عالية ممدوح
«يا أصدقائي!» ليس ثم البتة من صديق.. «مونتيني»
«يا أعدائي!» ليس ثم البتة من عدو.. «نيتشه»
1
إلى أين يمضي الصديق حين يغادرنا حانقاً من صداقتنا، أو العكس؟ هل يختلق لنا احكاما مشددة؟ أم نلتمس له اعذاراً مخففة؟ هل تشبه الصداقات بين
البشر، وفي العموم، تنظيم الخدمة العسكرية، أم المجتمع الأقطاعي؟ التي تسارع في الأولى إلى الانضباط الشديد الذي قد يصل للتمرد، وربما العنيف
على بعض شروط الصداقة، وفي الثانية إلى الانقلاب على جميع ترتيبات توزيع الأرض/ الصداقة بالدونم أو الهكتار، بالثانية والدقيقة. متى تبدأ بعض
الصداقات تثقل كاهلنا فيسارع أحدنا إلى تأييد وتأبيد الانفصال؟ هل للصداقة أعمار موضوعية باردة ومحايدة وتدخلها بعض البراغماتية، وربما تٌلقن
ببعض الأحكام لكي تستمر ولو على مضض، فقط لأن أحد الأطراف يفزع من الوحدة على سبيل المثال؟ هل تصادف أن فردنا صدرنا في أحد السنين
وقلنا بصوت لا رجعة فيه؛ آه، هو/ هي هذه التي استطيع أن استذكر وبدقة جميع الحجج والذرائع في سلوكها، في الملابسات وسوء الفهم، في الاختفاء
والعودة، في الحضور والغياب الخ فأردد حسناً، ومع كل هذا فما زالت تلك الصديقة كوكب حياتي. هل هناك منهج تأويلي لا علاقة له لا بالحداثة وما
بعد بعدها، ولا بتداعيات النسوية وخصوبة مفاهيم ما بعد الاستعمار للتحري عن صديق ولن اضيف بعده النعت إياه “صديق حقيقي”؟ كيف نستنتج من
بعض المحادثات التي نتابعها ونصغي إليها عرضاً أو حقيقة لما يجري بين ما يدعون أنهم أصدقاء، وما أن يختفي أحدهم أو أحداهن حتى نتأكد أن ذاك
الصديق هو الخصم والعدو رقم واحد!
2
في أثناء انشغالنا بالبحث عن ذواتنا، وداخل كل منا القوة والهشاشة لكي نفكر ونراجع مرامي حياتنا فنلاحظ انبثاق وجه ما عبر شق الباب أو الشباك
مفروداً هو أيضاً مثلنا غير واثق من الآخر والغير. يخشى من التجاهل والبرود لكنه يتمسك بالحيز الوحيد الباقي أمامه، أن يكون صديقا وحراً. الحرية،
كما أظن هي برهة وأبدية في علاقات الأصدقاء وفي قانون كل صداقة سواء كانت بين رسامين أو نقاد، بين روائيات ونحاتات، وبين جميع أبناء البشر
كافة. قي أحدى السنين اعتقدت وما زلت، ربما لليوم، أن هناك تصوراً يقول ب معاداة الصداقة كما هي معاداة السامية. فقد بدت التضحية بها علامة
امتياز وزهو ووجاهة تتجاوز المفهوم القيمي وتمضي إلى التبعات السياسية والنفسية والعصبية وبدرجات قريبة التفاوت. كعراقية الوالد وسوربة الأم
ليس عندي تصورات أو أوهام حول صنوف السياسة وبجميع اطيافها السياسية: القومية والماركسية والإسلامية، وخلال كل الحقب الدموية وإلى
الساعة، فقد أطاحت السياسة وفساد طبقاتها بجميع أنواع الصداقات. لست هنا بصدد التوثيق أو التمحيص مما أذكر ولا أدعي الأخلاص فيما أقول، فقد
دونت بعضه في كتاب الأجنبية وينتظر البعض في كتب لاحقة. لقد تعلمت من مصاحبتي لأصدقاء وصديقات من المملكة المغربية، وفي أثناء إقامتي
الطويلة هناك، كيف اضبط غدد التعدد والاختلاف بين اليمين واليسار كعلامة استقرار على شروط الصداقة ورحابة الفكر وسكينة الأنس الذي لم أشعر
يوما أنه معرض للتهديد أو الوعيد. كما كانت الصداقة بين الكاتبين والباحثين اللبنانيين جوزيف سماحة وحازم صاغّية مثالاً على أدلة إبداعية يقدر
الباحث السياسي الوصول إليها بالاعتراض وبواسطته للوصول لحجة وجوهر الصداقة الحقيقية التي جمعت الاثنين. ولقد كتبت عنهما بعد وفاة
الصديقة مي غصوب ووفاة جوزيف سماحة وهو في بيت الثاني في لندن حين سافر لمواساة صديقه صاغية.
3
وأنا أشتغل على هذه الموضوعة الأثيرة والمضنية، الصداقة، كتبت إلى الزملاء والأصدقاء والأصحاب ومن الجنسين. تجنبت بعضهن/ بعضهم بسبب
النفور مني. وبعضهن بسبب “أنني أغار منها ومنه”. بعضهن فزعن من السؤال بسبب المس بالقيعان الشديدة الانحدار للذات البشرية فقد تعثر أحداهن
على ما يدعها تخرس عن جميع الادعاءات والسفاسف التي كانت تتصور أنها معمدة بشهادة حُسن الصداقة. بدأت الردود تتوالى مما ضاعف الحماسة
فكتبت لأسماء أكن لها التقدير والإعجاب لكنها المرة الأولى التي أكتب إليها فكانت الاستجابة فريدة حقاً. كان علي حفظ وتجميع هذه الأدلة المكتوبة، أما
الاشتغال عليها كنوع من المونتاج والقص واللصق ما بين هذه الشاعرة وكاتب القصة ذاك، أو ادعها، كل نص في أثر نفسه يؤسس ويحافظ في نهاية
المطاف على حركته الداخلية. لكن بعض النصوص التي وصلتني كانت جد قصيرة، ربما بضعة سطور، وبعضها تتجاور ال700 كلمة، والبعض
كتب عن أمر مغاير عما سألت. ماذا أفعل بكل هذا الشجن، والغضب، والمفارقة والتنظير، والحس الفكاهي المرْ والقاتل بمعاني الصداقة. البعض كتب
لي قائلاً؛ ما هذا الموضوع من يسأل عن الصداقة اليوم والبلدان تتهاوى؟ بالضبط، هو استنطاق للأصدقاء والبلدان سوياً. لا أعرف إن كان الصديق
بمقدوره أن يسند بلده عبر الصداقة والأصدقاء كما كتبت الشاعرة السورية عائشة أرناؤوط. إذاً هي تقنيات عدة سوف اشتغل عليها وفي حلقات عدة
وعبر يوميات/ نصوص الصديقات والأصدقاء اللاتي/ والذين ما زلت أنتظر بعضها. فبعد أن كانت مجرد فكرة ساتحدث كيف بزغت، تطورت وصار
الرقم أكثر مما تصورت!!
السبت 7 ذي القعدة 1436 هـ – 22 اغسطس 2015م – العدد 17225