من الداخل ، أية همهمة أو دمدمة ، أي سعال صياح ونحيب. تجاوزتني جميع المعاني والمفردات وأنا أريد نسيان هذه المدام . تصورت أنني أبلد امرأة في العالم ، وكل شيء يبدو أمامي معقولا هادئا . الزهور في الحديقة لا تحتاج لأريج أكثر مما هي عليه . والناس كلهم أخيار ويمشون بكياسة ، واللون الأبيض فجأة ، صار يذكرني بالخبث الإنساني ، حين وقفت الطبيبة قائلة :
أنا الدكتورة المنتدبة لعلاج حالة المدام ..
الصداقة حيلة كما الغرام والكتابة ، كما هي الفخاخ الباقية؛ الجنس والقمار والسياسة وحجارة الوطن نقع في شباكها ونردد ؛ هذه غاية المراد لكي لا يتبدد الغد هباء . المدام هذه لا تقبل النقض من وجودي ، ابني أول ما وصل باريس في الصيف المنقضي سألني عنها بلجاجة قاتلة وألح على زيارتها فكنت صفيقة وأنا أخترع الأعذار لنفسي لا لابني. كنت أحجبها عنهم ، الابن والزوج وباقي الأصحاب ، اصقلها وأدعها تقيم في رأسي .

4
ُسئلت عنها بكل تهذيب وبساطة وحرفية ولثلاث ساعات ، أين منها أسئلة المخابرات العربية ، كنت أحاول تبويب رواياتنا سويا فأقدمها لنفسي قبل الدكتورة وأشرف على كل صغيرة وكبيرة في قانون الصحبة والمودة والجنون الخلاق الذي لا ينجدنا منه أي شيء . لم أكن أعلم أننا نحمل كل هذه التناقضات الروحية التي خصبت صداقتنا لكنها ، أيضا جعلتنا في حالة استبعاد بعضنا عن بعض أكثر وأكثر . منذ ثلاثين عاما حضرتْ من بغداد . كانت يافعة جدا ، شرهة للتعلم والتعليم ، جذابة ذات صوت رخيم وذهنية متقدة . الذكاء لديها مشرق لكنه شديد الأذى . لم ترض عن أحد ولم يستهوها أحد ، فكانت تستلف من الاحتياطي الهائل الذي خزّنته من القراءات والمشاهدات والتراجم وباقي التفاصيل ؛ التقدم بالسن ، وثقل بذرة التدمير الذاتي التي حملتها من بغداد ، كانت تتبرعم لكي يكتمل الخراب . بقيتْ تواجه الغرب بطيش ونيران الشعرية فهي تنتمي للشعر والشعراء الكبار في العالم حتى لو لم تكتب قصيدة واحدة لكن مستوى العيش والتفكير يأخذاها إلى هناك كهدف نهائي . الغرب كالشرق لا يبالي بهذه النبالة التي كانت تجهزها وتعتني بها وتحت الظروف التي لا تطاق . هي مسرفة ببذخ إلى آخر فرنك في الجيب ، وكانت تهجو وتشتم وتلعن كآخر كلام يثقل عليها إذا لم تتفوه به .أرستقراطية في شرائها أجود وأغلى وألذ الثياب والصوابين والعطور والمأكولات ، وزاهدة متقشفة بحيث تعيش أياما على الخبز والماء والتبغ الحارق للفؤاد .

5
أنتحب وأتمخط وأتحدث عنها هذا وأكثر . الممرضة تدون والدكتورة تردد :
وإذاً جميع ما تفوهتْ به أمامنا كان صحيحا وصادقا وها أنت تؤكدين على ذلك .
هذا القلب المصدوم القادم من العراق ، على هذا النحو كانت تتدحرج من هناك إلى هنا وكل شيء يصير ضدها ، وضدنا : العمر ، الشرق والغرب سويا ، البلد ، ذاك البلد إياه الذي جررنا من عراقيتنا فلم نعد نتناوله إلا كوجبة مسمومة . المدام ، حاولت بكل طاقة تهشيم لهجتها ولغتها وهويتها فما أن نتحادث كما كنا منذ سنين فتبدو مخلوقا له ملكات ومواهب شتى آنسة ، سيدة ، شاعرة فنانة صديقة قامت بجميع التدميرات الممكنة لكي لا يبقى منها أي شيء ، أي شيء بالضبط . هذا الأمر أيضا ينطوي على منهج يقود إلى ذلك التطابق مع الذات فتتحول حياتها إلى وزن شعري في قصيدة لم يكتبها عراقي بعد . اعتذرتُ من دموعي قائلة للدكتورة : هل تعتقدين أنني ، أو أي واحد منّا ، تجنب الوصول إلى هذا المكان بدافع الجبن فقط !

@@@
سألت صديقتي الدكتورة وفاء قاسم أخصائية في الطب والعلاج والتحليل النفسي عن هذه المستشفى ، أجابت حالا :
من أخذك إليها ؟ أنا تدربت فيها سنوات طويلة بعد التخصص ثم انتقلت لغيرها .
أريد تعذيبا أكثر فواصلتُ :
والأبواب المقفلة لماذا ، لماذا ؟ هل يعني …
أيوه يعني .. .
و …

الخميس 4 جمادي الأخر 1430هـ – 28 مايو 2009م – العدد 14948
https://www.alriyadh.com/432992