(من الصعب عليَّ أن أدرك ما هو الشعر بالضبط، لكني أعرفهُ قريبا اليَ كنفسي، جوهرياً كالماء، صديقاً افتقده دائماً، بيتاً ألجأ اليه واهتم بتأثيثه وتجديده. بالنسبة لشكله، هو
خلية أميبية لا شكل معين لها. اما بالنسبة للمضمون فكل شيء يصلح للشعر اذا توفرت المهارة. بقدر تعلق الأمر بي، لا يدعو شعري الى تغيير العالم ولا يحلم بالخلاص مثلاً
ولا ينطق باسم الجماعة ولا يحمّل نفسه مشاق العمل على ابتكار جمل غامضة او كلمات عسيرة الفهم. تشتغل قصائدي بعفوية واعية غير سائبة، على نحو واقعي الى حد ما،
بالاعتماد على أفكار ولكن ليس
على ايديولوجيات. المفارقة هي احدى أهم علامات اسلوبي في الكتابة هي احدى أسرار تحقيق اللذة كذلك. في كل الأحوال، تسعى قصائدي لأن تبدو “باردة” في أقسى المواقف
مكتسبةَ سخونة داخلية أو توتراً داخلياً مثل أحشاء سمكة قبل الصيد بثانية. في نهاية الأمر، الشعر مسألة تجريبية تماماً، فكل قصيدة هي روح جديدة نحاول أن نمنحها الحياة
لأول ولآخر مرة.) …. دنيا ميخائيل وصفوها بالآلهة السومرية وقالوا عنها انها احالت الفضاء الشعري العراقي الجديد الى حلم اميرة غافية على نهر الفرات، ولم يوقظها سوى
تبدل الزمن قي فتنة الأنامل، هناك، ما يتشكل على انه الحوار الأكثر بعدا، حوار شعب بلسان إمرأة تحمل هوية الشعر والحياة، فـعبـر العصور، ذهب الطغاة الى الإنتصار على
كل شيء، إلا حقائق الحياة، ولنقل إلا جوهر الحياة المتجدد، انه الخطاب الأشد خطورة، خطاب وعي تنسجه المعرفة الواعية، الذات الشعرية المتجددة، انها الحياة، في قوة
متأججة ومطــلقة الإتجاهات، وإذا كانت الشاعرة المبدعـة، دنيا ميخائيل، بوعيها الأدبي الذي تلاقح مع دراستها الأكاديمية – للأدب الإنكليزي – حيث الموشور المركب في تلقي
وإصدار المبعث الشعري، تمثل حالة من حالات الإبداع الشامل لجملة شاعرات مجددات، في الوعي الشعري المحدث، وان كن قد ظهرن في فترات متقاربة، فإنهن يقفن على
مسافات متباينة، من حيث النشاط المعرفي الشعري الحقيقي، ومن حيث الإطلالة للمرأة الشاعرة والمصدرة للمخزون المعرفي، وكما تنظر لنا خرائب الأشياء شاعرة الحرف
الوديع الشاعرة، دنيا ميخائيل تنسج الشاعرة العراقية دنيا ميخائيل قصائدها من الثقافة العربية والغربية في آن واحد. ترسم بساطة هذه القصائد وعفويتها والتصاقها بالواقع
منحى جديداً في الشعر الحديث. تتألف مواضعيها من الأحداث المعاصرة التي تعرض لها الشرق الأوسط، ولكنها تبقى في أبعادها مرتبطة بمعاناة الإنسان الفرد والمجتمع.
أغلبها رغم خصوصيته وتأثيره العميق بعيد عن التصنع والمحاباة، إنها قصائد، بكل بساطة، فريدة من نوعها . طفولة الشعر في قصائد دنيا تحيلها الى الانسياب العفوي الذي
امتازت به القصائد، علما ان العفوية ليست سوى اسم اخرَ للطفولة. فهما دالان لمدلول واحد، “لم يكن الشعر في نيتي حين دونت هذا الكتاب” تقول الشاعرة في مقدمة “يوميات
موجة…”، لكن الناشر الامريكي لم يجد شيئا في الكتاب سوى الشعر، فالشعر “فيض تلقائي”. وتلك كانت صفة القصائد بامتياز، لكنها تلقائية تنطوي على عمق وتجربة ورؤيا
ثاقبة. ومع صدور كتابها يوميات موجة خارج البحر بدا الاهتمام واضحاً من خلال نشر منظمة PEN جزءاً منه في موقعها على الانترنيت كما كتب الناقد لورنس ليبرمان
عنه بأنه نص يتدفق بصور شفافة وسينمائية هي علامة فارقة في اسلوب دنيا ميخائيل الذي يتميز بنبرة صافية لايخطئها القاريء.
كتبوا عنها
حسين بن حمزة لو لم تكتب دنيا ميخائيل (1965) إلا ديوانها الثالث «الحرب تعمل بجد» (2001)، لكان ذلك كافياً لبقاء اسمها راسخاً في ذاكرة القارئ، بل إن
القصيدة التي حمل الديوان اسمها كافية وحدها لفعل ذلك. المزاج الوجودي والإنساني الذي بدأ بخفر في باكورتها «مزامير الغياب» (1993)، تطوّر في ديوانها الثاني
«على وشك الموسيقى» (1997)، قبل أن ينضج في ديوانها الأخير. منذ البداية، كتبت دنيا ميخائيل بلغة متخففة من ماضيها المجازي والجمالي. لغة ذاهبة بثقة نحو
إنجاز المعنى الذي تتركز فيه شعرية القصيدة كلها. الدسامة المطلوبة موجودة في فكرة القصيدة الخالية من الإسراف البلاغي. أحياناً نحس أننا نقرأ قصيدة غير عربية، بسبب
فصاحتها المكتومة، وغنائيتها المطوية داخل المعجم اليومي للحياة والواقع. لعل دراسة الشاعرة العراقية للأدب الإنكليزي في بغداد أسهمت في حكّ جملتها مع الشعر الأجنبي،
وصنعت لديها ميلاً إلى لغة تتسم بسيولة سردية وقصصية… لكنها خاضعة لضبط أسلوبي خفي يؤمن التوازن بين تلقائية هذا السرد ومعانيه المستهدفة. ممارسة مماثلة لا بد من
أنّها تعززت بانتقال الشاعرة للعيش في الولايات المتحدة، حيث أكملت دراستها الجامعية، وحظيت أعمالها المترجمة إلى الإنكليزية باهتمام لافت تُوِّج بجوائز عدّة، آخرها «
جائزة الكتاب العربي الأميركي» عن كتابها «يوميات موجة خارج البحر».
تهاني فجر
«ولكن بابا نويل الذي أعرف/ يرتدي بدلة عسكرية/ ويُوزِّع علينا كل عام/ سيوفاً حُمراً/ ودمىً للأيتام/ أطرافاً اصطناعية/ وصوراً للغائبين/ نُعلِّقها على الجدران». بهذا
الأسلوب الذي يتَّخذ الفطرة الطفولية في الطرح، مثيراً الدهشة، تكتب الشاعرة العراقية دنيا ميخائيل كتابها «الحرب تعمل بجد» (دار الغاوون، طبعة ثانية). ثمّة لغة بسيطة
وعميقة خالية من أي فذلكة لغوية، وثمّة إتقان يُخبر عن اشتغال دؤوب على الجملة الشعرية التي تبدو للوهلة الأولى لقارئها سهلة، لكنه السهل الممتنع… الصعب إذا جرّب
أحدنا الكتابة بالأسلوب نفسه، بدءاً من العنوان الذي تُبقيه الشاعرة كما هو، والذي ينطوي على عنف الحرب وقسوتها، حتى بقية الديوان: «الحرب تواصل عملها صباح مساء/
تُلهم طغاة لإلقاء خطب طويلة/ تمنح الجنرلات أوسمة/ والشعراء موضوعاً للكتابة/ تساهم في صناعة الأطراف الاصطناعية/ توفر طعاماً للذباب/ تضيف صفحات إلى كتاب
التاريخ/ تُحقِّق المساواة بين القاتل والقتيل». ثمّة حصار لغوي تفرضه الشاعرة على الحرب التي تهيمن على مجمل الديوان، فكل صور الحرب القاسية وآثارها متوافرة في
الصورة الشعرية لدى ميخائيل، تطرحها بقوَّة مع مسحة محترفة من السخرية والتهكم، وكأني بها تريد إقامة جبهة شعرية ضدَّ الحرب؛ جبهة تُمكِّنها من الانتصار في جميع
أحوال الحرب وأهوالها. وفي وسع القارئ أن يلاحظ، بوضوح، مفردات الحرب وأدواتها ومخلَّفاتها في الكتاب الذي «احتفى» بالقبح، منتهجاً أسلوب الحرب نفسه في
الصَّدْم: حفنة عظام، جمجمة، مقبرة جماعية، أنقاض، أطراف اصطناعية، السجن، الشهيد، الموت، الأيتام، صور الغائبين، البارود، الأزيز… لقد بيَّنت دنيا ميخائيل الملامح
الأبرز للحرب عبر فتح ذاكرتها التي بدت ككتاب دوَّنت فيه الأحداث التي تعنيها أكثر من أي شخص آخر، كونها عراقية عاصرت وعانت أكثر من حرب، فكانت ذاكرة طفلة
تروي القسوة بلغة خالية من أي تعقيد وزوائد، دون إفقار للصورة الشعرية العميقة التي تُفسح المجال واسعاً للوضوح: «يا للحظ!/ عثرتُ أخيراً على عظامه/ جمجمته أيضاً في
الكيس/ الكيس بيدها/ يُشبه بقية الأكياس/ في الأيادي المرتجفة الأخرى/ عظامه تُشبه آلاف العظام/ في المقبرة الجماعية…». كيف للشعر أن يُدوِّن كل هذا الألم الذي تختزله
مثل هذه الصور الشعرية؟ في «الحرب تعمل بجدّ» لا تكترث دنيا ميخائيل بالبلاغة الكلاسيكية، لأن الحديث عن الموت، الذي هو وظيفة الحرب الأولى، يأتي بلا أي زينة
أو أكاليل. كما أن الشاعرة تحتفي بحنين أنطولوجي إلى الوطن، يقف موازياً للحرب، فتنبع النصوص من الذات التي تتقاطع إنسانيتها مع الواقع والحياة بكل تقلّباتها: «غداً يا
حبيبي/ غداً/ سأنظر في عينَيك/ لأرى في التغضُّنات الجديدة/ خطوط أحلامنا القادمة… ». في «الحرب تعمل بجدّ» الشعر يعمل بجدّ أيضاً.
فاضل الخياط
اتذكر حين حصلت على ديوانها الاول ” مزاميرِ الغياب” اوائلَ التسعينيات من بعض الاصدقاء. واذ اتصفح الكتابَ قارئا بعضا من قصائده البرقية الخفيفة قلت لصديقي الذي
سالني عن رايي: “صاحِ، ان في هذا الكتاب شعرا لا يشبه ما تعارفنا عليه من شعر العرب”. ثم غادرت العراق بعدَها بايام لكن اريجَ القصائد بقي حاضرا في ذاكرتي ولم يزل
مقيما فيها لا يبارح. اتذكر حينها ما غمرني من شعور امتنان للبهجة وللدهشة وقوة الحياة التي بعثنها تلك القصائد في روح قارئ يعاني على نحو مزمن من الخمول والكمد
وضعف الحياة. ثمة في الشعر صفاتٌ وطبائع. واذا جاز لنا تصنيف الشعر وفقا للعناصر الاربعة الاساس في الطبيعة فان قصائد دنيا ميخائيل تحمل طبيعة مائية. وهنا لا بد من
توضيح: نعرف عن الماء انه كائن دمث ولطيف ومنعش في حالاته الطبيعية. لكنه ايضا هائج ٌ وعنيف ومدمر في مكمونه. لنقل باصطلاح عِرفاني ان للماء ظاهرا وباطنا.
ظاهرُه الوداعة وباطنه الغليان والعنف الساكن فيه. كذلك الحال في هذه القصائد من حيثُ تحلـّيها بصِفات ظاهرة ٍ وباطنة، فهي ناعمة وديعة كالمخمل في ظاهرها لكن ثائرة
وحادة وبارقة كالسيف في باطنها. هادئة وباردة ٌ على حد تعبير الشاعرة نفسها لكن متوقدة وساخنة، مشاكسة وساخرة بمرارة في ذاتِ الوقت. وتلك هي قوة ُ الماء وسحرهُ
متجلية في كلمات. تقول اميلي ديكنسون” حين اقرا كتابا ويجعلني اشعر بالبرد حيث لا نار يمكن لها ان تدفئني اعرف ان ذلك هو الشعر”. ان هذا لهو الشعور ذاته الذي تملكني
قبل ليلتين وانا اقرا “يوميات موجة خارج البحر”. الم اقل للتو انها قصائد مائية. اما البـِنية التركيبية للقصائد فذاتَ ايقاعين، الاول تعاقبي، تنمو القصيدة فيه مثل “موجات
البحر التي تشبه حيواتنِا ففي اللحظة التي تصل فيها موجة الى نهايتها تكون موجة اخرى قد بدأت توا”*. واحيانا تنمو بايقاع دائري مثل موجة في وسَطِ بحر تكبر شيئا فشيئا
حتى تختفي عن الابصار لكن دون ان تتلاشى نهائيا. فكل موجة في البحر وان كان ينسجها حجر بالغُ الصِغر تخلقُ موجاتٍ متواصلة ً الى ما لانهاية، ونستند في هذا القول الى
علم الفيزياء. وتلك احدى اسباب ِ اليقظة ِ الابدية ِ للبحر. واذ يكادُ ينفرد ” مزامير الغياب” بابنية الموجات الدائرية، تغلب على ” يوميات موجة خارجَ البحر” البنية ُ التعاقبية.
لكن الحركة َ التعاقبية َ الاخيرة َ هذه ليست الا جزءا من الحركة ِ الدائرية ِ منظورا اليها من جهة ٍ وحيدة ٍهي جهة ُ الساحل. فهما في الحقيقة مظهران ِ لحركة ٍ واحدة هي حركة ُ
امواج ِ الماء الدائرية ِ. وليس لاي موجة من حركة اخرى سواها. اما لجهة المناخ فيحضر بقوة في هذا الشعر ما ندعوه عادة بروح الطفولة. واذ يؤكد نيتشة انه تحت جلد كل
شاعر يرقد طفل، فانه من المفارقات اللطيفة ان تعلق ام الشاعرة حين تقرا قصيدة لدنيا لاول مرة بقولها:” ان الاطفال سيحبون هذه القصائد ” ظنا انها قصائد كتبت للاطفال.
من جهتنا، لا نظن ان هنالك فرقا، فما يستهوي الاطفال من الشعر يستهوي الكبار بالضرورة والعكس صحيح. فليس في الشعر تراخيص ولا اجازات ولا قيوداً عمرية.
حاتم محمد الصكر
تذهب الشاعرة العراقية المغتربة دنيا ميخائيل إلى ألف ليلة وليلة أو (الليالي العربية) كما عرفها الغرب؛ لتحوّلها إلى الليالي العراقية، ليس لسمة اللذة أو المتعة، ولكن لغرائبية
الأحداث وقوة الدلالة المتأتية من عجائبية ما يحدث ولا يستطيع سوى منطق الخيال السردي الحر أن يقتنع بإمكان حصوله. ولكن قصائد الليالي العراقية تحيل إلى ذاكرة
متون أخرى أيضاً كمراجع بجانب الليالي المهيمنة على لافتة العنوان هي الألواح السومرية والتراث العراقي القديم: أساطيره وحكاياته وشخوصه وأمكنته. واستدعاء ذلك كله
بجانب المعاناة الشاخصة أو المعاصرة يهب نصوص دنيا ميخائيل الأخيرة تنوعا لم تعرفه قصائد ديوانها (الحرب تعمل بجدّ).. المكرس لفجائعية الحرب وتفاصيلها وتداعياتها.
هنا حياة مترامية الأطراف تشد حبال أرجوحتها أخيلة ممتدة من أميركا، حيث تقيم وتعيش، لبغداد حيث حياتها المستمرة منذ ولادتها ..
ولدت دنيا ميخائيل في بغداد سنة 1965 حصلت على بكالوريوس أدب انكليزي من جامعة بغداد ، كلية الآداب، وماجستير آداب شرقية من جامعة ” وين ستيت” الأمريكية.
تعيش حاليا في ولاية ميشغان حيث تدرّس لغة عربية في مدرسة ابتدائية. نالت جائزة حقوق الانسان في حرية الكتابة من الأمم المتحدة ، 2001 أعمالها المنشورة: “مزامير
الغياب” (دار الأديب البغدادية ، بغداد ، 1993)، “يوميات موجة خارج البحر” (دار الشؤون الثقافية، بغداد، 1995 ). هناك طبعة ثانية، صدرت عن دار عشتار (القاهرة ،
2000)، “على وشك الموسيقى” (دار نقوش عربية، تونس، 1997) و”الحرب تعمل بجد” (دار المدى، دمشق، 2001).. لقد حصلت دنيا ميخائيل على عدة جوائز منها
جائزة حقوق الانسان في حرية الكتابة من الامم المتحدة عام ٢٠٠١ ، وجائزة PEN للشعر المترجم عام ٢٠٠٤ ، و رشح كتابها (الحرب تعمل بجد) الى جائزة غريفن
للشعر عام ٢٠٠٦
الحرب تعمل بجد كم هي مجدّةٌ الحرب ونشطة وبارعة! منذ الصباح الباكر تبعثُ سيارات إسعاف إلى مختلف الأمكنة تؤرجح جثثاً في الهواء تزحلق نقالات إلى الجرحى
تستدعي مطراً من عيون الأمهات تحفُر في التراب تُخرج أشياء كثيرة من تحت الأنقاض أشياء جامدة براقة وأخرى باهتة ما زالت تنبض تأتي بالمزيد من الأسئلة إلى أذهان
الأطفال تسلّي الآلهة بإطلاق صواريخ وألعاب نارية في السماء تزرعُ الألغامَ في الحقول تحصدُ ثقوباً وفقاعات تدفعُ عوائلَ إلى الهجرة تقفُ مع رجال الدين وهم يشتمون
الشيطان (المسكين يدهُ مازالت في النار تؤلمهُ) الحربُ تواصلُ عملها صباح مساء تُلهمُ طغاةً لإلقاء خطب طويلة تمنحُ الجنرالات أوسمةً والشعراءَ موضوعاً للكتابة تساهمُ في
صناعة الأطراف الإصطناعية توّفُر طعاماً للذباب تضيفُ صفحات إلى كتاب التاريخ تحققُ المساواة بين القاتل والقتيل تعلّمُ العشاقَ كتابة الرسائل تدرّبُ الفتيات على الانتظار
تملاٌ الجرائد بالمواضيع والصور تشيّدُ دوراً جديدة لليتامى تنشّطُ صانعي التوابيت تربتُ على أكتاف حفاري القبور ترسمُ ابتسامةً على وجه القائد إنها تعملُ بجد لا مثيل له
ومع هذا لا أحد يمتدحها بكلمة .
في العراق بعد الف سنة وسنة شخص سيتحدث الى شخص اخر اسواق ستكون مفتوحة لزبائن عاديين شابات ستتمشى في الشوارع ولا احد يختطفهن
الطائرة بعد ساعة من التأجيل أقلعت الطائرة بركابها المشغولين المضيفةُ لن تبتسم الطالبُ لن يقرأ الرسالة الممثلة لن تقوم بدور الأميرة رجل الأعمال لن يحضر الاجتماع
الزوجُ لن يرى زوجته المدرسّةُ لن تضع نظاراتها خريجة الجامعة لن تتسلم عملها الجديد العاشقُ لن يحتفل بعيد ميلادها المحامي لن يدافع عن الموّكل المتقاعدُ لن يكون هناك
الطفلةُ لن تسأل المزيد من الأسئلة الطائرة لن تحط. من ديوان ” الحرب تعمل بجد” أمريكا لا تسأليني رجاء ،أمريكا لا أذكر في أي شارع أو مع مَن أو تحت أية نجمة لا
تسأليني لا أذكر لون الناس ولا تواقيعهم لا أذكر إذا كانت لديهم وجوهنا وأحلامنا إذا كانوا يغنون أولا يغنون يكتبون من اليسار أو اليمين أو لا يكتبون ينامون في البيوت أو
على الأرصفة أو في المطارات يمارسون الجنس أو لا يمارسون لا تسأليني رجاء، أمريكا لا أذكر أسماءهم ولا أماكن ولادتهم الناس حشائش تولد في كل مكان يا أميركا لا
تسأليني … لا أذكر كم كانت الساعة ولا تحت أي طقس أو لغة أو عََلَم لا تسأليني لا أذكر كم ساروا تحت الشمس وكم ماتوا لا أذكر شكل القوارب أو عدد المحطات … كم
حقيبة حملوا أو تركوا جاؤوا بتذمرات أو بلا تذمرات كفي عن السؤال يا أميركا وأعطي يدك إلى المتعببين في الضفة الأخرى أعطي يدك دونما سؤال أو قوائم انتظار فما
جدوى أن تربحي العالم وتخسري الروح يا أميركا؟ مَن قال إن السماء تخسر كل نجومها إذا مضى الليل دونما جواب؟ اتركي استماراتك للنهر اتركيني لحبيبي يا أميركا
مضى وقت طويل ونحن نتموج ضفتين بعيدتين والنهر بيننا يتقلب “مثل سمكة ناضجة” مضى زمن طويل يا أميركا (أطوال من حكايات جدتي في المساء) نحن ننتظر الإشارة
لنرمي المحارة في النهر ندري أن النهر مليء بالمحار ولا تعنيه هذه المحارة الأخيرة ولكن المحارة يعنيها ذلك فلماذا تطرحين كل هذه الأسئلة؟ تريدين بصمات أصابعنا بكل
اللغات وأنا كبرت صرتُ أكبر من أبي كان يقول لي في الأمسيات التي بلا قطار: سنذهبُ يوماً الى أميركا سنذهب يوماً ونغني أغنية مترجمة أو غير مترجَمة عند تمثال
الحرية… والآن يا أميركا الآن أتيتكِ بلا أبي فالموتى ينضجون قبل التين لكنهم لا يكبرون يا أميركا يأتون ظلاً وضوءاً بالتناوب في منامنا أو مع الشهب أو يتقوسون قزحاً فوق
البيوت التي تركناها هناك ويزعلون أحياناً لأننا نتأخر عليهم قليلاً… كم الساعةالآن؟ أخشى أن يصلني بريدُك المسجل يا أمريكا في هذي الساعة التي لم تعد تصلح لشيء
فأداعبُ الحرية قطً أليفة ولا أدري ما أفعل بها في هذي الساعة التي لم تعد تصلح لشيء… وحبيبي الذي هناك عند الضفة الأخرى من النهر يحملُ لي زهرة وأنا – كما
تعرفون- لا أحب الأزهار الذابلة حب خط حبيبي يشرقُ كل يوم في البريد أنتشله من بين إعلانات تجارية وعروض خاصة بأن: ” اشترِ واحداً وخذ الأخر مجاناً” وخبر
مستعجل بانك ستربح مليون دولار إذا اشتركتَ في هذه المجلة وفواتير الحساب للدفع بالتقسيط أحبُ خطَ حبيبي ولو يزدادُ ارتعاشاً كل يوم عندنا صورة واحدة صورة واحدة
فقط يا أميركا أريدُها أريدُ تلك اللحظة الهاربة أبدا في الصورة أعرفها من جميع الزوايا اللحظة الدائرية ذات السماء تصوري يا أميركا أن يخرجَ أحدُنا من الصورة ويتركَ
الألبومَ مزدحما بالوحدة أو أن تصبح الحياة كاميرا بلا أفلام تصوري يا أميركا! بلا إطار ستأخذنا الليالي غدا يا حبيبي غدا تأخذنا الليالي بلا إطار فنوقظ المتاحفَ من نومها إلى
الأبد نصلح ساعاتنا العاطلة وندق في الساحات العامة كلما فات القطار غدا يا حبيبي غدا نزهر ورقتين لشجرة نحاول الاّ نصبح خضرتَها وحين نتهاوى متراقصين ستأخذنا
الريح إلى الأمكنة التي سننسى أسماءَها نشعر بالسعادة من أجل السلاحف لأنها تمضي في طريقها… غدا يا حبيبي غدا سأنظر في عينيك لأرى في التغضنات الجديدة خطوط
احلامنا القادمة وحينما تضفر شعري الرمادي تحت مطر أوشمسٍ أوقمرٍ ستعرفُ كل شعرة أن لا شيءَ يحدث مرتين كل قبلة بلد لها تاريخ وجغرافية ولغة وفرح وحزن وغزو
وخرائب وأعياد وساعة تدق.. وحينما يعاودكَ ألمُ الرقبة يا حبيبي لن تملك وقتا للتأوه ولن تبالي سيثبت فينا الألم ويتدلل مثل ثلج لا يذوب غدا يا حبيبي غدا سيرنُّ في
الصندوق الخشبي خاتمان طالما التمعا في يدين مرتجفتين من تشابك في الغياب غدا سيعلن الابيض عن ألوانه كلها فنحتفل بما كان ضائعا أو مختفيا في البياض من أين لي أن
أعرف يا أميركا أي الألوان كان أكثر أبتهاجا أو صخبا أو غربة أو تفاعلا مع باقي الألوان؟ من أين لي أن أعرف يا أميركا بابا نويل بلحيته الطويلة كالحرب وبزته الحمراء
كالتاريخ وقف بابا نويل مبتسماً وسالني أن أطلب شيئاً أنتِ فتاة طيبة؛ قال لذلك تستحقين لعبة ثم أعطاني شيئاً يشبه الشعر ولأنني ترددتُ… طمأنني: لا تخافي يا صغيرتي أنا
بابا نويل أوزع الجمالات للأطفال ألم تريني من قبل؟ قلتُ: ولكن بابا نويل الذي اعرف يرتدي بدلة عسكرية ويوزع علينا كل عام سيوفاً حمراً ودمى للأيتام وأطرفاً اصطناعية
وصوراً للغائبين نعلقها على الجدران
بعد الف سنة وسنة شخص سيتحدث الى شخص اخر اسواق ستكون مفتوحة لزبائن عاديين شابات ستتمشى في الشوارع ولا احد يختطفهن ان هذا النص مثال جيد على
اقتناص لقطة تولد مالانهاية من الصور الشعرية، اي ان دنيا بامكانها الاسترسال لتسجيل اضعاف ما ذكرته عبر مفارقة بساطة الاماني وتأجيل تحققها كل تلك الاعوام،
http://maakom.com/site/article/3512