أستيقظ حوالى الساعة الثامنة والنصف صباحا وأجري تماريني الرياضية اليومية التي تستغرق عشرين دقيقة، مسوقة إليها منذ ما يقارب الثلاثين عاما بسبب الديسك في ظهري. أقبل عليها كأني من سلالة اللاعبين الأولمبيين، وتدريجيا تتبدى الأمور فأعرف أني لن أفرغ من خدمتي العسكرية هذه والتي ستتواصل حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
لم أعد أصغي إلى الأخبار بصورة منتظمة، أحيانا أذهب إلى BBC من طريق الكومبيوتر فهي لا تتوجه إلى اوروبا وغالبية الأحيان تأخذني “اذاعة الشرق” بأصوات مذيعاتها ومذيعيها المميزين إلى تلك البلاد، فالموت هناك هو الأكثر يسرا، محكم ومستساغ من هذا الطرف أو ذاك. بلى، هي قهوة الصباح بالحليب القليل الدسم، أتلمظ قطراتها على مهل وأردد: فليبارك الرب هذا الشراب شبه المقدس، وحده يشيلني من عتمة الذات التي تجعلني أجفل حين أسمع حركتي في شقتي التي تشبه الكشتبان. عبد اللطيف، ابني، دائما كان يردد حين كنا نعيش معاً: أمي، هذه الأمتار تصلح لأفراد من الصين أو الشرق الأقصى، فأحجامهم صغيرة وحركاتهم رقيقة. تماما، فكلما مشيت وتحركت بين الأشياء والموجودات أصابتني كدمة في الخاصرة، والساق والكتف، لكني رغم ذلك انا مغرومة بالجنينة التي تواجه شبّاك غرفتي. جنينة أصولية شديدة الرحابة والتعدد والاختلاف. اشجار عريقة باسقة وذات اغصان شديدة الاشتباك بعضها مع البعض الآخر، زهور ريانة وورود فاتنة والنحل في طيرانه الفجائي يسحرني، وهي ديموقراطية في الدرجة الأولى أكثر من جميع القادة العرب والافارقة الخ. فأذهب إلى أصص نباتاتي المتسلقة الصغيرة التي ازدادت عافية وتألقا بعدما غذتها وغيرت تربتها صديقتي الرسامة العراقية سوسن سيف طوال فترة غيابي في عمان، تقول، ليس بالماء وحده تحيا الزهور والأشجار.
الوحدة تعلّم البني آدم الصبر والتقشف في كل شيء، الكلام والاصوات والعلاقات والمرارات، فتبدو النباتات كائنات حقيقية بلغت سن الرشد أمامي، وحين أبتسم في وجهها وأنا أمسح سطحها من الأبخرة والغبار والعرق، أشعر انها تجيبني بطريقة ما، بلون آخر. لون لا علاقة له بالأخضر الداكن أو الفستقي الفاهي. هو لون لا يحصل عليه الجميع لأنه يتطلب نعمة الصداقة وشيئاً من الورع.
بهذه الحمى الجهيرة على قسماتي أشتغل على روايتي الجديدة منذ الحادية عشرة صباحا إلى ما يقارب الرابعة عصرا. هي المواظبة الاجرائية للمرور بين تلك الطرق الفرعية وأنا أدمدم. شيء من موسيقى كتومة تسيل من الغرفة الثانية تحمل إليّ غلة وفيرة من الافكار ونداوة رقيقة تبخّها على الشخصيات. قابلت أخويّ في عمان، لم أرهما منذ ربع قرن. لم نعول، كانت الدموع قد جفت منذ ومنذ، لم أعد أشعر أني أقلية حين قابلتهما. في العموم لا أقابل أحدا في الصباح ولا أرد على الهاتف إلا…
أذهب إلى البريد أو البنك أو السوبر ماركت بعد الرابعة. في الغالب لا أتحدث صباحا الإ بضع كلمات أو ولا كلمة، فلعل ألطف اختراع هو مسجلة الأصوات التي نقدر على محوها أيضا. أنا أفضّل المحو على الكلام، كما حين أحاول محو مدينة كباريس فلا أعيش في فؤادها وانما على هامشها. أحب هامش المدن والبشر والكتب والعلاقات أيضا، لكني لا أزال ولا أكاد ولا أنفك أعيد بناء مدينة بغداد وأخاف عليها الامحاء مرة ومليوناً. قوة بغداد قاهرة في وجودي العراقي وعموم أعمالي، ومع هذا فأنا أصغي الى نبض باريس وهي تقول: إني أتدفق في أوصالك كالترياق فأجعلك تشيخين على مهل.
أشتغل في الخريف أكثر من أي فصل من السنة، هو فصل امبراطوري بالنسبة إليّ، أعمل مثل فيل مولود حديثا، عنيد وقح وحنون. آه، الكومبيوتر، بالطبع أطل عليه يوميا، على الصفحات الثقافية وبريدي، لكني بدأت أضجر وأخاف منه على عيني المصابة بالغلوكوما، هو مرض يسمّى لدغة الأفعى.
ليلا، أبتسم بحنق وأنا أشاهد التعليقات عن اعاصير “كاترينا” و”ريتا”. لم أفهم ولم يجبني أحد عن سر اختيار هذين الاسمين الأنثويين. كاترينا ذكرتني بصديقتي الأسوجية البديعة التي ابتدعتُ لها دورا لطيفا في روايتي “المحبوبات”، وريتا أخذتني إلى رعدة ريتا هيوارث وايروسيتها، وهي التي كانت أشد فتكا وهلاكا من الاعاصير الكونية. لماذا هاتان التسميتان؟ هل هما قديستان؟ لا أدري.
الآن سأذهب، فرجاء وشادية عالم تقولان إنهما في باريس في انتظاري في الساعة كذا، والقلب، قلبي، يختفي في اهاب قلب آخر ويمضي معه بعيدا…
20.2.2005