ثلاث دقائق في البحرين

عالية ممدوح

1-
في كثير من الأحيان أردد، لا أعرف، لا أقدر على الاحتمال. أتأرجح بين البحر الأول وأقول نعم، إنني هنا والمدينة بأكملها أمامي. من الجو تفاوضني زرقة البحر فأدخل البحر الثاني. كيف تحتمل بحرا واحدا من السخاء واللطافة والأريحية ولا تهزم مفرداتك فتصير غير قادر على تنظيم مشاعرك وأنت تقف وسط بحرين. أريد الخروج من طاعة المديح فجميع من التقيت بهم وأول مرة ما عدا الصديق الشاعر قاسم حداد، وبدءا من الشيخة الجميلة مي آل خليفة، والصديق العزيز الدكتور حسن مدن ولتلك الأسماء التي سوف تتكرر وهي هي وأكثر. آه، ما أجملهم جميعا ونحن نلتقي في الغرف والممرات والمطاعم والجادات والندوات العابقة برائحة ورد وصندل ومحبة عريقة. لا نتعارف خلسة أو وراء ستارة، ولا نلاحظ دقة التوقيت في حركة نبض القلب. هذه مدينة تنفث البهجة في الروح منذ الصباح الباكر وإلى منتصف الليل فتعرفي انك من أهلها. إنت راضية بهذا الولاء. أنت تعرفين جميع من التقيت بهم وأول مرة، وأنت التي تقومين برفقتهم إليك ما بين الشمس والقمر. لم أحسب أعدادهم وفي وقت واحد كنت أسير في أثرهم.

2-
تأثرت بصورة جارفة بالتقديم الذي كتبته الشاعرة الفلسطنية / الاردنية رانه نزال وهي تقدمني لجمهور (قليل) لكنه نادر، فتي وعابق بالإلهام. حين وقفت شابة جميلة وأقتربت بعد القاء المحاضرة قائلة:
لقد حضرت من مدينة الرياض من أجلك. ابتسمت وأضافت وهي ترفع روايتي بيدها:
نحن ثلاث عوائل بأولادنا حضرنا لنتعرف إليك.
أية قوة يمنحها الآخر للمؤلفة لكي تسرد وتدون وتقول وبحياء شديد ؛ حسنا، في النهاية حضرت أحداهن وأمسكت الخيط معك وها أنت تشعرين بشيء من السلوى. أدهشتني حصافة وذكاء ودقة أراء تلك السيدة السعودية وهي تتحدث عن حوار الأديان والحضارات في رواية المحبوبات. كانت تمتلك قدرة على التحليل العميق والرحابة التي تفيض على من حولها، أولهم أنت.

3-
الكاتبة لا تعرف سحنات من يقرأون لها. إننا نتعلم من اولئك وهؤلاء الكثير عن دواخلنا وأعمالنا، عن اللغة ونمو الشخصيات، عن أعراض غيرنا فينا فنمضي إليهم بصورة بعيدة عن التصديق.
بين الجسر الرابط الذي يصل جزيرة المحرق بالمنامة العاصمة قلت لأبي خليل وهو يقف بانتظاري في المطار:
ترى كم يبعد الفندق عن المطار؟
ثلاث دقائق في الليل، وربما أكثر قليلا في الظهيرة.
بالضبط، هذه هي الفترة الزمنية التي أستأنفت فيها وجودي بالبحرين. كأنني عشت هنا منذ مقتبل العمر ومن فرط التواد سلمت القلب لسفر الحب الطويل الطويل وبعد ثلاث دقائق فقط.

4-
هيابة ونفورة من الكتابة عن أي مسؤول من النساء والرجال. هو أمر يجعلني أشعر باللعثمة فأتجنبه تطيرا وخشية. هنا يجوز لي إعلان اعجابي بتلك الدرجة من العزيمة والمثابرة و(الحنية) التي تتحلى بها الشيخة مي آل خليفة وها أنا أدون ذلك عنها كصديقة من طراز نفيس. والصديقة ازميرنادا قباني المستشارة الإعلامية لمركز الفنون وهي تمسك بيدي ومنذ اليوم الأول لوصولي البحرين وهي تلبي النداء، ندائي ونحن نشاهد ذلك الجانب الفاتن الذي أعيد تشكيله وترميمه واعادة صياغته من بيوت ذات عراقة لا تتصور فاستجابت وبعد سنوات من الأشغال لشروط حداثة راقية يفوح ضوع مفرداتها بأحياء روح الأجداد والآباء بدءا مما نستطيع اقتسامه مع أولئك الأحفاد وهم يدونون ويعيدون كتابة ما مضى من دون ترديد تلك الكلمات المأثورة بالتبجيل والوفاء بشيء من الخفر والحياء الجميلين.

5-
لا أؤمن بالحظ قط لكنني اهجس في اغلب الأحيان أنني محظوظة بطريقة شديدة البساطة، الربيع مثلا كان ينتظرني في بهو استقبال فندق شديد الرفاهية. قلت لروحي، حسنا، تستحق الكاتبة الشيء اليسير من ذلك الترف ولو لأيام معدودات. حشريتي دائما في أوجها وأنا اكتشف الاوراق والتعليمات والاقلام والهاتف والاضاءة، على الخصوص تلك الموجودة قرب الرأس. جميع الغرف في فنادق الدرجات الراقية تحتوي على وصل بالانترنيت، ضحكت وقلت، حسنا فلتسرتح عيناي من وهج الشاشة والبريد ومجازر الأمريكان. الطريف فعلا أني عثرت على قائمة بأنواع وأسماء الوسائد التي يحتاجها المرء. فاذا كنت تعاني من أوجاع في الرقبة والعمود الفقري وآلام الاذنين الخ فما عليك الا بطلب النوعية الملائمة لاوضاعك الصحية، تكتب ذلك وتتركه فوق سطح سريرك وأنت ذاهب للخارج. الأمر الشديد الأهمية هي الخدمات الصاعقة ولجميع طلباتك وهي قليلة جدا، فما أن تغلق الهاتف وخلال ثوان يرن الجرس فتشاهد أمامك شابا من الشرق الأقصى يبتسم بأدب ويقدم ما طلبت بتهذيب جم.

6-
يا قاسم حداد، نحن الذين بحاجة إلى تضامنك أنت الخ. هكذا كتبت له وأنا أقرأ عن تلك اليوميات العاصفة التي أثارت دويا قل نظيره وإلى اليوم الذي غادرت حيث احتشد الكتاب والإعلاميون والادباء والرسامون في قاعة فندق الخليج التي امتلأت إلى آخرها تأييدا وتضامنا للشعر بشخص حداد وللموسيقي الفنان مارسيل خليفة، للفن والقصيدة التي تقول الحب ضد غلظة الحياة والبشاعة والغباوة. بلد صغير حين وصلت الطائرة إلى ضفافه ظهر كنقطة في الخارطة لكنه شاسع رحب، مضاء ثري ببشره من الاصدقاء الفنانين، عباس وعبدالجبار والكاتب البديع علي الديري والإعلامي صاحب الحنجرة القوية والصوت الآخاذ حسن كمال والصديقات شرف وبيان البراك العراقية وصاحبة أحد أهم الأمكنة في البحرين لعروض الفنانات والفنانين التشكيلين ومن جميع المدارس والجنسيات… و..
وجدت ورقة معلقة فوق باب شقتي وأنا أعود من رحلتي تقول:
إنني تسببت باضرار فادحة في محتويات أحدى غرف جاري في المخرن أو السرداب الأرضي الذي نخزن فيه عادة متروكات لا نحتاجها في الوقت الحاضر. أول ما فتحت الباب علقت بالمياه التي شاهدتها تسيل في أرضية مطبخي الذي يشبه الكشتبان. تعوذت من الشيطان الرجيم وشمرت عن ساعدي واكتشفت سر أو سحر الماء. آه، الماء له ألفة معي فأنا عائدة من بحرين وها أنا يا دوب أغرق في أشبار من مياه غير عذبة. فما أن بدأت التأفف حتى شعرت أن أحد أسناني قد كسر وسقط في فمي. أشعلت المصابيح جميعا وأنا أشاهد نفسي بالمرآة مرددة بصوت ضاحك وساخر وممرور:
ها إنني أستكمل زينتي وأكمل طلاء حياتي بالحظ الوفير والطالع الحسن، اللهم بلا تحاسد.. و..

الخميس 28جمادى الأولى 1428هـ – 14يونيو 2007م – العدد 14234
https://www.alriyadh.com/256947