1
هذا الكتاب ، أتمنى بشغف حقيقي لو ينتسب إليه كل طالب جامعي يدرس الهندسة المعمارية ، والفنون والآداب. إن يستدعيه أساتذة ومن بقي منهم في العراق المهجور للاحتفاء به كقيمة تاريخية ، مفهومية، معرفية وسياسية، معمارية وثقافية من اثرى ما قرأت. مؤلف هذا المجلد الأثير للمهندس العراقي الدكتور شريف يوسف . وقد صدر في العام 1982 ، وقتذاك ، غادرت بلدي وإلي اليوم لم أعد إليه، لكن صيت وأثر الكتاب مازال مدوياً بدلالاته ومحتوياته، وما قام به المؤرخ المعماري والأكاديمي ومخطط المدن الدكتور إحسان فتحي في الاشتغال على تحريره، وكأن أعاد إليه اشعاعه وبريقه في الاخراج والضبط ، في قوة الصورة وتمايزها وقيمتها، في ذلك الولع الصافي للعمارة العراقية كجوهر حضاري أراد إعادة الاعتبار ثانية لهذا المنجز الحضاري كنوع من حماية من عوادي المحو لما بقي من العراق!! من أثر الابن ، والأب ، وسلسلة الآباء . هذا كتاب في حب تحولات السكن ، المنزل، بيوت العائلة، صالونات الأسر الحاكمة، سرادقات أصحاب النفوذ والسلطة . شريف يوسف كان يريد ان يقول الحقيقة في وجه أبناء العراق الذين فتكوا به وباسمائه وبحرمة بيوته كسلالة فاصبحت الكتب، هذا في مقدمتها، هي المتحف الضروري الذي نلجأ إليه بعد نهب وفساد كل شيء .
2
حرص المعماري إحسان فتحي عبر العمل الأنيق الباذخ والمخلص للكتاب الأول والاتفاق مع ابنة المؤلف الأول مها شريف يوسف على إعادة طبعه وتم ذلك وصدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في العام 2013 . وإذ تقوم المؤسسة بذلك وكأنها تفي دينا وواجبا من جانبها للعراق الذي كان يقتني من دارها وباقي الدور العربية آلاف الإصدارات وبكافة المعارف والعناوين ، بعدما تعذر ومنذ الغزو والاحتلال الأمريكي وحضر الكتب والتوزيع الا ما يلائم المرجعيات الدينية فصار الكتاب، أي كتاب حقيقي نوعا من عاهة، وكل عاهة تتضمن العدوى، وهذه بدورها تؤدي إلى الموت. وفي هذه الحالة يتجلى العراق المسبى اليوم بتثبيت سبي الكتب التي بدأت منذ أعوام بمحرقة شارع المتنبي ، واليوم تتواصل في سبي نموذجي في الموصل . فهذا بلد يرمم وبالتالي يشيد من الجماجم والكتب ما يؤرشف لفرادة طريقة اختيار موت العراق وبامتياز . اتصفح بامعان ومتعة تفوق الوصف بما يقارب ال 660 صفحة من القطع الكبير واكتشف ان الكتاب هذا ، وإعادة طبعه وتدوينه والتفكير بكل ذلك يحمل بعدا قضائيا ، انه كتاب يقاضي المستقبل بتراتبية ودلالات الماضي .
3
يكتب إحسان فتحي : ” ان هذا الكتاب العملاق الذي فجره شريف يوسف في عام 1982 كان حدثا مدويا حقا خاصة انه لم يكن متوقعا منه ، وهو ليس بالاكاديمي الجامعي ، ولا بالاثاري المحترف إن يتصدى لمثل هذا المنجز الثقافي الكبير . لقد غطى شريف يوسف كل شيء ، ولم يترك أي موضوعة لها علاقة بالفترات التاريخية إلا وذكرها ووصفها . فقد بدأ ببداية الإنسان القديم في العراق وكهف شانيدار ثم باقي السلالات … فتطلب مثل هذا الجهد اللافت طاقة مذهلة من المؤلف الذي يبدو انه كان يجمع الملاحظات والمدونات قصاصات المجلات والجرائد والمقالات منذ فترة الثلاثينات ” . لا أدري لم امتلكتني فكرة لم اختبرها بعد ، أن المعماريين وبالدرجة الأولى يقدرون على توضيح درجة تعلقهم ومعارفهم ، وربما محبتهم، أكثر من الشعراء والأدباء . بمعنى ، ان المعماري مدخله لقراءة الأثر ، ليس من الذاكرة ، أو التأمل أو المخيال وتكدسه فحسب ، رغم اهميته، لكن اساسيات كل هذه الجيولوجيا وجميع هذه المواقع التي بوّبها ودرسها وصورها وهي تتراص أمامه بالمراحل والتعاقب ، بالفراغات والعدة الارشيفية . فقد قرأت غرام شريف يوسف، وبالتالي إحسان فتحي ، ومن ثم لجميع المعماريات والمعماريين العراقيين الذين أعرف ، وكيف هو العراق بالنسبة إليهن / إليهم . إنني أركن إلى الحلول الابداعية التي ينتهي إليها المعماري، وإلى الوضوح الذي يضيفه إلى معارفي وأنا أبدأ باختيار الحيز المكاني لعمل روائي ما ، فما عليّ إلا ان امنح طراز العمارة ، ليس بالضرورة الفريدة ، ولكن على الأقل التي تتيح لي أن اتخطاها إلى ما هو أبعد من ذلك الشبر الأول.
4
توقفت طويلا أمام معابد وادي الرافدين ، مواد البناء، القصور، بناء المدن وسامراء، المؤسسات ، المراقد المقدسة عبر الصراع الحقيقي والتاريخي على العراق ما بين الاتراك والفرس والى اليوم . كانت الخرائط القديمة / الحديثة أمامي وكلها تبدو اليوم معرضة للسقوط وعل جميع الجبهات وبضربة واحدة، وما أن ترفع رأسك إلى أعلى حتى تشير الاسهم إلى نينوى، فيعيد الكتاب هذا للمادة الآثارية قيمتها التاريخية وهو يشير ويخط على كل خط من خطوط دجلة والفرات ، وما يحيل التاريخي إلى فني، وما يرتكز على الذاكرة، وما يستنطقه الأثر ويلاحقنا إلى هذه اللحظة : إننا أبناء أقدم سكان العراق . في هذه اللحظة اذكر كلمة جميس بيكر وزير خارجية الولايات المتحدة حين قال لطارق عزيز وبعد التي واللتيا : سنعيدكم إلى العصر الحجري . ” أطلق المؤرخون على هذا العصر اسم عصر ما قبل السلالات ، هو عصر بناء وتدمير برجي مركز التجارة العالمي ، وهو عصر الافراط في تدمير وافناء العراق حتى ليبدو لي انه مستنسخ من وهم غير موجود حقيقي . هو وُجد قبل السلالات فعلا وكان مزعجاً بخياله ومعارفه ومغامراته الوجودية وكان عليه ذلك الاجماع الكوني الذي يقول : هذا بلد الغواية ، العراق يغري ان يكون اجماعا بهلالكه ، فهو لم يكن يوما تقليديا . كان خارج الشيء ، كل الأشياء بالضبط ولا يجوز اختزاله لأن طبقته السياسية لا تعرفه ولا تقدر ان تسطير عليه الا بالسفاسف ، فان تقرأ العراق في هذا المجلد بالمعابد والزقورات، بشكل مساقط النور ، بادوات البناء التي بقيت كما هي ، ببابل التي اعتذر من تكرارها ، لكنها كل مرة بمقدورها اختراع بابل التي تنتهي بك، أو تستمر بك ، وليس بغيرك .
++++++
أريد أن أشكر الصديقات في الاردن : آمال صديق شريف التي وضعت بين يدي نسختها من الكتاب لحين وصول نسختي وهي تحملها ليلا السيدة سمر العريان صديقة اليفاعة الأولى، في مشهد من يراقبنا ونحن ثلاث نساء عراقيات يتبدى لنا العراق كل من استراتيجيته المعمارية والثقافية، وكأننا ننزل للتو على أرضه . يستنطقنا الحب العراقي ويوزع علينا الطاقة ، ما بقي منها ونحن نفاضل ما بين العراق والعراق ، ما بين المكان المراد الذي كان يقال ، أي هو ذاك العراق على مرأى من العين التي تنتحب على ما أصابه من تطرف وافلاس ونزعات للتدمير. أريد ان اقدم الشكر وباستطراد للمعماري إحسان فتحي في دقته واخلاصه ، في صبره ونزعته الاكاديمية المعتبرة، وعقلنة بعض التعابير، واستنطاق بعض الصور وكأنها أُخذت بالامس، وهذه تحسب للمؤسسة العربية للدراسات والنشر التي عودتنا على هذا الاتقان والجمال ، فالكتاب / المجلد كان وزنه النوعي يفوق وزنه الآخر الذي حملته على قلبي من عمان إلى باريس وكأنني أحمل كنزا ً .
السبت 9 جمادى الأولى 1436 هـ – 28 فبراير 2015م – العدد 17050 , صفحة رقم ( 21 )