جمهورية من الأصوات الشجية

عالية ممدوح

1
لتسمح لي جميع الأصوات العربية الخليجية والأفريقية والاسيوية فأنا لم أغادر عصر محمد عبد الوهاب، فلا يزال صوته وحتى اللحظة يستقر بين الضلوع، إلى أن سمعت قبل فترة شهور قليلة برنامجا من احدى الفضائيات العربية. كانت الساعة تشير إلى الثانية صباحا وكان الصوت المفاجأة، فأنا لم اسمعه من قبل، ولا أعرف من هو. أجل، هذا صحيح وبدون مبالغة، ولست هنا بصدد الدفاع عن جهلي أو الاستمتاع به إلا بالإصغاء إليه بصورة ناجزة. لم أغلق عيني كما أفعل مع بعض الأصوات للنساء والرجال سويا. الفنان أمامي، أنظر إليه بكل عيني. آه، أردد ؛ هو أجمل من بطل روايتي التي أشتغل عليها. بدين، كلا، هو منذور للبدانة لكنه لا يبعث على الاستياء أو الضيق، ولم يتصنع أن يكون أريحيا لطيفا. به خفر داخلي حتى قبل بدء الغناء، لكن ما أن ابتدأ وأطلق شحنته الأولى حتى توقفت عن التنفس للحظات. كان سخاء الجمال يتجسد في الهارموني الرقيق ما بين طول وعمق وفتنة المساحات الصوتية التي يتحرك وسطها وعبرها هذا الصوت، فأتابعه وهو يتوقف، يتنفس ويجيب على بعض الأسئلة اللئيمة، كأن ؛ هل أنت مغرور؟ آه، تماما، عليه أن يكون مغرورا من اليوم إلى ان يفعل الله ما يشاء. هو شاب، لا يزال في السابعة والعشرين، احتفل بعيد ميلاده قبل شهور في إحدى الدول الأوربية، هكذا قرأت. لكن، يبدو، انه عاش قرنا حاشدا بكل شيء. هذه أيام مجد هذا الصوت.

2
نعم، لم اسمعه من قبل. ومن أين لي سماعه؟ سيتضايق الذين يغرمون بصوته لكني ما عدت معنية بكل هذا. والآن، ماذا سأفعل بكل هذا الجمال؟ فالجمال الكثير يضلل ويعرّض للخطر. حسنا، علي الاستعانة بالصديقات والأصدقاء المتناثرين في المعمورة. أرسلت رسالة الكترونية للصديق الروائي الكويتي طالب الرفاعي، أجابني، انه في الولايات المتحدة وحين وإلى حين إلخ. ثم مرت الصديقة الجميلة الكاتبة الكويتية فوزية الشويش بباريس في الشهر الماضي، فقلت لها بالحرف : أريد جميع ما لدى هذا الوحش الخطير المدعو حسين الجسمي. ولكن ماذا سأفعل ما بين الذهاب والإياب؟ ما بين البريد القادم من هناك ورقم العمارة والبريد المسجل؟ فذهبت إلى بعض المواقع بعدما دلني عليها الرفاعي، فشاهدت وسمعت الكثير، لكن، هذا غير كافٍ. تصغي ثم تكرر ثم بعد دقائق عليك بالتتمة. ما هذا العمل الشاق؟ هو عمل لا يلبي النداء. يبدد السحر ويبعثر الانتظار، والحال هذا لا يلائمني قط. علي أن أتسلم مفاتيح هذا الصوت لساعات وساعات دون الإتيان بفعل آخر، ودون التفوه بكلمة واحدة.

3
صديقتي الدكتورة وفاء قاسم سألتني : سوف أغادر للقاهرة فماذا سأجلب لك من هناك؟ وحين ذكرت لها الاسم قالت بدهشة : منء؟ من هذا الذي تطلبين سماعه؟ هل أنت متأكدة من لفظ الاسم الخ؟ ياللسرور الجميل ؛ صار لجهلي قرين آخر. يا عيني على الوفاء، وقبل أن تغادر للقاهرة وفي إحدى النزهات النهارية في الأسواق الشعبية المكتظة بالعرب والأفارقة والهنود، هناك عثرت لي على شريطين للجسمي فهتفت بالجوال كأنها عثرت على الكنز المفقود وقالت كيت وكذا، ثم أضافت بمرح : هذه مجرد تصبيره كما نقول بالمصرية. قبل سنين كتبت عن الفنانة ليلى مراد وبعد وفاتها مباشرة : كانت غلة صوتها وفيرة على ضوع الرياحين ورائحة الحقول البرية وأعشاب متنوعة ونباتات متسلقة شاهقة تريد الوصول إلى السماء. الصوت الذي أغرم به يشيلني من جميع الأمكنة التي مررت بها من قبل فأشعر أنني أسلم قيادة الروح إلى نهاية النشوة.

4
كأنني كتبت عن الجسمي في روايتي الجديدة. كيف نحصل على ما لا نتوقعه قط، فألاحظ ان هذا الفنان هو الآخر ينتشر ما بين السرد والشخصيات وسلاميات يدي ويصل للمرتبة العليا فهو يمتلك سلطة في صوته تتوفر على عنصر الحياة المضاعفة. جميع الأصوات الباهرة العربية والعالمية تمتلك حيوات عدة في حبالها الصوتية وتلافيف نسيجها السنجابي الذي يحيط الدماغ.عبد الوهاب كان يمتلك تلك الارواح المتعددة، والجسمي، في كل أغنية اسمعها هو شخص آخر. حين ينشد للخالق والعدالة، للوجود وحكمة القبول بالتنحي للغير، أو حين يقرر، إذا ما قرر، ان يبدأ هو بالخيانة. تبدو كلمات الأغاني في بعض الأحيان جميلة وقوية ثم تشحب وتبهت حينا آخر. لكن الألحان بالعموم، ذات الإيقاعات الخليجية بها سيولة وسخونة وحركات من الرقص الذي لا يمكن إطفاؤه إلا بالمزيد منه.

5
الجسمي، جمهورية من الأصوات الشجية. صوت يقترح عليك الكثير من خيانة ما سمعت من أصوات. فلأكن أكثر دقة، أخاف أن تتزحزح أمكنة محمد عبده ومحمد الحلو وبوشناق، هؤلاء الشغوفة بشجنهم وقوتهم الصوتية. للجسمي صوت يطفح ولا تنطبق عليه احتياطات الكلام العادي : كأن تقول : أي صوته حلو. كلا، صوته يتصاعد ويتطور في الأغنية الواحدة وليس ما بين أغنية وأخرى. لم اسمع أغنية تشبه الثانية. من المؤكد أن يغني للحب والترك، ذاك الحب الذي لا سبيل إلا الوقوع به. حب ليس له بداية ولا ندري ما هي النهاية فهو حب مستمر كالنهر الجاري، موجود تحت تصرفنا، فيدعنا نتصور ونحن نغلق باب البيت خارجين للشارع العام سوف نصادفه ونقع صرعى له. لم أثق بسنه قط، فقلت لإقبال صديقتي في برلين : سوف أرسل إليك بعضا من كنوزه فقد جلبت لي وفاء مجموعة ووصلتني من فوزية مجموعة وها أنا مكتظة بهذا الذي يشبه آلة حربية، خاضت حروب الصوت والموسيقى والسرعة المطلقة بنجومية فائرة قد لا يوفرها إلا جهاز دولة. يشبه الجسمي بعض الحكماء الهادئين الورعين باختيار مفردات أغانيه، والثقة بصوته طبخت على نار لامتناهية من البطء. ترى، أسال، متى ظهر هذا الصوت الذي أطلقت عليه لقب : الحوت أو القرش أو أي شيء له علاقة بالمحيطات والبحار العظيمة. وها أنا أصغي له وأدون هذه السطور وأشعر بالعمق الفائض. إنه يفيض على ما حوله وما يجاوره كأنه على وشك الانفجار. بغتة، وأنا أذهب لتغيير السي دي، أنظر إلى إحدى صوره على الغلاف، لا أدري، لم شعرت أنه إنسان وحيد. ليس له أصدقاء لكنه مع هذا غير هياب للأمر.

الخميس 2من ذي القعدة 1427هـ – 23نوفمبر 2006م – العدد 14031
https://www.alriyadh.com/203680