هل يوجد غرام براغماتي؟
الغرام هو حب الشيء لذاته من غير بحث عن منفعة أو تغليب لمصلحة. ولا يكون، كما يقول القدماء، الغرام أو العشق إلا عن تخالص القلوب وتعارف الأفئدة واعتدال الصورة وصفاء المزاج واستواء التركيب والتأليف.
ولكن هذا من الماضي، أقصد هذا التعريف للغرام. وفي حالة الاستقرار النفسي والعاطفي والمكاني والاعتدال بلغة القدامى والاستواء، وكلها لم تعد موجودة، وليست مفيدة للسرد، وللرواية في شيء، على الأقل كما تريدنا عالية ممدوح أن نفهم من قراءة روايتها “غرام براغماتي”. وهي تقوم على الاختلال المعلن عنه، والمسيطِر على عالم الرواية كلها، ابتداء من الهوية مرورا بالذات وانتهاء بالعالم. فعلى مستوى الهوية “راوية” الشخصية الرئيسة، نصف عراقية تعيش في باريس وتحب “بحر” نصف العراقي. ورواية منشدة. وبحر مصور فوتوغرافي. هي منشدة بمعنى نصف مطربة. إنها تؤدي الكلمات وتسعى إلى التماهي معها لخلق التأثر اللازم في المستمع بعد أن تبذل جهدا استثنائيا في ذلك. حتى أنها تقوم بما يشبه الدورة التموزية العراقية القديمة. تكاد تموت (أو تموت) فتنبعث. وكما قال عنها أحد أصدقائها: تشعر في إنشادها أنها تكاد تنتهي فتنهض من جديد. إنها في هذا أيضا، نصف حية ونصف ميتة. نصف متفوقة ونصف فاشلة، نصف تامة ونصف ناقصة. ومثلها بحر الذي يفشل في دراسة الهندسة المدنية فيترك الكلية إلى التصوير الذي لا ينجح فيه تماما، فيده مهزوزة الأعصاب، تخرج صورة مهزوزة. ولكنها، كما يقول صديق لبحر شاهد معرضه، تناسب ما يريد بحر أن يعبر عنه، وما يريد المشاهد أن يراه.
إن مشكلة النصف في كل شيء، هي مشكلة المنفي ومشكلة المثقف ومشكلة الفنان العراقي الذي يتوزع بطريقة مؤذية ومؤلمة إلى نصفين في كل شيء. فلا هو هنا ولا هو هناك. ولا يتم له شيء. ولا يستطيع أن يرضى بالنصف الموجود عنده.. لينتهي من كل ذلك إلى حالة القلق والاضطراب والتشتت والحزن واليأس والحركة المستمرة التعيسة نحو امتلاك النصف الغائب والوصول إلى التمام بدل الرضا بما هو موجود والاستمتاع به. وهو ما يحوّل الحب والغرام إلى وسيلة، وسيلة لتعويض النقص وتداركه وتحقيق التمام المستحيل وذلك ما تقوم به راوية ويقوم به بحر. فهما يبحثان في بعضهما عما يتمم كل واحد منهما على حدة، لا عما يتممهما معا، ولا عن المتعة أو الحب والغرام في ذاته.
يعبر هذا التمزق في الهوية والذات والمشاعر في رواية غرام براغماتي لعالية ممدوح عن الواقع الذي يعيشه عراقي المنفى الذي طال به المنفى وتحول إلى حقيقة يجب أن يتقبلها ويتعايش معها ويتحمل عبئها النفسي. ومن الناحية الروائية يوظف هذا التمزق وما نتج عنه من حالة النصف نصف بتعبير الرواية، في إنتاج سرد أكثر حساسية للعالم. فهو لا يتماهى مع العالم ويقبله كلية وبدون أسئلة أو اختيار. وإنما العكس. هو يتوقف أمام تفاصيله، حتى أصغرها، من رائحة أو طعم أو صوت أو شكل، ليأخذ منه ما يحتاجه إلى إتمام ذاته، وإنتاج سرد يحتفى بالذات أكثر من الاحتفاء بالواقع وتفاصيله وبالآخرين. ويحتفي بطموح الذات، لتجاوز العيوب والقيود التي تقف دون بلوغها درجة الكمال، على الأقل، في الوعي والحس والتعامل مع الحياة والواقع. وهو باختصار شديد، ما يحتاجه السرد، وما تحتاجه الرواية، وما يحتاجه – من بعدُ – القارئ.