عالية ممدوح
– 1 –
منذ زمن طويل لم تسلمني رواية نفسها بهذا الفيض الراقي من الفكاهة، وعلى الخصوص كرواية عراقية، وتكتبها الروائية العراقية المرموقة ميسلون
هادي. أجمل حكاية في العالم الصادرة 2014 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، وبغلاف فاتن للفنان العراقي صادق طعمة، وبعد تسع روايات
صدرت ما بين القاهرة وبيروت وعمان وبغداد، ونالت مخطوطتها الأخيرة العرش والجدول جائزة كتارا كرواية صالحة للدراما. ووصلت روايتها شاي
العروس إلى القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد، ولها ثماني مجموعات قصصية أعيد بعضها أكثر من مرة. ولها كتاب؛ مقالات في الأدب النسوي
وكتاب هذه الدنيا كتاب. حين وصلتني رزمة الكتب من عمان حسب رجائي وكرم الدكتور نجم عبدالله كاظم وميسلون هادي، بدأت حالا بالرواية. “كان
جوجول” “فكاهياً كئيباً” فقد قال، كلما تمعنا في قصة فكاهية تصبح أكثر حزنا” هذه هي أحوال رواية ميسلون. حكايات رجال هربوا من الحرب،
حروب العراق كأمر مسلم به، فكيف جعلت المؤلفة كل ذلك الموت والخراب موضوع بحث وتأمل في الذات
البشرية عبر المزحة والمفردات العراقية الدارجة التي كنت أراها كالبتول، هي ميسلون صاحبتها ومؤلفتها ونحن نسمعها أول مرة. كيف ينبثق ذلك
الضحك مني كنافورة تختلط بشجن دفن عميقا وكاد يظهر رأسه وأنا اكاد استلقي على ظهري وأصرخ في هلوسة عراقية؛ غير معقول.. فقد تصورت
انني اضمن نفسي كعراقية تتذكر وتعرف وتجيد وتخزّن وتستعمل اللهجة والمفردة والصورة واللعنة والحسجة النصية العراقية الخطيرة التي تحرر
اصوات العراق المتعدد مثل باقي الروائيين العراقيين لكن هذه العراقية فاقتنا، ربما، كما يقتضي للمحب الولهان ببلده.
-2 –
“دافع روائي” هذا اسم الراوي الأول، وهو وضعني كقارئة في فؤاد سرد بديع ملعون يسترعي الانتباه أن المؤلفة تضع أو وضعت السخرية المميتة
كبطل يلتقيه المتلقي على مستوى اللغة في إعادة المعنى لرجال ضاقت بهم ارواحهم فلم يبق أمام الكاتبة الا هذا الضحك الانفجاري الذي ترد به على
الحرب والخزي والافناء، على الفتك بالشباب، بالعشاق، بالنساء المنتظرات. أريد أن أكتب عما اصابني من شظايا الألم والفكاهة سويا وأنا أقرأ، وقد لا
أصل إلى ذوات الابطال، فهم جميع العراق المظلوم والظالم: ” بالنسبة لي ككاتب، فإن الرواية الناجحة هي عجين وماء وملح، ليس فيه يانسون ولا
زعفران ولا زعتر، ولكن سره يكمن في رائحة الخبز التي تغري القاصي والداني وتنادي الجائع والشبعان ” بجوار سخريتها الروائية القوية، فهي
غاضبة لكنها تقول بالعراقي مترهاية يالله، لا اقدر على ترجمة هذه المفردة حتى لو اعتمدت جميع المعاجم. الرجال الستة هربوا من الجيش العراقي
إلى الشمال، ومن هناك كل واحد لديه حكاية وله مسوغات لعودته إلى بلده ثانية، فهم ليسوا مثلي، أو مثلنا في تركنا لأجمل قصصننا هناك!!
– 3 –
لولا معرفتي بميسلون وعبر النت لما علمت انها من الأعظمية، وتخرجت من ذات الابتدائية التي درسُت فيها وقبلها بسنين، وانها بغدادية قح : “لم نكن
ننوي سوى طلب قدحين من اللبن الشايط المدخن، داهمتنا رائحة الشعواط “تصورت المؤلفة انها تؤلف أمامنا. تجلس في الغرفة المجاورة وتدون
رواية: كيف تٌكتب الرواية. ولذلك أغلب عناوين رواياتها بديعة وجذرها وثيق الصلة بشخصية المؤلف، بمعنى؛ أنا أظن أن العنوان كان يحضر لديها
قبل التأليف فيشكل أحد مراتب السرد، وبناء الفضاء الروائي، وتشكيل الزمان والمكان في علاقات مريحة فوق العادة، كما هي حركات الجسد التي
يدرك ان الرياضة البدنية تزيح الترهل عن العضلات والاعضاء. “أنا أعلم ان العنوان موجود هناك وقد يخرج ظله من كُم القميص الثالث أو من خلف
باب سحيق، ليقلب ترتيباتي كلها رأسا على عقب. سيولد من لا شيء، ويعيش بأي شيء” الرجل الثاني ياسين القجغجي. الأول هو الذي نبدأ به
الافتتاحية وقد اطلق عليه والده اسم دافع واكمل هو اللقلب دافع روائي. فكان هو دافع التأليف المنطوي على العشق بجميع مشتقاته. ياسين هذا أحد
ابطال روايتي الجديدة، وحين قرأت صفحاته في كتاب ميسلون شعرت انها أخذت لي حيفي منه وأكثر مني، ياه، كم ان الكاتبات، بعضهن، يقدرن على
التواطؤ ودون علمهن. فهذا الياسين في هذا العمل، اشتعل المطبخ وقفز وهو يصيح عاريا: “انلاصت. شافوه طرة كتبة. السبع والتنبل وابوكلاش” يا
الهي!!
– 4-
حسنا فعلت لجنة جائزة كتارا انها منحت العرش والجدول كعمل درامي. فقد توصلت مع هذه الرواية الابليسية ومع مجموعتها القصصية الأخيرة
أقصى الحديقة ، فكل واحدة من تلك الشخصيات والقصص تصلح حالا للسينما او للعمل الدرامي. وفي عملها الروائي هذا كنت أقف أمام مشهدية
المسرح الجوال الأوروبي للارتجال، غير المنجز، فيتم اكتماله أمامك في الشارع. مشاهد لا تصدق لكنها حقيقية من طريقة الروي والسرد المدهشة.
المؤلفة تعرف معرفة الناقدة المتفحصة للكائن الذي يقف أمامها لبرامج الإذاعة والتلفزيون المصري، للأغاني العربية، واللهجة المصرية التي طرزت
ذاكرة اجيال وما زال. فصول اعدت قراءتها لمرات فهي ترصد عملية الابداع : “كل ضحكة أضحكها يشوف أول شيء السبب حلو لو لا.. وبعدين
يقوم يتفلسف برأسي ويخليني أبطل أضحك.. تدري ليش أبطل أضحك؟ علمود أسأل أسئلة جوهرية”. وأنا أكاد اموت من الضحك فعلا: “حسن
ومأمون وفيصل وناصر وفردريك دخلوا في التيه ” فترة ثمانية وثمانين يوما منذ يوم هروبهم من المعسكر حتى يوم عودتهم انتهاء الحرب. كان قد
التقى بعازف الكونترباس الجعنتي، الذي كربسه عزف كله كلافة ويشبه زكي رستم ” تبدأ بالرصد اللغوي أو الحربي، ومنذ الغزو مرورا بالحصار
المشين على شعب كامل وذلك باسلوب شُحن بمرارة المواجع لكل بيت عراقي. المؤلفة اعادت تأليف جميع الليالي العراقية التي لم تكن بحسبان ألف
ليلة وليلة، وما أن ندخل ونبدأ من عتبة الباب بقصة حتى تتفرع عشرات القصص: “خربط كثيراً بالخريطة وجعلها على شكل أسد مخنطل. ما أكدر
ارسم للعراق خريطة. من موت كرفك ياسين. تراب براثك ياسين “هذه السطور تعادل عشرات الصفحات والمؤلفات مما كُتب عن العراق الممزق
الأوصال. ميسلون كما أظن طباخة ماهرة أيضا فعلاقتها بالمفردات الشفيفة وما يجاورها وطبيعية مشتقاتها كما هي مشتقات السبعة انواع من التوابل
المخلوطة بنسب جد دقيقة: “والحياة تعني أن نحيا.. صفحة بعد صفحة.. ويوما بعد آخر.. وأن نتذوق حلاوتها في هواء بارد يهب على الوجه بعد
الحلاقة.. وفي قدح ماء زلال يُشرب بعد العطش.. وفي خرير بخار ماء يتحول إلى مطر.. وفي رعشة خرطوم (حاير والله حسن أكتب خرطوم أو
صوندة)”.
-5-
اطاحت الرواية بالايدولوجيات والمزاعم والطبقات والوسواس الخناس الذي يوسوس في قلوب وجيوب الناس. جميع الشخصيات لها خفة الكائن ضمن
مطاردة ثقل الماضي والمستقبل سويا. فالأول غاية في البراعة. اشتغل ما بين الواقع والمخيلة، وقام بتفكيك الحرب والحصار. أميركا والنظام بسخرية
لا مثيل لها، وكلها في مكانها السليم، كما انها اشتغلت على تشكيل الشخصيات وتنوعها، وضبط البنية السردية لكي لا تكون السخرية تفيد في موقف
واحد أو وقت واحد فقط، فهذه رواية قوية من الغلاف إلى الغلاف: “خالي عبدالعليم كان يقول إن الرواية القوية تبين من أول سطرين. ويقول أيضا إن
على الروائي أن لا يقدم أجوبة بالرواية ولكن أن يسأل ومحد يجاوبه؟ ” هذا مأمون الشاعر الذي يخاف من الحرب: “فقد كان يراجع علاقة الإنسان مع
نفسه باستمرار، وبالاخير سقط وتخبل واعتزل الكتابة”. تشتغل ميسلون كما تشاء، هكذا يبدو الأمر لكنها منضبطة كالعسكري العراقي القديم: “لو كان
الأمر بيدي لتشابهت هذه الروح مع روح ياسين القجغجي أو فيصل الفيلسوف، أو ناصر المغني أو فردريك المسيحي. ألا ترى انني قد فصّلت لكل
واحد منهم فصلا خاصاً به، (فصل ناقص به عيوب أفضل من لا شيء)، هذه الرحلة مثلا وحكايتك مع رفاقك الخمسة، ثم كل من عرفت في حياتي من
بشر.. قلوب كثيرة كلها اجتمعت في لحظة الكتابة لتصبح كبوابات الماء تروي بالحكاية، وعندما اخترعت شخصية مأمون قد أكون جعلته يفضل
تمضية باقي حياته في البرية مع الطبيعة”..
++++
حين اخبرتها انني كنت أشهق وتدمع عيناي بالدموع، وأعيد قراءة بعض السطور والصفحات والكلمات وأنا اضحك من الطريقة واللغة، من هذا البث
الشفيف للمزاح بفولتية تتصاعد حينا وحسب الظرف، وتهدأ، فكنا نتضاحك بصوت عالٍ. كلمة “أيبااااااخ” أنا كنت استعملها أول ما تركت العراق
ووصلت باريس، هكذا من الزهق والسخرية. عدت لأستعمالها بفضل ميسلون ولو لترديددها مع حالي. هذه الروائية العراقية النجيبة ذات الصوت جداً
والعميق والجاد، والتواضع الجم وكأنها أقامت الحد على نفسها وبالدرجة الأولى لكي لا تدخل السباقات مع أي أحد إلا مع نفسها وبالدرجة الأولى،
وكيف تشتغل على آليات سردها البديع وشخصياتها التي لن أنساهم ما عشت فتنتج هذا المشروع الروائي الخصب.
السبت 10 رمضان 1436 هـ – 27 يونيو 2015م – العدد 17169