عالية ممدوح
1
أزعم أن معظمنا أعتقد يوما، وربما، ما زال، أنا واحدة من هؤلاء، إن هذا الزعيم مانديلا يخصه هو أيضا، لديه شارات تنبثق وتنفجر وتنظر إلى الأعماق، وهذه خصائص الحب الذي يوليه سيد العائلة الذي لا يتملص من واجباته، فإذا فكر أحدنا أن يرسل خطابا إليه سيجيب عليه، وإذا خاطبه سيحفل بأمره، وإذا ما استقل القطار وتوجه للقاء به سيقال له إنه بانتظارك. أستطيع بيسر ان أعلن عن مشاعري نحوه بدون استخدام العبارات الملحمية، وأصف
الحب والتقدير نحوه بأبسط الجمل التي يرددها المريد المفتون بالشيخ الجليل ولا تصيبني اللعثمة أمامه، هو قائد يسكن في ابتسامته الحيية الواقفة في منتصف الطريق بين السمو والألم الممض. يٌقبل نحوك بلا حجب فلا يرغمك ان تتلو أمامه فريضة نشيد
النصر، فهذا النشيد وذاك النصر لا يلبثان يتغيران، يتبددان ويمحيان. فالنشيد طويل، ولا يوحد في غالب الأحيان، لكنه يخيف فيدفع في كثير من الآحيان للحيرة والتشتت، والنصر، ذاك عسير، بعضه مبتذل، والآخر تدخله الاكاذيب والادعاءات.
2
مانديلا لديه ما ينبئنا به، ما يجعلني في حالة من التأهب للأصغاء النهائي إليه، إلى ما بقي وسيبقى من فرط قوته وصفائه لم تشبه شائبة وطوال عقود. حريته تتربص بنا فتدفع بي إلى مواجهة النفس وبالدرجة الأولى. الآمه المهولة هي مصدر هذه الفردانية ذات النبالة النظيفة والشجن المخيف، وهذا مما كان يضاعف عدد الأعداء والخصوم. عيناه حتى الأيام الأخيرة بقيت مصابيح طريق علينا اللحاق باشعاعاتها، أما قسمات وجهه فقد شغف بها الصغار والكبار، وتحملت ما لا يطاق فأخذتنا إلى الجانب الحقيقي من الحرية. في ساعة إعلان الخبر ومن على جميع المحطات العربية والأجنبية، وصفحة وجهه أمامي تتغير في الثانية ولمرات عدة. لم تكن براءته في خطر وهو خارج من السجن، ولا كان قد افرط في محبة الأعداء والقتلة ، بدا للجميع انه الخلاصة التي نظمت ودبرت وهو داخل سور الذات والسجن، ذلك الاعصار ؛ كيف تفلت من الكراهية؟ هذه الطاقة الجبارة، ليست في قدرة الجميع، قادة وعلى مر التاريخ، نخب وفي جميع العصور: “إذا ما بقيت اتدرب على الكراهية والغضب وأنا داخل السجن فأنني حتى إذا ما برحت اسواره فسوف لن اغادره قط”.
3
لم يعكر صفو وحدتي أحد فكنت انتحب بصوت خفيض وأدل على هذا الطراز من البشر، ثوري متبصر: “لست ملاكا وعلينا مراقبة ردات فعلنا قبل افعال غيرنا”، قائد شجاع شجب بضراوة إبادة العراق وشعبها وطالب بمحاكمة بوش، وبقيت فلسطين ونكبتها ذروة المأساة بحس اللامبالاة والعجز العالميين إزاءها. وفي لحظة جموح ناديته ب الأسطى وهذا نعت عراقي شعبي يستخدمه البناؤون الذين ينصرفون إلى صب الأرضية بتقنيات شديدة العمق والمناعة لكي تٌسد جميع الثغرات بأي فعل خارجي أو داخلي، الأسطى هذا بلغة السياسة والبلد كانت بعد الافراج عنه موثقة بفولتة مخيفة من الكراهية، وجميع الاطراف كانت، أما نصف عمياء، أو مضللة تماما، أو ايديها حاضرة للنبش في الماضي فقط. فكان المبدأ الذي سار عليه، إن لا يحرٌف الحاضر والمستقبل من أجل الارتهان إلى الماضي الذي كان الأشد شناعة وهولا في سياسة الميز العنصري فهو استغرق قرونا ثلاثة. كنت أصغي للذين تحدثوا عنه واسمع في كثير من الاحيان كلاما غير معتنى به لكنه شجي صاف وأمين، أما اؤلئك الذين احاطوا كلامهم بالكثير من الزخرفة البلاغية فبدت بعض اقوالهم مضجرة.
4
كان مانديلا يمتلك حسا إبداعيا ملهما وعلى قدر كبير من الاستثنائية والالمعية، فهو الوحيد الذي ادرك دلالة دعوته الصوفية، الشعرية وغير المصدقة في سلوك ما اسميه ب عناد التسامح مع الأعداء. كانت أشبه ببديل فعل الغيرية التام الذي حٌرم عليه، وحٌرم منه، فقذ ظنوا، ان السود ليس في مقدورهم امتلاكه. أظن هذا النوع من المقاومة مع النفس ومن داخل السجون التي تنقل وعاش فيها، هي ذاتها سنوات الخلق المطلق لمنتجات العظمة والارادة غير المنقوصة سنتيما واحدا في استقتالها عن فعل اللأانتقام، هو الذي وطده الزعيم ومنحه لي ولامثالنا، نحن أبناء وبنات السبيل الذي ما زلنا نرتدي الحداد ومنذ عقود. أبناء حتمية البغض والاقصاء، حتمية البلدان التي لا تعرف إلا التخلي والتبدد فتتفسخ وتأخذنا معها إلى… بالتأكيد كان للرجل حين استلم قيادة الدولة نتيجة الحياء الأخلاقي والضعف البشري اخطاء في الادارة والأقتصاد، فالبلاد كانت تغص في المجاعات والاوبئة، في الجريمة والمخدرات، في البغض والايدز.
+++
غاندي، مارتن لوثر كنغ، جيفارا ومانديلا، الثلاثة اغتيلوا بايدي من حاولوا تحريرهم من العبودية والذل، ولا أدري لم لم تحاول حكومة الميز العنصري تصفية مانديلا؟ الأغتيال كان سيحوله إلى بطل، وبالتالي إلى محج ومزار منظورا إليه بنوع من تأنيب الوجدان العالمي وقد يضفيان عليه صفات قد لا تكون موجودة، أو لم يتدرب عليها الرجل في جوهره وروحه وهو في العتمة، تٌرك الزعيم لنا، نتعلم كما علم ذاته استنشاق الحرية والتسامح من داخل الذات وهو مقذوف ما بين الشقاء والصراع الوجودي للقائد، فكل ما تتلفت إلى اليمين واليسار تشاهد وتصغي إلى وقائع ومدائح في الكراهية، في الساحات العامة وعبر الشاشات، داخل سرادق الحكومات وبين طيات ذقون ورقاب بعض الحكام، جاذبية الكراهية قاتلة، فهي جدول أعمال الدول، في علاقة المرأة بالرجل، والكاتب بنصه، وضد نصوص غيره، بالزوج لزوجته، والمدينة لأبنائها، للذكورة والانوثة… و… هذه الحياة المدنسة بخطيئة باهظة التكلفة تفتك بصاحبها بالدرجة الأولى، وقبل الآخر.
تدرب هذا الأفريقي الحزين على تلك الحركات التي كان يقوم بها حال سماعه بالنبأ، رافعا يده في الهواء وقاذفا جسده إلى السماء، كان في العمق يتحدث معه، يشكل جمله ويبعث برسالة. هذه لغة المخاطبة التي لا نعرفها على هذا الشكل الذي يناجي ويلوذ بالصمت، أداها البشر في جنوب أفريقيا ومن جميع الأعمار. كانوا في حالة من الوله اللانهائي للغائب. علي تعلم إداء هذه الحركات حين اضيق ذرعا بأحد، حين أٌترك وأٌهجر، وحين ينفطر القلب نهائيا والصقيع يغطي العالم على كل هذا الموت الطويل للمحبوبين الذين غادروا أيضا، أحمد فؤاد نجم، ورافع الناصري….،.