سلالم النهار.. والليل

عالية ممدوح
1
“”يعني ياولد أختي، الإبداع في هذا البلد لم يأت من ذوي الدماء الزرقاء أو الأصول الأصلية، بل كلها جاءت من الدماء المختلطة، ولولا هذا الاختلاط ما وجد عندنا فن الموسيقى ولا فن الرقص””. لعل هذه إحدى ثيمات رواية الكويتية فوزية شويش السالم؛ سلالم النهار الصادرة هذا العام عن دار العين للنشر في القاهرة. تحاول الكاتبة ان تقطع وتقص الاسلاك الشائكة في بلدها لكي تتسلل حينا إلى ما تقدر عليه في مسألة البدون وإذا ما توغلت عميقا فنصطدم بصفحات في الأخلاق والتدين، في الرقص والتفاوت الطبقي والاجتماعي والثقافي. “” في رقبتي. لا يا ولد أختي، أنا بدون ولا يحق لي استيرادها. المستورد لها هو مكتب عمك، وهو المسؤول الأول والأخير””. عائلة مشطورة نصفها مكرسة بالأوراق الثبوتية فبدت حركة اقدامهم ثابتة على الأرض. والنصف الثاني كل شيء فيها مترجرج وهش وفي أية لحظة ستقتلع وترمى للخارج. فهدة وضاري هما النصفان. ضاري وشحنة اسمه وجبروته المالي والطبقي والوراثي، وفهدة لا تملك إلا غواية اسمها وجسمها وعزيمتها في التعليم والاعتماد على النفس. ارتباط الضرواة بالعرامة ولو على شكل زواج سري فيما بينهما، وأي انكشاف للسر هو ذاته نوع من الانفصام في الشخصية الفاعلة، اي ضاري نفسه.
2
المؤلفة بيدها كاميرا دقيقة وحساسة مرة تكشف هرمية المجتمع وطورا تنزل إلى قاع البشر وللبيوت والحواري الضيقة والمعدمة. وهي مولعة بالوصف المباشر والشرح الطويل الذي يصل في الكثير منه إلى الوعظ والارشاد وتأكيد للبديهيات: “”الحب المسروق يعني وساخة. هذه العلاقات هي أصلا هاربة ومهربة من سجن الحلال. تتدخل فوزية كثيرا في جميع التفاصيل وتفسر الاضداد. كنت أود ان أرى الوقاحة في فعل سلوكي لا في توصيف براني لها فنلاحظ تدخل المؤلفة في نوايا وسرائر الآخرين. تجوب هناك وتحسم الحالات ما بين الآثام والغفران. تعيش فهدة الشهوات إلى أقصاها وحين يموت ضاري وبطريقة غير مقنعة سرديا أو نفسيا تنتقل فهدة وبغتة إلى طريق الهداية والاختفاء عن العالم ذاهبة في بقعة جد جميلة في جبل شاهق من سلطنة عمان. انتقالات دون أي نوع من استعداء أو إيحاء للقارىء عن ميول فهدة التي تتلاطم داخلها فتدعها تتبرأ من زواجها الخفي واستيهاماته في باريس معها هو ابن الحسب والنسب. أظن ان موضوع البدون يحتاح إلى رافعة توثيقية وإجرائية وتاريخية شديدة الصرامة والدقة والوضوح ويمكن بواسطتها ان تدع حيوات ومصائر الاشخاص في هذه الرواية يتحركون ويختلفون، ينجبون ويختفون والجميع يدفع الثمن.
3
يلزم الأمر هذا وغيره الكثير جدا لكي نقترب من ذوات اولئك الذين شرعت قلوبهم أمامنا المؤلفة لكي نستمتع بشغف فهدة وضاري حين يدربها على فنون الفحش والغواية وهما داخل السرير الزوجي: “”المطاردة بحد ذاتها فن، والخوف منها من أحلى مشهياتها. أناي الغامضة تحدد وجودي وتشكل مصيري كله””. أشكال واوضاع الجنس المشهدي القوي وعلى هذا النحو المشبوب في الكتاب بدا لي أيضا هو الآخر نوعا من البدون لم يتم على سرير ثابت، ولا عن اقتناع بغواية منجزة. كان تكراره نوعا من المرض أو القصاص من ابنة عمه فهدة. شاهدت البدون نوعا من كرنفالية واستعراضية وبها شيء من التشفي لا المتعة ولا اللذة أيضا. ربما هذه الثيمة المركزية التي استطاعت ان تقلب الأمور، ليس في النص الروائي فحسب، وانما في الحياة فيما إذا حبلت فهدة من ضاري ستظهر البذرة الدفينة إلى العلن وتثمر وتتحول إلى برعم / ولد يشتغل طوال اليوم امام النت باحثا عن ملاذ آمن عبر العالم الافتراضي. فوزية السالم في سلالم النهار قتلت ضاري بميتة سبق وسمعنا أو قرأنا عنها في الصحافة العربية وقبل سنوات، يموت وهو في حالة وصال. حسنا فعلت ان اخرجت ضاري من النص مبكرا فدخلت هي إلى جنة التصوف وبما يليق من حالات التأمل في جميع ما مر عليها وهي في ذاك الارتفاع الشاهق وقريبة من الرب.
4
عناوين الفصول آسرة وتشي بما يمنحنا إياه الفصل من مسرات أو غصص: الرقص، فهدة، أبو الكلام، الأيام معه، الحب كالفلفل، جدتاي، أستاذ الخواتم، مشهيات أمي، ليلة الخلق، عمي جاسم وخالي مرداس ننه، الغول الساكن بي، الروح في معراجها، خالي الرشوش، ابني مفكر، سحابة سوداء، التفاتة. الكتاب يمشط ازقة وجادات، فيلات وبنايات مدينة الكويت وما حولها. نشاهد ونسمع أنين الوافد والمقيم الفقير المعدم. كما ان هناك صفحات مهمة جدا عن اولئك الذين حولوا البلاستيك والاطارات التالفة، وتدوير الزجاج.. وكيف حولت بعضهم إلى اباطرة فعليين يتعاملون بالمليارات: “”الموضوع بكل بساطة كالآتي؛ المادة الناتجة من اشرطة نيجاتيف الأفلام المنتهية صلاحيتها، والمحمضة مع المواد الكيمائية بالفرن ستتحول إلى فضة بعد سكبها. كل كيلو فضة سينتج منه 10 غرامات ذهب”” اشتغلت فوزية على هذه الجوانب فاضحة موثقة بمهارة عالية وهي تقوم بخلخة طبقات المجتمع الكويتي فتدور المفاتيح ونحن نسمع ماذا يجري وراء الأبواب المصنوعة من الحديد المسلح.
*****
من الجائز قراءتي ستبدو بها جروح شتى بسبب عراقيتي، لكن سلالم النهار رواية كويتية جميلة ومعذبة. سمحت المؤلفة لنفسها وسردها وبتأثير ضغط الإبداع لا غير الدخول لقاع القاع في بنية اجتماعية ليست كويتية فقط وانما عربية أيضا بالكشف العاري المرير لمخلوقات تلك المجتمعات وهي تثرى وتدمر ما حولها لأسباب تقليدية آتية من أزمات وأوقات فات اوانها. تؤكد الرواية وجودها فتدون فقرة عن اختلاط الدماء والانساب، الريق واللعاب واللعب:
“”تفاخرت به جدتي علنا أمامي لتبين لي ان دمي ليس مثلهم صافيا ونقيا. قال: خرافة الدم النقي””. هي الهجنة ذاتها وفي جميع ثقافات العالم التي تقدم الفنون والموسيقى والرقص والغناء والازياء والسينما، وهي أيضا التي تتواصل مع مخلوقات ثرية تؤمن بالاختلاف والتعدد ولا تنكفىء على ذاتها فقط، وانما تراقب وتحلل وتتأمل وتدون عملا جريئا كهذه الرواية فلا نستغرب إذا ما صودرت من معرض الكويت الأخير.
الخميس 12 شوال 1433 هـ – 30 اغسطس 2012م – العدد 16138

http://www.alriyadh.com/763925