متاهات السرد في رواية «التانكي» لعالية ممدوح – موسى إبراهيم أبو رياش


مهما كان المهجر رحبا حنونا، يمنح الحرية ويعطي الفرصة لتحقيق الذات، فلن يكون بديلا عن الوطن، وإن كان قاسيا وظالما، لأن قدر المهاجر أن يحمل وطنه في قلبه وروحه، يخرج له في
كل حركاته وسكناته، فالوطن ليس جلدا يُسلخ أو شعرا يُنتف، بل هو هيكلنا العظمي الذي لا كيان لنا بدونه. والمهاجر يبقى مهاجرا، سلوكه ولونه وعاداته وحركاته وثقافته تدل عليه، بل
تتحكم فيه، كما أنه يبقى «الآخر» مهما مكث أو ارتقى أو فعل.

الأوطان العربية، في حضيضها الذي تعيشه، تمارس قسوتها وشذوذها وبطشها على المواطن العربي من المهد إلى اللحد، ولا تنجو من ذلك إلا طبقة محظوظة، خلقت لتسود وتتملك وتحكم
وتسيطر وتتاجر بالوطن والمواطن، وهي، في معظمها، ذنب للاحتلال الأجنبي بصوره المختلفة، تحكم باسمه، وتأتمر بأمره، وتشرب دمنا نيابة عنه، فينتشى ويخمر ويسكر وهو في واشنطن
أو باريس أو لندن أو موسكو.
ما سبق، هو هاجس رواية «التانكي» للعراقية المقيمة في باريس عالية ممدوح، هذه الرواية التي لا تعطي قيادها للقارئ إلا بعد جهد وتأنٍ وصبر أيوب، وربما يُصاب القارئ بالإحباط فلا
يكملها، فهي رواية متداخلة، ذات مستويات متعددة، وأوجه مختلفة، وشخوص متباينة، وثقافات متضادة، وأزمان ممتدة، يشعر القارئ فيها بأنه وسط دوامة ومتاهات سردية، ولا عجب
فمعظمها يعتمد على الفضفضة والثرثرة والبوح للطبيب النفسي، الذي يتابع ويبحث عن حالة ومصير الشخصية المحورية في الرواية «عفاف» التي امتهنت الرسم، وهاجرت من بغداد
إلى باريس بحثا عن ذاتها، فلم تنل إلا السراب.
لا شك في أن رواية «التانكي، منشورات المتوسط، الطبعة الأولى 2019، 271 صفحة»، مميزة بموضوعها، وتغلغلها في النفس الإنسانية وغربتها واغترابها، وسط عاصفة من
التغيرات والتحولات والزلازل واختلاف المكان والثقافة والفضاء، ورحلة البحث عن الذات وتحقيق ما تصبو إليه، كما أن تقنية السرد جميلة وفاعلة، على الرغم من متاهاته وتشظيه وتداخله
وغموضه أحيانا، وهو يتفق مع حالة التيه وفقدان البوصلة التي نعيشها، والفوضى التي هي عنوان حياة كل عربي، سواء أكان يعيش في وطنه أو في مهجره، فهو أسير حالة رضعها منذ
الصغر، يعيش ويموت عليها.
عنوان الرواية «التانكي» مميز، على الرغم من بساطته، ويقصد بـ«التانكي» خزان المياه المخصص للحي أو منطقة معينة، المقابلة لمعناها بالإنجليزية «Tank»، والطريف أن
«التانكي» بمترادفاته المختلفة اسم لشارع أو حي في معظم المدن العربية، ولذا فهو صيد موفق لعالية ممدوح.

“لغة الرواية ـ في المجمل – جميلة بدون تقعير أو إخلال، وتتناسب مع المستوى الفكري والمعرفي للشخوص، ولكن ما يؤخذ عليها استخدام بعض المفردات العامية في السرد لا الحوار”

و«التانكي» عنوان يحمل دلالات متعددة، فقد يدل على حفظ الماء وما يعنيه من حياة وضرورة، أو هو خزان الذكريات والحكايات والصور والأحداث، وقد يقصد به خزان الآلام
والأحزان، وقد يرمز إلى الترسبات وتشابه المؤثرات أو وحدانيتها ومصدرها، وأيا ما كان المعنى المقصود، فكلها معانٍ عميقة، تستجر سيلا من الصور والخيالات والتأملات والأسئلة
أيضا.
لغة الرواية ـ في المجمل – جميلة بدون تقعير أو إخلال، وتتناسب مع المستوى الفكري والمعرفي للشخوص، ولكن ما يؤخذ عليها استخدام بعض المفردات العامية في السرد لا الحوار، من
مثل: القندرة، البسطال، الكونكريت، الفرسة، البايب، فرندات، شو عبالك، لاستيك، الفرجال، أونون، المكرود، الكركش، الصاية، البويمة، الطمغة، استكان، سنسفيل، سنتيم، وغيرها، مع أن
الأفضل تمييزها، والأولى استخدام البدائل السهلة التي توفرها اللغة الفصحى؛ خروجا من أي أشكال. كما أن بعض المفردات بحاجة إلى توضيح وإن في الهامش، من مثل: كلاكيت، المسناية،
مفخورة، البستوكة، الكليشية، القوغ، الطارمة، وغيرها.
رواية «التانكي» ـ كما يبدو- كتبت للنخبة، فليس من السهل أن يفكك القارئ شيفراتها، أو يعـــــرف ماذا تريد، وكيف يجمع خيوطها، إلا إذا قرأها أكثر من مرة، أو قرأها بتمعــــن وأناة.
ولكن، النخبة لا تقرأ، ومعظمها مصاب بالورم، ومهما بلغ عددها، فهي محدودة قياسا بجمهور القراء الذي لن يقف طويلا عند رواية تستعصي عليه، وتتمنع عنه، وأمامه كم هائل من
الروايات العربية والمترجمة تدعوه وتغريه، وتفتح له مغاليقها، وتكشف له أسرارها بقليل من الجهد، وتقول له «هيت لك»! لا أقصد بالطبع أن تكون الرواية سطحية، مكشوفة، ولكن لعبة
مكعبات «الروبيك»، أو تركيب «البازل»، أو حل الأحاجي والألغاز، ليست في وارد معظم القراء، فالقارئ يبحث عن متعة أدبية، لا عن حل مسألة رياضية أو فيزيائية.
ومع أن الرواية تمتد زمانيا على أربعة عقود أو يزيد، إلا أنها مرت بسرعة خاطفة على الأحداث الجسام التي زلزلت العراق، ولم أشعر ـ كقارئ- بأثر الأحداث على شخوص الرواية
وانعكاساتها، اللهم إلا من آثار باهتة وغير مباشرة، كأن الأحداث كانت في الجوار، ولم تصب قلب بغداد، وقلب الأمة، التي ما زالت تنزف حتى اللحظة، ولم تستطع تجاوز ما حدث، وهل ما
حدث خير كله، أم شر كله؟
وبعد، فإن رواية «التانكي» التي تأهلت للقائمة القصيرة لجائزة البوكر للرواية العربية 2020، رواية مميزة، مختلفة، إشكالية، تُضمر أكثر مما تظهر، وتثير كثيرا من القضايا والأفكار
مثل: الوطن والهجرة، والعلاقة بين الشرق والغرب، والعلاقات الأسرية، والاحتلال الثقافي والعسكري، السلطات الحاكمة وتوابعها، والفن بشكل عام والعمارة والرسم بشكل خاص، والحب،
وغيرها، ومن هنا فهي حقل خصب للدراسات النقدية، وتحليلها وتفكيكها، كما أن ما تثيره من أسئلة، يستحق أن يكون محل عناية القراء، وإن تطلبت الجهد والوقت والصبر الجميل، فالرواية
بأسئلتها وما تثيره من عواصف في بحر الدماغ، ورواية بلا أسئلة ليست رواية ابتداء، وإن لبست ثوب الرواية زورا وبهتانا.

٭ كاتب أردني

https://www.alquds.co.uk/%D9%85%D8%AA%D8%A7%D9%87%D8%A7%D8%AA-
%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B1%D8%AF-%D9%81%D9%8A-%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A9-
%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D9%86%D9%83%D9%8A-%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%8A/