في بيت فرويد

عالية ممدوح

أمام الجنينة الصغيرة، المشذبة بصورة متقنة كان البستاني يقوم وينحني بهدوء وكأنه يتجاوب مع لا وعيه الرعوي لكنه مع هذا يواصل عمله بهمة ونشاط وهو يشاهد وفود البشر ومن الجنسين تتكاثر في ساعات بعد الظهر من ذلك اليوم الربيعي الجميل. لا ندري ان كان على علم باسم صاحب هذه الدارة والتي تعود لأشهر اسم في التحليل النفسي ؛ فرويد وفقط. بيت العائلة هذا واحد من عدة بيوتات سكنها العالم النمسوي والذي تنقل بين عدة مدن أوروبية، لندن أحداها. المظاهر الخارجية كانت لا تشي الا بطابع عائلي محض، اما الداخل الصارم الداكن فقد شعرت، على الأقل من جانبي، انه كان يحاول إعادة بناء عالم منهار. اما تلك الأريكة الشهيرة والكرسي الصغير بجوارها وطيف الطبيب الأشهر يدون ملاحظاته وهو يرتدي ملابس ذات لون ثقيل ونظارة طبية صارت هي أيضا الأشهر كموضة، فقد بدت لي بالرغم من عتقها الشديد بأنها مثلت أعظم اكتشاف لقارة مجهولة وأظن انها لا زالت هكذا تدعى؛ النفس البشرية. لقد انتظرت طوال أعوام دراستي الجامعية لفرع علم النفس لكي أتجول بين متاع وأسلاب ومقتنيات هذا الحكيم لكي يسمح لي بالتحول إلى شريك لا يزال يتلجلج لكنه غير متواطىء مع ما تعلمه ودرسه. كنت أحاول تجنب العبارات المألوفة التي درج الناس على استعمالها في حضرة ذلك الدكتور الذي طوح بتقاليد مرعية ثابتة وراسخة دافعاً بها إلى ذلك الموقد النظيف في صالونه الأنيق والمعتم حارقاً مراهقة رخوة وشباباً بائساً، أما الطفولة، فقد انتزعها من خلوتها الدفينة وآمن باندحارها من جراء هولها الشديد. كنا أربعة، الكاتبة الفرنسية هيلين سيسكو، ماريا الفنانة التشكيلية من أصل بولندي، اريك الطالب الامريكي للدراسات العليا في فكر وأدب سيكسو وأنا. لسنا وحدنا بالطبع نتجول بين طابقين من بيت ذلك العالم، كما لو كنا نتبادل التهاني ما بين الوعي المرير القاتم والملعون لنا كلنا، كل حسب كوارثه وأزماته الروحية وما بين اللاوعي الذي سبب لأهالينا قبلنا النوبات الارتجاجية في شروط التربية، ولنا معظم تلك التحولات الآثمة، هكذا كان يصمنا الأهل والأقارب والمعلمات الخ. شعرت بوحدة مضنية دامت طوال الساعتين وقت الزيارة لتلك الرموز الأولى، وهي تفك ألغازها أمامي فأصير أكثر استعداداً، أن أشم رائحة الأب والزوج والرجل أكثر من جميع التحاليل النفسية. هواء الغرف كان يعرض اهواء وطباع ومزاج فرويد وجوهر شخصيته في الأثاث المعتم الصغير الذي يلائم بنيته المعتدلة، وبين مقتنيات فرويد؛ أكثرها أقنعة وتماثيل وصور حقيقية من أفريقيا على الخصوص من مصر الفرعونية. كتل خشبية، لوحات مؤطرة ما ان تقترب منها حتى تبدو أنها ستفر من بين أبصارنا وهي تنظر إلى معبود ناء مفرط في جموده. قطع من النقود، سيوف عربية، أشياء غريبة، كتابات اغرب قديمة آتية من دهور سحيقة، أخشاب أبواب أوراق أجراس، سكاكين، شالات، مناديل، أوراق شجر جاف، قطع من نقود لعصور عدة، دقات قلب متوحد ومتروك وحده في هذه الأمتار من غرفة التحليل النفسي، قلبي. كانت الغرفة كأنها ستطبق على روحي، عينا بعين مع فرويد وهو بيده عدسة مكبرة، يكبرني أمامه ألف مرة ويخترق سقفي وينتزع أناي التي لا زلت أريد التعرف عليها. شعرت ان الرجل لا يعرف كيف يحّرض مرضاه جيدا، انه أسطورة لتراث الأخذ بالثأر من اقدار دموية آفلة. كنا، نحن مورد رزق هذا الطبيب العبقري فبقي يطلق علينا أسماء مستعارة فنولع نحن بالكذب الحقيقي وهو يعتتقد انه يخدمنا في الصميم. كانت الموجودات تحمل ما يقارب قرناً من الشجارات والمشاحنات والحروب بين ما يسمح به المجتمع الكنسي والمدني وما تم الطلاق بينه وبين ضروب النفاق والتدليس الذي كان يخبىء وراءه الفرد من جهة وباقي المؤسسات من جهة ثانية، أما اللذة، ذلك القانون الذي كشفه باحتراس شديد فكان وقعه كالصاعقة وعلى الجميع بدون استثناء. كل الامكنة التي مررنا بها كانت شحيحة الإضاءة، الوان الاثاث هي الآخرى يتداخل فيها القهوائي المحروق والرصاصي المسود، ألوان تغلق الستارة عن البهجة أو العذوبة فهي تكرس نوعاً من متاع الألم وذلك العبث الجارف الذي كان يضربني ويخيل اليّ أنه ينتظرني أن أقول آه وهو يطلق سراح عموم ما رقد وسكن بين الجوانح. حين دخلنا الغرفة الصغيرة لمشاهدة الفيلم القصير التسجيلي والمحشو بالوثائق عن بعض مراحل من حياة هذا العالم مرت بجواري الكاتبة والنحاتة والصديقة اللبنانية مي غصوب وصديقتها، تنفست الصعداء وأنا أهتف بصوت مخنوق، عال صرنا اثنتين من العرب العاربة، فماذا لو عاد معنا هذا الفرويد طيب الله ثراه إلى تلك الندوة التي اقامها وحضّر لها معهد الدراسات الآسيوية الأفريقية في جامعة لندن وكان عنوانها المتلألىء – الجندر والأمة – واشترك فيها نخبة لامعة من باحثات وباحثي آسيا وأفريقيا والولايات المتحدة وأستراليا وأوروبا فالجندر الذي توثق في عشرينيات القرن الماضي وتوج امبراطوراً حتى لو كان كسير الفؤاد كشف في تلك الندوة انه مجرد ورقة شجر تتطاير ما بين سياجات عدة. الجندر، ليس هو الفعل الجنسي وحده الذي جعله التحليل النفسي مجرى الوجود حتى لو جرف معه الكثير من العقبات بعنف وأذية، والجندر ليس هو نتاج مظهر طبقي تحدده التحولات الكبيرة في منظومة اقتصادية ويكمن في رؤيتنا للعالم، الجندر كل هذا وأكثر، أكثر بشيء متعمد إذا ما وضع بجانب كلمة الأمة. خيل إليّ وأنا اشتري كراسة عليها صورة فرويد الأشهر، أنه سوف يلتفت صوبي ويسألني عن والديّ على سبيل المثال اللذين شرّحت حياتهما من أجل سلامتي الروحية فما أصابني منهما الا اللعنات ولا زالت الروح في ورطتها اياها ولم تبرأ بعد.

الخميس 20 من ذي القعدة 1426هـ – 22 ديسمبر 2005م – العدد 13695
https://www.alriyadh.com/117293