عالية ممدوح
1
كانت حمولة الطرد الكبير الذي وصلني من القاهرة ثقيلة بوزنيها النوعي والكمي ، وكان على الأقل من جانبي ، يحمل الجوانب السرية من حيوات ومطامح شبان / شابات لم يتجاوزوا الأربعين . ُكلفت بالتحكيم مع زميلين أديبين ؛ الروائي علاء الديب من مصر ، والروائي إلياس فركوح من الأردن . كان علينا أن لا نخذل هؤلاء الستة عشر كاتبا / وكاتبة من سوريا ، مصر ، فلسطين ، المغرب واليمن . بعضهم يحمل بذرة لعنة وورطة الكتابة ، وجميعهم يحلمون ، كما حلمنا مثلهم بالإعجاب والثقة والنجاح ، طبع كتاب أو عرض مسرحية الخ . الطرد مرتب منظم مبوب بصورة حرفية ومريحة جدا . كل شاب قدم أوراق اعتماده بالشكل التالي : الوضع الدراسي والمهني ، المجال الفني المقترح ما بين صفحة أو صفحتين ، يصف المتقدم تجاربه السابقة ، مواهبه ، مهاراته ، والعقبات التي تعترض طموحه ، ثم يصف المشروع الجديد ، الفكرة ، طريقة التنفيذ ، الفترة الزمنية اللازمة للتنفيذ والنتيجة المتوقعة له ، أخيرا الميزانية المقترحة بعملة البلد الذي يعيش فيه المتقدم . هذه خطة المنح الإنتاجية للمشروعات الإبداعية للشبان العرب لعام 2008 . هو مشروع المورد الثقافي ومقره القاهرة . مؤسسة غير ربحية وعمره بضع سنوات لكن نشاطه يحمل فولتية قوية الشحنة بدأت تزداد اتساعا في العالم العربي فيما منحته وأنتجته من مشاريع متوهجة في الموسيقى والسينما والمسرح في فلسطين على الخصوص .
2
مشروع يصيب الهدف بالمال والقوة المعنوية التي تحملها الشخصية الاعتبارية للمورد بكافة أشخاصه وعناصره الشابة ، ومن يقف وراء الستارة ليقدم مالا وعونا ليس كما الأطعمة المحفوظة أو المجمدة ما أن يتدخل فيها كيت وكذا حتى تكون قابلة للتلف أو أو … أتصفح ما أرسل قبل الدخول في المعمعة بالقراءة ذات العناية المركزة والأمانة المهنية ، والمزاج الرائق . حسرات ومرارات صعدت للحلق عن تلك الأعوام الأولى حين كنت أصغر من هؤلاء بكثير ولم أعثر في طريقي وبالمطلق على أحد أبدى ردة فعل بالكف أو التوقف ، بالحرق والمنع . كلا ، كان الأمر شديد القساوة من جانب الأهل والأقرباء وأنا أواجه بالإقصاء والتجاهل الذي لا نظير له ونتيجة لهذا يبدأ بعضنا الكتابة تحت اسم مستعار ، كحالتي وحالات غيري كثيرة ما زلن لليوم يختفين بهذه الطرق المواربة . الاسم المستعار تمرين يومي في المواجهة والعصيان ، والذهاب لطرق محفوفة بالمخاطر والتهديدات آتية من النساء أعنف وأقوى من الرجال ، على الأقل في حالتي . فعل الكتابة كان ذاته فعلا فاضحا كاشفا مفترسا سجاليا وغير مستعداً لبيع حرف من حروفه فكيف إذا سعى للحرية كفعل يوازي فعل الكتابة بأعلى سقوفها كلفة واستفزازية . للأمانة بدأت بنصوص الكاتبات المتقدمات لهذا العام ، ليس انحيازا قط وإنما لأنهن الأقلية .كانت بعض كتابتهن كالأسيد الكاوي ولديهن أساليب غاية في الطرافة ، والتهكم الماكر .
3
ستة عشر كاتبا يتوزعون ما بين : سبعة كتاب من مصر . أربعة من فلسطين ،ثلاثة من سوريا ، واحد من المغرب وواحد من اليمن . الشعر أغلبه من مصر ، كانت الفتنة الأخاذة هي التي أخذني إليها الشاعر المصري الشاب مصطفى الحسيني ، وحسنا فعل عندما أرسل لنا ديوانه الأول المنشور باللهجة العامية تحت خط الضحك والصادر عن المجلس الأعلى للثقافة في سلسلة الكتاب الأول مع مشروعه الجديد فرز ثالث باللغة الفصحى . قصائد عامية مخصصة للفقد والخذلان ، لوحشة الروح والموت كعمل أصلي وليس مضافا لأي شيء : “” كل شيء قبل الفضا ممسوح ، سماكي أهدا من وجودي . وأجمل المعرفة هيا اللي مش ف الإيد . لأنك مش محدد موقفك م الموت ، ودفء غايب ف الشتا وف الصيف ، أحلام تستوفي الشروط ، وبتتركن “”
الفلسطينية أحلام بشارات 33 سنة ، غضبها أسعد حالا منّا جميعا ، تكتب وكأنها تبحث عني ، عنّا جميعا ، لا تشدد على فلسطين لأنها مهددة ، لكنها تتحرك فيها لأنها الأثبت في الذهاب والإياب فتنادي وتراسل صديقة مغربية ، تم تعارفهما عبر النت . مراسلات بين كائنتين فكرة ساحرة وغير مطروقة إلا نادرا فهي تحاول الكشف عن عالمين عربيين ، فلسطينية تحت الاحتلال ومغربية مفتونة بإرث وتاريخ فلسطين . صيغة الرسائل المتبادلة مدهشة وعميقة . حين منحتها الدرجة الكاملة ، شعرت أن الرقم الكامل بخيل جدا .
4
كيف يكون التحكيم ؟ من أين تحضر النزاهة الروحية والأخلاقية ومن يفرضها خارج الوجدان الحي ؟ كان الخطر حاضرا ؛ إن اللاعدالة دائما موجودة ويحين موعدها في المخلوق البشري . وإن الاحتجاج على النتائج هو في بعض الأحيان هدف بذاته . قبل هذا التحكيم اخترت في لجنة التحكيم للصندوق الثقافي العربي لدورته عام 2008 أيضا لكنني انسحبت بعدما علمت أن أخوي قدما ، كل من مدينة للحصول على فرصة للمنح الإبداعية !.أعدت قراءة أصحاب الدرجة الأقل والأضعف موهبة ، وكنت أحاول التملص أو تأجيل القرار النهائي فطلبت منحي أياما إضافية لكي لا أخيب آمال نفسي بالدرجة الأولى . فكرت بالأصدقاء والصديقات اللاتي اخترن حكاما في جوائز عربية وكنت أسأل ؛ ترى ، لم لمْ أقرأ لناقد أو ناقدة مقالا نقديا فاحصا للكتب التي لم تفز لأسباب لها علاقة بديمقراطية النقاط ، لا بالجودة الفنية ولا بالذائقة المزاجية. لماذا لم يتصدى احد النقاد فيروي لنا ما حدث فعلا وراء الكواليس في اختيار هذا الكتاب أو رفض ذاك ؟ كان أحد النقاد مفتونا بأحد الكتب الذي لم يفز ولم يرشح وحين ألححت عليه قائلة : ترى ، لماذا لا تدون رأيك به . لم يجب بوضوح وشعرت أن ما قاله يشبه موسم التنزيلات يغيره حسب الموضة الدارجة !
@@@
كنت أشاهد ملامحي الأولى في قسمات أحلام أو أميمة ، رضوان أو عبدالله ، علاء أو محمد أو .. جميع ما وصلني من نصوص ، كان يمكن أن يبدأ بطريقة أخرى كما في جميع ما نكتب ، وأن تكون الخاتمة غير هذه أو تلك . ليس ثمة كتابة تمنح رائحتها وألقها إلا وهي تحمل قانونها هي . رشحت خمسة أسماء فاز منها ثلاثة . المواهب التي فازت مواهب صحيحة لشغيلة فعالين على نعمة الإبداع . صحيح هم فقط ستة عشر كاتباً ، ليس بينهم من العراق والمملكة السعودية ولبنان والخليج الخ . المورد الثقافي مشروع نفيس يحاول بصميمة رفع بعض الحيف والجور الذي يعانيه الموهوب الشاب من فظاظة وغطرسة بعض دور النشر العربية في علاقاتها مع الثقافة على الخصوص وهؤلاء الكتاب الذين اخذوا طريق اللاعودة للحرية ، التجديد ، والإبداع .
الخميس 25 جمادي الأخر 1430هـ – 18 يونيو 2009م – العدد 14969
https://www.alriyadh.com/438563