“عالية ممدوح” اسم روائي كبير في المشهد الأدبي العراقي، كانت بدايتها في الإعلام كرئيس تحرير لصحيفة “الراصد” في سبعينيات القرن الماضي، لتنتقل بعدها إلى صحيفة الرياض في بداية الثمانينيات، ثم تغادر العراق في سنة 1982ولم تعد إليه أبداً، وعاشت رحالة بين عواصم شتي كـ “بيروت” ” الرباط” ” مونتريال” “كارديف” “الرباط” وأخيراً “باريس” التي استقرت فيها إلى يومنا هذا. بداياتها كانت مجموعة قصصية بعنوان “افتتاحية لضحك” ثم توالت رواياتها ومن أبرزها “ليلى والذئب”1980 “حبات النفتالين”1980 “الولع”1995 “الغلامة “2000 “المحبوبات” 2003 والتي توجت بجائزة نجيب محفوظ لرواية “التشهي” سنة 2007 “الأجنبية” سنة 2013 واخرها” التانكي” سنة 2019 عن دار المتوسط، والمتصدرة للقائمة القصيرة لجائزة البوكر.
“التانكي” المعني المزدوج بين الحقيقة والمجاز:
بخلاف جميع متون عالية ممدوح السردية، جاء سرد “التانكي” مختلفاً يحاكي أوجاع العراق، مُتماهياً مع تفاصيله عبر مراحل عدة تمتد منذ دخول أول بعثة تبشيرية متمثلة في الآباء اليسوعيين إلى بغداد سنة 1926 وصولاً إلى الاحتلال الأمريكي سنة 2003 ومخلفاته.
“التانكي” عزفٌ̕̕ علي وترِ الأمكنةِ المستلبة من أشخاصٍ حكمت عليهم الأوضاع المضطربة للبلد بالنفي أو بالنزوع إلي العزلة. إنه النسيج الروائي المتناثر الذي ينسج فيه جميع الشخوص الخيوطَ حول نول الحكاية لفترات متباعدة ومتقاربة.
ومفردة “التانكي” كما شرحتها الكاتبة في لقائها مع الصحفي “جمال بدومة” في برنامجه “الثقافة” على فرانس 24 “بأنها خزان الماء الذي يوضع في السطوح من أجل الاستحمام والاستعمال اليومي في القاموس العراقي، ومجازاً خزان الذكريات الدفينة “بخلاف ما هو متعارف عليه أنه شارع يقع في حي الاعظمية وهو من أكبر أحياء بغداد ويضم قبر الإمام أبي حنيفة النعمان، جمع خيرة النخبة العراقية من أدباء وشعراء وفنانين، أساتذة جامعيين وشخصيات دبلوماسية .
تداعي حر لأصوات كثيرة:
من الفصول الأولى للرواية يتبادر إلي مخيلة القارئ بأنه أمام مسالك سردية ملغزة فلا بطل وحيد بنت عليه الكاتبة تسلسل أحداث الرواية؛ بل أرادتها رواية الجميع؛ يدلون باعترافاتهم بعفويةٍ تامة، وبلا رقيب أو محظور: يستحضرون حنينهم لزمن مفقود عن طريق رسائل يكتبونها إلي الطبيب النفسي “كارل فالينو” بواسطة صميم وهو صديق للعائلة بهدف معرفة مصير ابنتهم “عفاف أيوب آل ” وهي التشكيلية التي غادرت بلادها إلي “باريس” لغاية إثبات ذاتها وطموحاتها الفنية. يستنطق “صميم” جل أفراد عائلة “أيوب آل” الوالدة “مكية” الوالد “ايوب ” الخالات “سنية ” و”فتحية” والعم “مختار” بالإضافة إلى أصدقائها النحات “يونس” والمعماري “معاذ الألوسي ” يتدفق كل واحد منهم سيلاً منهمرًا من الشوق لجزء مبتور من جسد أسرتهم الفتاة النابغة “عفاف” التي خطفها المنفى وجعل صورتها تؤول إلى التلاشي في مخيلاتهم.
“هيا ابدؤوا رواية القصة حالاً. ابحثوا عن ابنتنا. فوقت اختفائها لا يقاس بدورة الصبا والشباب، ولا بدوام الصحة وتوهم المرض …هيا قوموا بالغناء مثلها أو الهمس مثلنا وليردد الصدى ويصل بلاد الفرنج المشؤومة التي ضللت ابنتنا ” الصفحة 16
رمزية المكعب:
تتعمد الكاتبة إدخال جزئية المكعب إلى تفاصيل ماضي “عفاف”: وهو الشكل الهندسي الذي استعارته من صديقها المعماري “معاذ الألوسي” بحيث كان مشروعه وحلمه الذي وضع فيه كل أسراره، ورغباته والأشخاص الأقرب إليه، وقدوته في الحياة وكل ما هو شديد الخصوصية وهي رؤية “عفاف” تقريباً لأن يحمل المكعب من تحبهم لوحاتها، أغانيها وأحلامها كاملة مكتملة، وأكثر ما يقال عنه ترميز وتمويه بإعادة بناء عراقٍ جديد، واستعادته من مخالب تجار الدم وسماسرة الطائفية الذين مزقوه، وأوهنوا نَفس الفكر والحضارة، أو قد يكون الحصن المنيع الذي تضيق فيه مساحة القبح والكراهية، ويتسع أفق المحبة والجمال بجمع شتات النخبة التي شردتها المنافي وقضت عليها العزلة، والخوف من الموت المحقق أو القضاء في غياهب السجون:
“هذا المكعب قيمته في قبول الانشقاق علي كل شيء، وكسر كل شيء فيرغب كل واحد منا في أن يكون مكعبه، ويريد امتلاك البرهان علي ذلك أن لا يخفيه عن أصدقائه هكذا أجل سيحضر من نحبهم…وعلي ذلك النحو الذي ينتظرونه منذ أمد بعيد. علي النحو الذي يجعل أشكالنا وملامحنا ومنحوتاتنا و لوحاتنا وأغانينا أفضل من سابق عهدنا بها. “الصفحة47
استحضار الأمكنة المستلبة:
تقول “عالية ممدوح” في حوار لها في برنامج ثقافة على فرانس 24؛ عن “التانكي” إنه الحيّ الذي سكنته وكان من أجمل وأرقى الأحياء البغدادية؛ لنظافته، ورائحته الزكية المنبعثة من حدائق البيوت، والمكان الذي حملته في حقيبتها وظل لصيقاً بها طوال عقود من المنفى، رغم محاولات بتره وإلغائه، وهي الفكرة الذي ذهب اليها الأديب المغربي “محمد الأشعري” في غلاف الرواية ” إنها أعمق ما كتب عن بتر الأمكنة منا أو بترنا منها حتى يصبح الوطن يمشي وحيداً، ونحن نمشي وحيدين بعيدين عنه ”
وعن الطريق: سردية متشابكة، تستعيده وتعاود ربط خيوط الحنين مع البيوت، جامعة بغداد، الحدائق، والمنتزهات، وشخصية الوالد “أيوب ” في فصل “طوبغرافيا الآسي ” والذي يعتبر ذاكرة المدينة العميقة ولكنها صارت مع التقادم صدئة ومتهرئة جراء نفاذ الصبر وتعاظم الشقاء “أيوب يعرف كيف يرعي روح بغداد أكثر من الجلوس علي المقهى والتأمل في القوانين والتشريعات والحيثيات والسهر والسكر. أنا أرصد ثمالتها وغيابها، وهو يقتفي آثارها بين الماضي والحاضر “الصفحة 80.
“وكان إذ سئل عن حركية الحياة الاجتماعية في هذه المدينة “بغداد”. يستطيع أن يمسك الفرجال والمسطرة وقلم الكوبيا الذي يضعه وراء أذنه، ويرسم أعلام وخرائط بغداد، ويضع معلومات حقب تتجاوز القرون” الصفحة 81
رواية المتاهات و الترميمات :
في وصية “لخورخي لويس بورخيس” يوصي طلبته بترك أي كتاب يشعرهم بالضجر” والتانكي قد تبدو في عدة فصول مملة، أو غير قابلة لتفكيك وربط الأحداث لأنها تتطلب عصفاً ذهنيا من القارئ، وتركيزا عالياً مما يجعلها ترقي لمصاف الروايات الكبيرة من نسق روايات “وليم فوكنر “وفرجينيا ولوف” وجيمس جويس” رغم أنه قد تبدو التيمات المتداولة في الرواية مكررة؛ إلا أنها وظِفت برمزية عالية كرسائل عائلة ” ايوب ال ” الى الطبيب “كارل فالينو” ماهي إلا إسقاطات علي التفكك والاضمحلال الذي طال العراق و العراقيين نتاج حروبٍ طويلة الأمد، والاقتتال الطائفي ومكعب المهندس المعماري “معاذ الالوسي” حبل نجاة يمتد لأيدي جميع أبناء العراق من نسل “جلجامش” واينانا” ليتحدوا ويكونوا يدًا واحدة، لبناء عراق جديد، وغسل العار بتوصيف الكاتبة في أحد حواراتها الصحفية العار الذي لحق بالعراق عبر حقب حتى أوشك علي إغراقها، ولعل أهم ميزة في كتابات “عالية ممدوح” ورواية “التانكي” بالخصوص كونها لا تروج لرسائل تيئيسية؛ بأن وطنها قضي عليه بفعل هذا الخراب الهائل إنما تضع دائما فتحة ضوء تتسرب منها بارقة أمل بأن القادم سيكون أفضل مع مسحة من الكمال و اليوتبيا، وهو ما يذهب اليه الكاتب” فاروق يوسف” في إحدي مقالاته عنها. لتشفي من وجع المنفي وجراحات العراق الممتدة اليها عبر عقود
أسماء جزار: كاتبة من الجزائر.