هدى حسين شاعرة ورسامة ومترجمة مصرية، لها إسهاماتها المميّزة على هذه الصعد، وهي فازت مؤخراً بجائزة ساويروس للثقافة والإبداع، عن فئة الرواية، مناصفة مع
الكاتب أحمد بهلول، عن كتابها: “بذور الطماطم”. عن الشعر والرسم والترجمة كان هذا الحديث:
• ما هو الرابط برأيك بين شعرك ورسمك وترجماتك؟
ـ منذ الصغر أيقنت أنني لا أنتمي إلى هذا العالم، وأن هذا الجسد “العلبة” الذي أنا موضوعة فيه كعفريت العلبة ليس إلا حافظة من العالم الخارجي مثلما هو أداة لي لأمارس بها
وجودي كعفريتة حتى لا يقتلني حنيني إلى موطني الذي أُسقِطت عنه وأُسكِنتُ جسدي. لذا فمنذ السنوات الأولى من حياتي وحتى الآن ما زلت أستمتع بوحدتي. أن أكون وحدي
متروكة لحالي مع عالمي الخاص الذي يأتيني بأطيافه ويلعب معي ويحكي لي ويشاركني حياتي شديدة الحماسة والإثارة هكذا في صمت.
ربما ما يربط شعري ورسمي وترجمتي هو هذا الصمت، هذه الوحدة، هذا الترك المحبب لحالي مع حالي. هو عودتي واستمتاعي الحر بتفاصيل عالمي الحقيقي الذي يسكن
خيالي، خيال العفاريت، المساكين، المسجونين في علبة مثلي. الخيال الضاحك البائس المعجون بشيطنة الطفولة وبراءتها وإصرارها العنيد أن تستمر هكذا بريئة ومشيطنة.
خيال بلا حدود
• قصيدتك حداثوية، هل لوحتك تحت هذا التصنيف؟
ـ لا أحب تصنيف كتابتي ولا لوحاتي ولا تسميتهما بحداثوية او غيرها. أريد فني كله أن يستمر في بقائه حراً طليقاً كما أريد، وكما هو فعلا وبلا محاولات مني او من غيري
للزج به هو ايضاً في علب. لذا فأنا لا أهتم بتسمية ولا تصنيف ما أفعل ولا حتى تعريفه بشكل واضح ودقيق أدبياً او فنياً. الكتابة والرسم والترجمة والقراءة والغناء والمشي
والحياة عموماً بكل تفاصيلها، إنها لعبي وأنا أحبها وألعب بها كيفما يحلو لي وأسميها كما يحلو لي أيضاً، ولا أجد أي غضاضة في وجودها بلا اسم او في تغيير اسمها كل حين.
لا أحد يستطيع أن يفرض عليّ ما أرسم او أكتب أو أترجم. أحب ذلك، فأنا مملكتي وأنا سيدة قراري وهذا أمر طبيعي وبديهي. أنا أفعل ما يحلو لي. والفنون كلها تحلو لي. إنها
أنا في صورة كائنات صغيرة تركض في اتجاه العالم. كائنات وحيدة مثلي ومكتفية بذاتها ومشاكسة وهوايتها الأثيرة هي اللعب.
لذا فأنا عندما أكتب ألعب بحرية. لا يهمني إذا انكسرت اللعبة او انكسرتُ أنا شخصياً معها او بها أو لأجلها، فكل شيء يمكن اللعب به ومعه، وكم من لعبة مكسورة بل ومهشمة
أيقظت فينا الخيال أكثر من لعبة سليمة ونظيفة تنزل في علبتها ومعها كتالوج تشغيلها. كذلك عندما أرسم أيضاً. أبدأ بلمس الخشب. إنه لوحي إنه شجرتي وألواني ستنوب عني
في تسلقها أحياناً كالعصافير وأحياناً كالسناجب او القرود. وفرشاتي كأم حنون، لكن ثاقبة الذهن أيضاً ومتقدة القلب تساعدها في الصعود. لا أضع مخططاً مدروساً ولا ثيمة
محددة قبل الرسم. لأنني في النهاية ألعب مع شجرتي لا بها، لذا فإن اللوحة عندما تنتهي يكون ذلك نهاية لقاء بيني وبين شجرة. ونكون قد استمتعنا كثيراً بالحوار وطرح الأفكار
الملونة بيننا. متشوقين لحوار جديد ولوحة جديدة.
عندما أكتب لا أخطط أيضاً. أعرف أنني سأكتب الآن فحسب وينتهي دوري عند هذا الحد. ثم أترك للكتابة أن تقوم بالباقي. وكلي ثقة بأنها ستفرح وتكون بكل صدق معبرة عن
نفسها. هذه فرصتها وقد تركت لها خشبة المسرح متاحة وسلطتُ عليها الضوء. إنها إذاً فرصتها أن تكون ما تحب أياً ما يكون وكيفما يكون. إنها فرصتها أن تكون حرة في
تقمص أي شيء وتعرف إنها مُحتَضنة بي. الكتابة طفلتي المدللة وأنا أحب أن أدللها بلا توقف، لا أريد أن أربيها. إننا نضحك كثيراً معاً ونمثل كثيراً ونلعب ونعاود الضحك.
• هل الخيال شرط مؤثّر في أعمالك، لوحتك وقصيدتك بشكل أساس؟
ـ أظن انه على الفن أن يكون كذلك، حراً وعلى راحته تماماً. إنه ربيب الخيال والخيال لا حدود له وهو أوسع بكثير من الواقع، صحيح بالنسبة إلي الواقع جزء منه، لكنه جزء
صغير جداً. الخيال يتسع للواقع مثلما يتسع الغلاف الجوي لاحتواء الأرض. لذا فإن الواقع دائماً يحاول تقليص الخيال ليفهمه ويتعامل معه. يحاول ضغطه وتصغيره وتشذيبه
ليتوافق معه، إنها محاولة الواقع البائسة في مصادقة الخيال بالطرق التي يعرفها: التأطير والتصنيف. لذا فهي محاولات بائسة وفاشلة وأنا اشفق كثيراً على العالم الانساني
الواقعي لأنه كذلك ضيق ومحدود لكن إشفاقي وأسفي لا يقويان على جعلي أدير ظهري لخيالي الشاسع الجامح وأقوم بمصاحبة هذا البائس الصغير.
ألعب بالعالم
• هل تنتقين ترجماتك؟ أم تترجمين بحسب الطلب؟
ـ كذلك عندما أترجم فأنا ألعب دور الممثل بامتياز، او دور الوسيط الروحاني، إنها أدوار تستهويني وأحبها. أثناء الترجمة أختفي تماماً. أكون الآخر. أكون ذلك الغائب عن لغتي
وعالمي والحاضر في لغته وعالمه.. أستجلبه، أتقمصه، أكونه، ثم أفرزه في عالمي ولغتي، أطلقه في نوري ليكون ويُرىَ ويتم التفاعل معه. معه هو، لا أنا. فلو أنني حضرت في
حضرة الترجمة لفسدت وتحولت إلى حضرة كتابة عرجاء تميت الترجمة وتهين الكتابة وتحتقر الكاتب فيَّ مثلما تحتقر المترجم. لذا لا ينبغي أبداً الخلط بين حضرة وأخرى
أبداً. فأي علاقة لا يتوفر فيها شرط الاحترام لا يمكن ان تؤدي إلا لقطعها.
• ما هو الشرط الضروري برأيك لإنجاز أيّ عمل فنيّ؟
ـ المتعة هي أساس أي شيء نصنعه بإتقان ويبرق. حتى في أحلك اللحظات وأكثرها مصيرية وأدقها على المستوى الشخصي والعام، لو لم تكن هناك متعة في الفعل فأي غباء
هذا الذي يجعلنا نقدم عليه؟ أحب أنني قررت منذ البداية ألا أكون مجبرة على شيء مهما كان. وأنني لن أترك أية فرصة لأي ما يكون أن يضيق عليّ الخناق. فأنا في قرارتي
حرة، ولا أتحدث هنا عن حرية التعبير الإبداعي فقط ولا عن حرية المرأة مبدعة او غير مبدعة، ولا أي من هذه الحريات المجتزأة. لكنني أتحدث عن اللحظة. اللحظة التي هي
الآن. ذلك الـ”آن” المنفلت المستمر الأبدي اللانهائي الذي يوهمنا بأنه يتكرر وهو متجدد دائماً. الحرية هي ذلك الـ”آن”، تلك “اللحظة” التي تلعب وتتقمص حكايات وأحداثاً وما
نحن إلا لعبها بامتياز. وأنا أستمتع بهذا أيضاً. أنا ألعب بالعالم. اللحظة تلعب بي والكون يدور بنا كمهرج سيرك محترف ونحن كلنا ولحظاتنا كلها برتقالات يطيرها ويلقفها بين
يديه. أن تعي ذلك بعيون مفتوحة وتضحك هو أن تكون جزءا من المشهد وتكون كذلك شاهداً عليه. وتمتعك براعته وتصفق وتصفق حتى تتورم يداك بينما تقف انبهاراً لحرفية
هذا المهرج وإتقانه. وكعفريت علبة قديم، أنا شخصياً موقنة أنه مستمتع جداً وهو يلعب. ولهذه المتعة أقف احتراماً وتبجيلا وأقوم فأبدع أنا أيضاً بالمتعة ذاتها فقط، لأعلن
بإبداعي امتناني وشكري كظل، أو كصدى، لهذا المبدع الكبير. ساعتها فقط أشعر بسعادة غامرة لا يمكن وصفها. لأنه لا يمكن الوقوف خارجها وتأملها. الشيء الوحيد الممكن
هو معايشتها بكل ذرة وكل خلية من هذا الجسد. هذا الجسد العلبة الذي ينفتح منتشياً لينطلق منه إلى الخارج عفريت هو في الحقيقة أنا.
أجرت الحوار: عناية جابر
تاريخ المقال: 21-01-2014 02:43 AM
http://www.assafir.com/Channel/10/%D8%AB
%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9/TopMenu#!/ArticleWindow.aspx?
ChannelID=10&ArticleID=334732