عــالية ممدوح
في الغابة الأميركية : – نقرأ للبعض وننسى البعض الآخر –
اكتشفنا في تلك الغابة، أننا لم نقرأ لبعضنا الآخر إلا قليلا، وربما لم نقرأ قط . هذا حصل ويحصل مع بعضنا أيضا، وفي الغالب مع زميلاتنا وصديقاتنا، الكاتبات وفي عموم العالم العربي . إنني أتحدث بأمانة، على الأقل ما يخصني، فانا أثابر بصورة حارقة، للبحث في المعارض، في الرحلات الطارئة، في مكتبات الصديقات وأنا أستعير اسم كاتبة جديدة لم أسمع بها من قبل، أو أي كتاب لم يصادف أن اقتنيته للأسماء المعروفة . لقد كتبت عن عموم ما أحببت وشغفت به من كتب للكاتبات العربيات . كنت أعمم جمال الكتب وأصرخ بكل صوتي عن هذا الكتاب أو ذاك . كان تأثير الكتاب الجيد يحتفظ بلحظات من الانفجار والسحر وأدري أن إحدى الطرق لفك ارتهان كتابات المرأة العربية عن الصمت أو الاختزال والتبسيط الخ، هو وعلى أقل الاحتمالات سوءا، التحدث عن كتابها الفلاني ، التنويه به، الاحتفاء ببعضهن كنماذج تحاول انتاج واعادة كتابة ذاكرة مجتمع ومدن عربية بأكملها . ان مجمل استراتيجية الناقد البارز عبدالله الغذامي، والدكتور صبري حافظ وفي بعض الاحيان، العراقي حاتم الصكر الخ ، ترصد وتحلل وتنتج هي ايضا خطاباً مغايراً للمألوف والسائد في الرواية العربية، وعلى الخصوص الشعر . لكن الغذامي أحد النقاد الذين ذهب بعيدا وعميقا في طبقات التاريخ واللغة العربية، في التحليل الباهر للدغات السم وبمقادير كبيرة وهو يراها تضخ في شرايين مجتمعات وذاكرات عربية تدفع بكتابات المرأة العربية، اذا لم يكن للنقد الجارح ، فإلى الإهمال والاقصاء كافضل السبل . احضرت معي كتاب (المرأة واللغة) للغذامي لكي يعينني على زماني وزمان الكاتبات العربيات ونحن نقدم انفسنا وانشطتنا وخبراتنا أمام جمهور اميركي لا يعرف عنا الا الأفكار المسبقة الحاشدة بالاغلاط . لكن الكتاب ذاته شوشني وشطرني وعلمني برفعة قل نظيرها، ليست جميع فصوله بالطبع، ولست في صدد الكتابة عن هذا الكتاب في هذه الحلقة الا، لأننا كنا ثلاث من ست كاتبات نعرف ونقرأ للغذامي، نتحدث عن انتاجه ونفطن أننا لم نوافق على هذا ونصفق لذاك، رجاء وشادية عالم وأنا . أتذكر أنني سحبت كتابه من مكتبتي وبلا وعي ووضعته في حقيبة يدي المغادرة إلى الولايات المتحدة . أقرأ بحوثه وأنا في الطائرة وأردد معه أو ضده، ان هذه اللغة – العربية – لا تقول لي نعم الا بشق الأنفس، حدودها صارمة وتحسن غالبا ان تكون ضدي فتجعلني أبدو مهلهلة، وبسبب هذا علي أن اواصل الكتابة . فأنا أظن حين نكتب علينا نسيان أن هذه اللغة لغة الفحول الفاتحين والمهزومين الاغيار الذين لا أمل في اختراقهم أو ارباكهم أو زحزحتهم، الخ وهذا حديث آخر لمناسبات قادمة . كان الوقت في الغابة الاميركية يتشكل من رؤى خادعة، ويوهم بأمور واشياء لا أدري أن كان هو عالم كل واحدة منا؟ . هنا الزمن كان يمشي باسترخاء لكنني أشعر انه يتشابك بشيء ما، بفضولي الثقافي والإنساني . فسألت الكاتبة المصرية ابتهال سالم فيما إذا جلبت معها أحد كتبها فانا لم أقرأ لها قط . أطلقت ضحكة مجلجلة وهي تسلمني روايات وقصص صديقتيها الكاتبتين المصريتين : سحر توفيق وروايتها الأخاذة نزلة السمان، ومجموعة قصص للكاتبة صفاء عبدالمنعم، التي أذهلتني مراراتها الطافحة وقوتها الجارحة ، ابتهال تملك أخلاق فنانة صحيحة مائة بالمائة . أخيرا قالت باستحياء : هذه كتبي، روايتان ومجموعة قصص قصيرة ترجمت للانكليزية،ولقد دعيت إلى إلقاء بعض قصصها القصيرة على الجمهور الأميركي ولاقت قبولا وإعجابا ومبيعا . روايتها نوافذ زرقاء عمل يحمل نضجا فنيا لافتا وتشابكا في العلاقات ما بين الذكورة والأنوثة . يا للغرابة، فرواية رجاء عالم خاتم سحرتني وأنا اقرأها في الغابة أيضا . فالذكر خاتم هو الآخر شخصية ملتبسة ما بين الذكر والأنثى كما في رواية ابتهال ولا أدري هل تأثرتا برواية فرجينيا وولف الذائعة الصيت ( اورلاندو) ؟ لكن شعر الشاعرتين العراقية الكردية شومان هاردي والفلسطينية – الأميركية سهير حمّاد، يحملان شجنا وحماسة وألما، فالمظالم التي تعرض لها الشعبان كانت فادحة . لكن ليس جميع من يتعرض شعبه للإبادة والطغيان ينتج كتابه أعمالا مميزة أو قوية . الغريب والجميل، أن الشاعرتين قدمتا قصائد ممتازة كتبت بالانكليزية التي تجيدها الشاعرتان بشكل افضل واغنى من العربية . شومان أصلا أحضرت معها إلى الغابة مشروع كتابها الجديد بترجمة الشعر الكردي إلى اللغة الانكليزية، ثم صارت تؤلف بهذه اللغة رأسا فهي قد نالت الدكتوراة من احدى الجامعات البريطانية . الملاحظ لقصائد شومان هاردي، انها لا تشي بريح الضغينة والبغض – للعرب – . وسهير حماّد بدورها تحاول مخاطبة الشعب الاسرائيلي والاميركي والعالمي بمفردات وتعابير خالية من أي نوع من انواع الكراهية، تدعو للتسامح والرحابة فعلى الطرفين فعل ذلك لأنه الحل الامثل للجميع ولكن لا تنسى جميع ما تعرض له الشعب الفلسطيني من جرائم الاحتلال والإذلال والفظاعات المستمرة . فلنقرأ للشاعرتين هذه النصوص :
مطبخ أمي – لشومان هاردي
أنا سأرث مطبخ أمي،
اقداحها، بعضها طويلة ورقيقة
وبعضها قصيرة وغليظة .
صحونها، مجموعة بشعة من أطقم مختلفة .
الفناجين، ابتاعتها بسرعة،
وفي مناسبات مختلفة .
الطناجر الصدئة التي لا تحتمل رميها،
لا تشتري أي شيء بعد،
تقول أمي،
قريبا كل هذه الأشياء سوف ترثينها أنت،
أمي تخطط لرحلة أخرى
لأول مرة، الوطن، هو الهدف .
البيت الذي يعاد بناؤه والذي
سوف توثثه،
في عمر 69 لديها الانخطاف،
للبدء من جديد،
هذه المرة التاسعة،
لم نتحدث ابدا عن اثاثها الضائع
حين كانت تترك منازلها،
هي لم تحزن لفقدان الموجودات،
الا للعنب في الحديقة
الذي كان يتدلى على الطارمة،
كانت تغني لكي يتم نضوج العنب
وتخيط اكياسا من القطن لحمايته
من الزنابير
أنا أعرف أنني لن أرث ابدا أشجار أمي
__
صلاة أختي / لسهير حمّاد
ترفع يديها الاثنتين
وتثني يديها على صدرها .
اليمنى على اليسرى .
وتبدأ الكلمات العربية .
فؤادها يخفق وينتفض
فترفع يديها، مبشرة بالآتي،
متواضعة وعارفة،
هنا، لا تحتاج إلى حماية .
لا تنحني أمام أي رجل
تنحني وراء رجل،
عارفة ان الملائكة سوف يرفعونها إلى السماء .
تنحني على البسط والسجاجيد،
الكارتون والارض،
تصلي جائعة، مريضة، ومكسورة،
كل الوقت تدعو للاكتمال والبهجة .
إنها ابنة سارة،
انها ابنة هاجر .
ومثل والدها إبراهيم
خيمتها مفتوحة من جميع الجهات .
والرياح تنقل صلواتها
ومن كل جهة تصلها النعم .
من الاشجار والاحجار.
من المحيطات والمرتفعات
تجلس وحدها وتعرف،
انها واحدة من مجموعة
تدري أن لا أحد سوف يتوسل لها
فكل الوقت تدعو للمحبة والرحمة
تجلس وحدها، مع تفاصيل يومياتها،
تجلس وحدها، بقامتها وجبهتها
منتظرة العناية الإلهية .
الخميس 27 رجب 1426هـ – 1 سبتمبر 2005م – العدد 13583
https://www.alriyadh.com/91244